يميل عدد من المتابعين المهتمين إلى التقليل من احتمال إقامة «منطقة آمنة» أو منطقة «حظر جوي» على الحدود التركية السورية خصوصاً. يتذرع هؤلاء بالرفض الأميركي للتورط بحرب برية وبالاكتفاء بالقصف الجوي الذي جرى اقراره وتنفيذه في كل من العراق وسوريا، من قبل القوات الاميركية وبعض شركائها في «تحالف جده»، منذ أكثر من شهرين.

يفترض هؤلاء المتابعون أنّه حتى لو قررت واشنطن وحلفاؤها إقامة منطقة حظر جوي أي «منطقة عازلة»، فهي ستصطدم بالموقف الرافض لذلك من قبل كل من روسيا والصين، الأمر الذي من شأنه تعطيل مثل هذا القرار الذي يشترط تنفيذه تأمين غطاء شرعي له من قبل مجلس الامن الدولي.
بدءاً يجب التذكير أنّ مثل هذا الاحتمال الذي «لا يناقش الآن»، كما تؤكد، حالياً، التصريحات الرسمية الاميركية، هو مطلب تركي صريح وملح و«منطقي» إلى اقصى الحدود في امتداد السياسات المعروفة لواشنطن وحلفائها في المنطقة عموماً وحيال الازمة السورية خصوصاً. لقد اضطرت الادارة الاميركية الحالية إلى التدخل العسكري المباشر في الازمة السورية بعد ان كانت ترفض ذلك لأكثر من ثلاث سنوات، رغم المناشدات والضغوط والتهديدات الحليفة، وخصوصاً من قبل سلطات المملكة العربية السعودية.
لن تكون المهمة
الاميركية والتركية سهلة اذا جوبهت باعتراض ومقاومة
هي، اي واشنطن، كانت تدير سياسة استنزاف ضد سوريا وحلفائها الاقربين والابعدين من خلال اطالة أمد الحرب ومنع انتصار أي من طرفيها. استمرت الامور على هذا المنوال إلى أنّ اجتاحت قوات «الدولة الاسلامية» (داعش) مناطق واسعة في كل من العراق وسوريا، وعلى نحو وبممارسات احرجا الادارة الاميركية وفرضا عليها اولويات جديدة (العودة إلى الشرق الأوسط) ووسائل جديدة لمواجهة اللاعب الجامح المتمثل في «الدولة الاسلامية» وفي المخاطر والتحولات المترتبة على قيامها ونجاحها واساليبها واجرامها.
هذا المطلب التركي الذي «لا يناقش الآن» أي إنشاء «منطقة عازلة»، حظي سريعاً، بدعم فرنسي صريح. بديهي، أيضاً، أن يصبح طرحه ونقاشه شديدي الالحاح (ربما ظاهرياً على الاقل) بعد الهجوم الإرهابي على مدينة عين العرب (كوباني) والتوقعات القوية، بل المرعبة، باحتمال سقوطها، وسط مجازر ودمار هائلين، في أيدي قوات «الدولة الاسلامية» المهاجمة.
ثم انه، في الأساس، لا يملي مشروع اقامة «منطقة امنة» تدخلاً اميركياً برياً (وهو التدخل الذي ترفضه إدارة الرئيس أوباما بسبب كلفته الهائلة السابقة على الاقتصاد الاميركي الذي بدأ يتعافى). فالتدخل سيكون تركيا في مراحله الأولى على الأقل. لا يحول دون ذلك، ضمناً، حتى الآن، سوى التنافس التركي ــ السعودي على البديل الذي سيكون أداة وواجهة القوى المتدخلة. لا يمكن في هذا الصدد تجاهل فرادة اللاعب التركي الذي عرف مكانته فضاعف من شروطه كثمن للتدخل. والثمن هو، بشكل جوهري، احداث تغيير في سوريا تكون حركة «الاخوان المسلمين» ركيزته الاساسية: بما يعوم دورها، من جهة، وبما يشكل بداية مسار جديد لنجاحات تركية مؤملة بعد اخفاقات مشاريع أنقرة الاقليمية وفشل سياستها الخارجية السابقة، من جهة ثانية.
منذ مطلع السنة الحالية كانت سياسة الاستنزاف الاميركية للنظام السوري وللانظمة الحليفة له، عبر إطالة أمد الحرب الداخلية، قد واجهت مشاكل عديدة بعد تحولات ميدانية صبّت لمصلحة النظام السوري (وحلفائه ايضاً)، وتكرست في نتائج «جنيف 2». لا يستطيع الاميركيون الآن مواصلة السياسة نفسها بعد المتغيرات المذكورة، وخصوصاً بعد بروز خطر «الدولة الاسلامية» واستمرار تقدم قواتها حتى بعد عمليات القصف الاميركي. من هنا يبدأ الابتزاز التركي في محاولة فرض الاعتراف الاميركي والغربي والعربي الحليف بدور لأنقرة لا يستطيعه سواها على الارض بسبب موقعها الجغرافي وقدراتها العسكرية.
طبعاً، سيكون على واشنطن أن تتولى، هي، عملية تذليل الاعتراض السعودي عبر ضغوط ومساومات وتسويات تديرها او تفرضها بشأن البديل في مناطق الحظر، او المنطقة الامنة أو العازلة. لا يستبعد أن تستدعي واشنطن، لهذا الغرض، احتمالات تنشيط مخطط التقسيم في كل من سوريا والعراق بداية. يستعيد بعض الاعلام الغربي والعربي، الآن، حالات جرى فيها الاستناد الى قرارات سابقة لمجلس الامن من اجل اتخاذ تدابير، من جانب واحد، بشأن مسائل يعتبرها مشابهة. يمكن تصنيف ذلك كبداية حملة سياسية وإعلامية لإضفاء صفة الشرعية على قرارات أُحادية من خارج مجلس الأمن ولتعطيل الاعتراض الروسي والصيني عليها. يجري، لهذا الغرض، استحضار القرار الدولي 688 الذي استندت اليه واشنطن ولندن وانقرة لانشاء منطقة حظر طيران في بعض مناطق العراق ضد سلطة الرئيس الراحل صدام حسين، من دون ان ينص القرار المذكور صراحة على ذلك. ليست الاحتمالات القائمة الآن كلية الشبه بالغزو الاميركي لكل من افغانستان (اواخر عام 2001) والعراق (ربيع 2003) والذي قاد إلى فشل مدوّ، وتكلفة بشرية هائلة، وخسائر اقتصادية كانت اخطرها الازمة التي ضربت الاقتصاد الأميركي بدءاً من نهايات عام 2008. تستطيع واشنطن أن تدير الآن الحروب دون ان تزجّ بقواتها المسلحة البرية فيها. في ظروفنا الراهنة، يأمل الطرف الاميركي أن يمارس دور «الشريك المضارب» الذي يستفيد من الارباح دون أن يساهم في الخسائر. تزدهر الآن الصفقات التي تبرمها واشنطن مع دول الخليج خصوصاً. آخرها تحديث شبكة صواريخ «الباتريوت» السعودية بـ1,75 مليار دولار... طبعاً، هذا وهم، لأن الإدارة الأميركية، ولو اقتصر تدخلها على الجو، فلن تتمكن من تمويه مسؤوليتها السياسية عن كل ما سيحصل، كما لن تستطيع، بالتأكيد، ضبط ردود الفعل المعترضة وأبرزها الردّ الروسي...
اعلن وزير الخارجية الاميركية جون كيري في لقاء اخير مع نظيره البريطاني أنّ «فكرة المنطقة العازلة يجب ان تحظى بدراسة متأنية». اضاف الوزير البريطاني: «حتماً لا نستبعدها»! يمكن، دون كبير عناء، إدراج ذلك في نطاق ما أشرنا إليه من بداية تمهيد، فانعطاف، في الموقف الأميركي؟!
تعطي تحركات الارهابيين في لبنان وتصريحات قادة في فريق 14 اذار اشارات واضحة (ليست بالضرورة منسقة) الى رهان متجدد على تغير التوازنات على الارض. ينذر ذلك، ايضاً، بتسعير الصراعات في جانبها الامني والسياسي في لبنان. إسرائيل، كالعادة، تتحيّن الفرص، وتباشر، هنا وهناك، تدخلات يومية. لن تكون المهمة الاميركية والتركية سهلة اذا جوبهت باعتراض ومقاومة يستفيدان من اخطاء واخفاقات المرحلة الماضية ومن إنجازاتها أيضا. إنشاء منطقة عازلة، غير متفاهم عليها، سيكون إيذاناً ببدء مرحلة اكثر التهاباً وأعظم خطورة على صعيد المنطقة والعالم.
* كاتب وسياسي لبناني