بالاستعانة قليلا بـ«نظرية المؤامرة»، وبالاستناد كثيراً الى الوقائع والتصريحات والتحركات، يمكن التوصل الى الخلاصة الاتية: إن شريط الاحداث منذ مؤتمر جنيف الثاني (اوائل السنة الحالية) حتى اليوم، هو شريط متكامل، لجهة الانتاج والاخراج، وان اضطربت قليلاً او كثيراً بعض الحلقات والمشاهد والصور!

بكلام اكثر مباشرة يمكن القول إنّ ثمة صلة وثيقة بين مجموعة الاحداث والتطورات التي حصلت بالامس وتحصل اليوم، منذ اعلنت الادارة الاميركية، على لسان كبار مسؤوليها، أنه يجب «تغيير موازين القوى في سوريا».
لن نكرر ما هو رائج من تحديد وتحميل مسؤوليات حول تشجيع ودعم الاتجاهات المتطرفة. لكن في المقدمة أو في المشهد، غالباً ما نقع على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، عرباً وغير عرب، ممن نشطوا وينشطون تحت عنوان تغيير ميزان القوى في سوريا: المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا والاردن (نسبياً أو بشكل غير مباشر)...
اختلفت الوسائل والادوات بين بعض هذه القوى. بل انه حصل صراع احياناً، حول بعضها: خصوصاً، بشأن دور «الاخوان المسلمين» وفروعهم ومتفرعاتهم، في تغيير التوازنات، وبالتالي، في خارطة الادوار المستقبلية، في هذا البلد أو ذاك أو على مستوى المنظقة بشكل عام. بروز «داعش»، بدولتها وخلافتها، شكّل النقطة الابرز في حقيقة التمايز ما بين وحدة الاهداف وتنوع الاساليب. وحدها الولايات المتحدة، المايسترو العالمي الأقدر، بمقدورها ان تعيد ترتيب وتركيب المشهد بما يوفر الانسجام الضروري بين معظم حلقاته: من الموقف السعودي الى الدور القطري الى الموقف التركي، مروراً بكل اللاعبين الاخرين، الكبار والصغار.
أعلن الرئيس الأميركي باراك اوباما «الحرب على الإرهاب». أعلن أيضاً ان العملية العسكرية ستدوم سنوات. هي تقتصر، في مرحلتها الاولى، على القصف الجوي الدولي والعربي لوقف تقدم تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش). تبيّن سريعاً أن القصف الجوي وحده لا يفي بالغرض. منذ ايام قليلة بدأت تتبلور مرحلة جديدة بأهداف جديدة ووسائل جديدة، هي في الواقع اهداف ووسائل قديمة حال دون تنفيذها «ميزان القوى» الذي يجب «تغييره»! مهّد الرئيس الأميركي لكل ذلك بنوع من النقد الذاتي لجهة سوء تقدير الإستخبارات الأميركية لحجم وخطر التطرف التكفيري الإرهابي. إقترن ذلك بتصاعد الحديث حول الدور التركي: من قبل الأتراك أنفسهم قبل سواهم. يمكن اتخاذ الموقف التركي نموذجاً في هذا الصدد. جرى الحديث كثيراً في الاسابيع والايام الماضية عن «الشروط» التركية. اكد الرئيس التركي، الذي يقود بلاده نحو ديكتاتورية مدنية بشكل مثابر ومتصاعد، ان اولوية القتال ضد «داعش» لا تلغي اولوية اسقاط النظام السوري. ناقش البرلمان التركي خطة الحكومة (التي وصفها نائب رئيسها بأنها «حاسمة») القاضية بإجازة تدخل تركي واسع في كل من سوريا والعراق، وكذلك بإجازة استخدام الاراضي والاجواء التركية من قبل التحالف الذي تقوده واشنطن.
لا تفعل فئوية الحرب
ضد «داعش» سوى تعزيز
«نظرية المؤامرة»
الفعالية هي للهجوم البري الذي يبقى دونه الهجوم الجوي محدود النتائج: هكذا اكد أردوغان. وبالاستناد الى ابداء إستعداد الجيش التركي للقيام بهذا الدور، او المساهمة الاساسية فيه، يحدد الرئيس التركي اهداف بلده ويرغب في تكريس دورها المميز: بالتساوي مع الدور السعودي او بالتقدم على هذا الدور. السعودية تشارك تركيا تأكيد استمرار أولوية اسقاط النظام السوري. هي لم تترد في اعلان أنّ مشاركتها العسكرية في «تحالف جدة» انما هي مكرَسة لامرين: القتال ضد «داعش»، ودعم المعارضة السورية المسلحة ضد النظام (فضلاً عن قرار معلن بتدريب خمسة الاف معارض سوري في المملكة السعودية نفسها).
السياق المعلن الذي ينتظم التحركات السياسية والعسكرية لتحالف جدة ـ باريس هو اعلان الحرب على «داعش». لكن، عبر ذلك، تتطور عملية سياسية عسكرية تديرها، اساساً، واشنطن، من اجل اعادة الامساك بمسار الاحداث في المنطقة وبالتالي، من أجل اعادة ترتيب ملفاتها بما يخدم مصلحة هذا التحالف، وبما يتعارض، بالتأكيد، مع مصالح حلف «الممانعة» الإقليمي المدعوم، بقوة، من قبل القيادة الروسية (هذا دون أن نتحدث هنا عن مصالح شعوب المنطقة).
يتيح هذا السياق رؤية ما هو مشترك بين اطراف التحالف، وهو الاساس. كما يتيح ملاحظة التباينات، وهي ليست كلها ثانوية، فيما يتعلق بالادوار والتوازنات كما اسلفنا. طبعاً ستبقى الكلمة النهائية والحاسمة للادارة الاميركية. فهي من سيتولى توزيع المهام والاعباء والمغائم، اي التحكم بالسياقات وبالنتائج بشكل عام.
بالملموس، تدخل كل من السعودية وتركيا الحرب من اجل ايجاد ظروف يتمكن الطرفان بعدها من التخلص من النظام السوري ومن اضعاف النفوذ الايراني ومن ممارسة دور اقليمي يزداد تأثيراً، أو حتى حسماً، وطبعاً ودائماً تحت اشراف الادارة الاميركية. تحت هذا السقف يتباين الموقفان التركي والسعودي بشأن دور حركة «الاخوان المسلمين» في سوريا وسواها. إلى ذلك تريد تركيا ان تراكم اوراقاً إضافية بشأن المشكلة الكردية، وكذلك ان تتخفف من اعباء ازمة النازحين السوريين وإلى تحويل هذه الازمة الى مبرر لانشاء «منطقة آمنة» او منطقة حظر جوي في شمال سوريا، تكون في الوقت نفسه منطلقاً وقاعدة لتعبئة شعبية واسعة للاطاحة بالنظام السوري.
لا تفعل فئوية الحرب الدولية ضد «داعش» سوى تأكيد وتعزيز حصة «نظرية المؤامرة» في تفسير الكثير من التطورات القائمة والمتوقعة في مجرى هذه الحرب. فلو كانت حرباً صافية ضد هذا الخطر التكفيري الوحشي الارهابي، لاتسعت لاخرين، اي لمنافسين، ممن هم، ايضاً، اصحاب مصلحة في اضعاف «داعش» او في القضاء عليها، عنينا روسيا وإيران وسوريا... إنها حرب محصورة، ومن اجل اهداف خاصة تتصل باستمرار السعي لتعزيز النفوذ الغربي والعربي الحليف في منطقة الشرق الاوسط، وبالتالي لتعزيز قدرة واشنطن وحلفائها (بمن فيهم إسرائيل) على التحكم بمصائر هذه المنطقة وبملفاتها في الحقول كافة.
من قمة «ويلز» الغربية، في مطلع الشهر الماضي، الى لقاءات الرئيس الاميركي في البيت الابيض، بما في ذلك مع المجرم نتنياهو، سياق واحد وهدف واحد: ابقاء المنطقة في دائرة النفوذ والهيمنة الاميركية وبأقذر وأخطرالوسائل إذا إقتضى الأمر!
هذا هو الواقع الخطير الذي يجب مواجهته بالاستناد الى دروس المرحلة الماضية.
* كاتب وسياسي لبناني