لقد كشف إقدام النظام السّعودي على إعدام الشّيخ نمر باقر النّمر عن أزمة في العلاقة بين مختلف الأقليّات المذهبيّة، وخصوصاً الأقليّة الشيعيّة من جهة، والنظام السّعودي من جهة أخرى. قد يصحّ القول إن أزمة العلاقة هذه تتجاوز أزمة نظام مع أقليّات إلى أزمة نظام مع شعب، حيث ان المعادلة القائمة ليست معادلة دولة- مواطن، وإنّما هي معادلة نظام تملّك ورعيّة مملوكة، حيث لا حريّات مدنيّة، ولا حقوق مواطنيّة، ولا دور سياسياً للشّعب، ولا ديموقراطيّة تفضي إلى تكوين السّلطة وتداولها، ولا مؤسّسات تقوم بدور المراقبة والمحاسبة...
لكن ما هو صحيح أيضاً، أن أزمة العلاقة مع الأقليّات المذهبيّة، وخصوصاً الشيعيّة منها، هي أزمة مضاعفة وأشدّ تعقيداً، لأنّه فضلاً عن ذلك البعد العام في أزمة العلاقة بين النّظام والشّعب، يوجد هنا بعد آخر هو أشدّ خطورة وأكثر تأزيماً، وهو يتمثّل بتلك الثّقافة التي تستوطن عقل النّظام وهي ثقافة الاضطهاد والتّهميش والتّمييز، والتي تتبدّى جليّة في مختلف سياساته تجاه تلك الأقليّات سواء على مستوى المشاركة السياسيّة وغيرها، أو على مستوى سياسات التّوظيف، أو على مستوى الخطاب الإعلامي العامّ، أو المناهج التعليميّة، أو خطاب المؤسّسة الدينيّة - التي هي جزء من النّظام- والتي تصنّف المسلمين الشّيعة مثلاً، على أنّهم مشركون ومرتدّون وروافض... فضلاً عن ممارسات الإرهاب النّفسي والفكري والاجتماعي الذي يمارس بحقّهم، وصولاً إلى سياسات القمع والملاحقات الأمنيّة...
لعلّه كان ممكناً للأقليّات المذهبيّة في المملكة السعوديّة أن تتعايش مع الواقع القائم، لولا أنّها تعيش معاناة مزمنة بسبب تلك السّياسات المفرطة في التّهميش والتّمييز والإقصاء، لكن استمرار تلك السّياسات من جهة، ووصول تلك الأقليّات إلى حالة من اليأس المتراكم من حصول أي إصلاح جدّي من قبل النّظام السّعودي لسياساته تلك من جهة أخرى، قد أدّى إلى ارتفاع وتيرة الاعتراض، والمطالبة بالإصلاح والحقوق والحريّات...
قد يدرك النظام، ولو
متأخّراً، أنّ ما فقده بجريمته
أكثر ممّا ربحه

ومن هنا يمكن القول ان ظاهرة الشّيخ النّمر لا تمثّل استثناءً في ذلك الاجتماع الأقلوي وتوجّهاته، وإنّما هي تعبير عن رأي عام وقناعة راسخة لدى تلك الأقليّات وفئاتها، بأن تحقيق الإصلاح وإلغاء سياسات التّهميش والتّمييز، والحصول على الحريّات المدنيّة؛ لا ينال بالرّكون إلى وعود السّلطة أو مداهنتها، إنّما يحصل من خلال حراك شعبي قويّ وفاعل، وممارسة مختلف الضّغوط، لإرغام السّلطة على الإعتراف بتلك الحقوق كاملة، والاستجابة لتلك المطالب.
ولا يبدو أنّ هذه القناعة سوف تضعف، أو أنّ حركة الاعتراض تلك سوف تخفت، والسّبب في ذلك لا يقتصر على أنّ جريمة الإعدام تلك قد استفزّت مشاعر الأقليّة الشّيعيّة، أو أنّها قضت على أيّ أمل لهم بحصول أيّ تغيير في نظرة النّظام وسلوكه تجاههم، أو أنّها أعدمت أيّ ثقة لديهم بهذا النّظام، ووعوده المتكرّرة بمعالجة تلك الأوضاع... وإنّما يتّصل أيضاً بأن تلك الجريمة قد أعدمت أيضاً أيّ بقيّة من شرعيّة أخلاقيّة أو إنسانيّة كان يعمل على تظهيرها لهذا النّظام وادّعائها له.
إنّ إعدام الشّيخ النّمر قد عرّى النّظام السّعودي من أيّ شرعيّة أخلاقيّة مدّعاة، وفضح هذا النّظام، وكشف عن حقيقته، وحقيقة نظرته إلى الأقليّات المذهبيّة وخصوصاً الأقليّة الشّيعيّة. ولقد أفصح ما حصل عن أن تلك الثّقافة تمخر في عقل ذلك النّظام حتّى اللبّ، وأنّه يجمع بالإضافة إلى بداوته وتقليديّته واستعصائه على أيّ حداثة سياسيّة واجتماعيّة؛ ثقافة سياسيّة مسكونة بالإثرة والعنصريّة، والجنوح إلى ممارسة العنف بشكل مفرطٍ وغير قانوني.
إنّ إعدام الشّيخ الشّهيد سوف يؤدّي إلى توصيد الأقليّة الشّيعيّة على لا أخلاقيّة النّظام وافتقاده إلى أيّ بعدٍ إنساني أو أخلاقي في تعامله مع تلك الأقليّات، إنّ ذلك الإعدام قد أعدم أيّ فرصة للحوار أو التّفاهم، أو جدوائيّة التّهدئة في علاج أزمة العلاقة مع الأقليّة الشيعيّة، حيث لن تستطيع أيّة جهة بعد تلك الجريمة أن تدافع عن أيّة فضيلة في ذلك النّظام بما فيها فضيلة الحوار وموائدة السّابقة، التي كشف الإعدام زيفها.
إنّ ما حصل بجريمة الإعدام هو أنّ الشّيخ الشّهيد قد تحوّل من صوتٍ إلى رمز، ومن شخصٍ إلى قضيّة، ولدى طائفة تملك مدرسة عريقة تقاليدها في تحويل القتل إلى شهادة، والمظلوميّة إلى قوّة، والإيغال في الظّلم إلى مزيد من الإصرار على الإصلاح، وتحصيل الحقوق المواطنيّة، والحريّات المدنيّة وحفظ الكرامة. خصوصاً أنّ فعلة النّظام تلك قد جرحت لدى تلك الطّائفة كرامتها، وشعورها بتلك الكرامة. بل إنّ تاريخاً من سياسات التّهميش والإقصاء لم يحدث في الوعي الجمعي لدى أبناء تلك الأقليّات أي شعور بالكرامة الإنسانيّة أو الوطنيّة، لأنّ الثّقافة السّياسيّة الحاكمة، تنظر إليهم كأعداء محتملين، وليس كمواطنين ولو مع اختلاف الدّرجات.
لعلّ النّظام السعودي لم يلتفت إلى أنّ قدرة أيّ نظام على الاستمرار تقوم على عناصر، منها شرعيّته السياسيّة والأخلاقيّة، وإذا كانت الشرعيّة السياسيّة للنّظام هي شرعيّة هشّة لقيامها على التّغلّب وافتقاد المشاركة الشعبيّة، فإنّ ما فعله ذلك النّظام بإعدامه للشّيخ النّمر، هو أنّه قد هشّم أيّ دعوى تدعم شرعيّته الأخلاقيّة، وخصوصاً لدى تلك الأقليّات المذهبيّة. وإذا كان النّظام يعوّل على الفائض المالي وقوّة التّغلّب في استمراره، فهذه العوامل قد تكون مؤثّرة، لكنّها بلا شكّ مؤقّتة، وتحمل نقيضها في أحشائها.
قد يدرك النّظام ولو متأخّراً أنّ ما فقده بجريمته أكثر ممّا ربحه، وأنّ ما كسبته المعارضة سوف يكون أفضل لقضيّتها، حيث إنّ ما بعد الشّهيد النّمر ليس كما قبله، وأنّه بعد جريمة الإعدام، لم يعد بالإمكان التّراجع، أو التّهاون في أيّ من تلك المطالب، التي قضى الشّيخ الشهيد من أجلها.
* أستاذ جامعي