في نهاية كتاب «الاستشراق» لإدوار سعيد، يعيب المؤلّف على العالم العربي قصوره في دراسة الغرب. الغرب يقيم مع الفرد العربي، قسراً، على مدار الساعة، ويشغل تفكيرنا وهمّنا وغضبنا وأحساسينا، وهو يقرّر عنّا، وتصل قنابله وصواريخه إلينا (وسط ترحيب حار من أطراف متنازعة في سوريا، مثلاً) فيما نحن نهمل وأهملنا دراسة هذا الغرب.

لم تتطوّر دراسة الغرب على ما كانت عليه أيّام نشر سعيد كتابه. صحيح ان الوليد بن طلال موّل مركزيْن — باسمه طبعاً وهو يربط التمويل بشرط إطلاق اسمه على المركز، ولقد رفض مركز الدراسات العربيّة المعاصرة في جامعة جورجتاون شرط الوليد هذا فسحب تمويله وحوّل التمويل إلى مركز «التفاهم الإسلامي - المسيحي» (هل هناك صنعةُ أكثر نفاقاً وتدليساً من صنعة التفاهم والتوفيق بين الأديان؟). لكن المراكز المُموّلة من قبل ملوك وأمراء آل سعود تقتصر على نقل وجهة النظر الأميركيّة والتركيز على موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي من منظور مسار ومصير «مسيرة السلام». أموال النفط لا تريد دراسة الغرب، هي تريد الاستسلام له والتسويق لهيمنته (كأن ينفق النظام القطري على توأمة مع مركز صابان الإسرائيلي في «مؤسّسة بروكنز»).
نشر العالم المُجتهد حسن حنفي كتاب «مقدّمة في علم الاستغراب» على أنّه مواجه لعلم الاستشراق، لكن حنفي لم يرد ان تشوبه ما شاب الاستشراق من عيوب ونواقص وعقد تفوّق واستعلاء. هو دعا مخلصاً إلى فصل منهجي بين الاستغراب والاستشراق وعدم نقل دوافع الثاني إلى الأوّل، هذا بصرف النظر عن اختلال موازين القوى بين سلطة الأوّل وسلطة الثاني. وبالرغم من مقدّمة مشجّعة عن تأسيس علم عربيّ جديد، لكن الكتاب تحوّل، يا للأسف، بعد المقدّمة إلى عرض وصفي (غير مُجدّد) لتاريخ الفكر الأوروبي كما يرد في مناهج دراسات الفكر السياسي في الجامعات الغربيّة، ومعتمداً على المراجع الغربيّة وعلى التفاسير الغربيّة لذلك الفكر. يدفعك ذلك إلى استغراب نتاج دراسة علم «الاستغراب». لم يكن حنفي يقصد ان يردّ للغرب الصاع صاعيْن في كتابه، على طريقة المؤرّخ البريطاني الصهيوني أفرايم كارش، الذي كتب «الإمبرياليّة الإسلاميّة: تاريخ»، والذي أراد منه عبر الغوص في تاريخ الفتوحات الإسلاميّة الغابرة والاستعباد تعيير النقد العربي والإسلامي المعاصر للاستعمار والحروب الغربيّة.
إن دراسة الغرب من قبل العرب لا يجب بالضرورة ان يستعير عناوين وأسلحة الاستشراق خصوصاً أن الكفّة غير متعادلة، وان العلاقة بين المدرسة (أو «العلم») وبين السلطة تختلف بين مقلب وآخر. نما الاستشراق في حقبة التوسّع الاستعماري الغربي وضرورة فرض القوّة الغربيّة على الشرق، وكانت العلاقة كما أوردها ودرسها سعيد (في كتابيْن) علاقة عضويْة. دراسة الشرق هي معرفة سياسيّة، أما معرفتنا بالغرب فهي معرفة ناقصة وضعيفة. معرفة الشرق في الغرب هي معرفة المُستعمر بالشعب المُستعمَر، أما معرفة الغرب في الشرق فهي فهم المُستعمَر عن المستعمِر.
يشغلنا الغرب في مختلف أنحاء حياتنا، وعلاقتنا به منذ انهيار السلطنة العثمانيّة علاقة متناقضة: فهو من ناحية مصدر الاهتمام الدائم وهو المرجع المعرفي والسياسي، لكنه أيضاً هدف النقمة السياسيّة والمعارضة. لم نعرف كيف نوفّق بين العداء السياسي وبين الاهتمام المعرفي والعلمي والثقافي. ليس عفويّاً ان الغرب حاضر اليوم في حياتنا اليوميّة وفي المقاهي والمطاعم والإعلام واللغة. إن سياسة «الانفتاح» التي أطلقها السادات كانت مترابطة ومتزامنة مع حقبة كامب ديفيد المشؤومة. رعت أميركا النظام التسلّطي للسادات مقابل ان يفتح لها أسواق مصر وأن يدمّر لها الصناعات الوطنيّة وأن يضعف لها الجيش لطمأنة العدوّ الإسرائيلي. تعامل عبد الناصر مع الغرب بالكثير من احترام الذات، حتى في المراسم والخطاب والدبلوماسيّة، فيما تعاطى غيره من الزعماء العرب (بما فيهم ياسر عرفات) بالكثير من الذلّ (لا يمكن التقليل من أهميّة العزّة والعنفوان التي حكمت أداء جمال عبد الناصر في التأثير على شعبيّته، ويتبدّى هذا يوماً بعد يوم في المقارنة، لصالحه).
هناك مساران سياسيّان رسميّان معاصران في التعامل مع الغرب: مثّل جمال عبد الناصر ورفاقه مسار تدعيم القوّة العربيّة من أجل تغيير ورضوخ الغرب، وهناك مسار السادات وياسر عرفات الذي يقضي بالاستسلام الكامل غير المشروط للغرب مقابل فتات سياسيّ. وكلّما رضخ طرف عربي للغرب، كلّما زاد الغرب في إذلاله وفي فرض شروطه. لكن عن أي غرب نتحدّث؟
تعتمد دراسة الغرب بداية على تعريف الغرب وتوضيح ما إذا كان المصطلح من مخلّفات عصور الحضارات التي تكسّرت في القرن العشرين خصوصاً في عصر العولمة التي تدكّ الأسوار والحدود إما بالسلع أو بالقنابل والصواريخ. أو بالاثنيْن معاً. هل من الدقّة استعمال مصطلح الغرب فيما يتفتّت الغرب ويتشظّى أقاليم، وتسعى كل دول الغرب مجتمعة لمنع انشقاق اسكتلنده عبر التهويل والإرهاب على أنواعه؟ وما هو الغرب إذا كانت الدولة الأفغانيّة باتت مجرّد قاعدة متقدّمة للغرب الأميركي فقط؟ وهل تشكل كلمة الغرب كل الدول الغربيّة، ام هي توصف فقط دول الغرب ذات السلاح النووي؟ والحكومة الأميركيّة باتت تدشّن احتلالها للدول العربيّة والإسلاميّة عبر فتح «جامعة أميركيّة» إن في كابول أو في السليمانيّة.
لكن تعريف الغرب يحتاج إلى إعادة نظر لأن تحديد النظرة العربيّة إلى الغرب عانى من اختصار، أو اختزال، الغرب بأميركا وبريطانيا وفرنسا فقط. إن الدول الإسكندنافيّة هي غرب أيضاً، كما أن دول أوروبا الشرقيّة التي باعتنا الأنظمة الشيوعيّة البائدة فيها شعوبها في صفّنا، هي غرب مع ان تلك الدول باتت تشكّل حكوماتها ذروة التعصّب ضد الإسلام وذروة مناصرة إسرائيل في عدوانها. والحكومات العربيّة بشخص الجامعة العربيّة بعد الحرب العالميّة، هي أيضاً اختزلت الغرب ببعض العواصم فقط. عملت الجامعة العربيّة على فتح مكاتب إعلاميّة لمناهضة دعاية العدوّ في عواصم الدول الأكثر مناصرة للعدوّ، ونسيت أو تناست الدول التي كان يمكن تحويل رأيها العام (كان هذا قبل ان يتحوّل الراي العام الغربي برمّته إلى صف مناصرة شعب فلسطين، باستثناء الرأي العام الأميركي).
شاب علاقة العرب بالغرب في التاريخ المعاصر نوازع عدة: 1) النفور الإسلامي المطلق من الغرب (وهذا كان مفترضاً أكثر مما كان حقيقيّاً لأن الحركات الإسلاميّة العربيّة تعاونت وتحالفت مع الاستعمار الأميركي منذ بداية الحرب الباردة ضد الشيوعيّة والاشتراكيّة والتحرّر). 2) النفور اليساري من الغرب الموالي لأميركا (لكن هذا لم يمنع يساريّين سابقين من التحوّل إلى أبواق للحروب الأميركيّة في منطقتنا). 3) التعاطي مع الغرب في زمن الصراع العربي مع العدوّ الإسرائيلي في وقت احتضن الغرب دولة العدوّ منذ تأسيسيها. 4) الدعاية الغربيّة التي، تحت شعار «لا شرق ولا غرب»، تمرّر سيطرة غربيّة استعماريّة على الشرق (مثلما يُمرّر كتّاب الحريريّة الهيمنة الطبقيّة، تحت شعار «مَن يتحدّث عن الطبقات هذه الأيّام» (وهذه الخدع هي أميركيّة مستوردة من مخزون الحرب الباردة عندما كانت أميركا تصدّر إيدلوجيّة سيطرتها العالميّة تحت شعار «موت الإيدلوجيا»). 5) صعوبة التعاطي مع الغرب في ظل الانفصام بين الشعب المعادي للغرب السياسي وبين الطغاة الأدوات بيد الغرب.
تحتاج دراسة الغرب إلى أكثر من تدريس اللغة الإنكليزيّة وإلقاء محاضرة من قبل أستاذ زائر أميركي. إن دراسة الغرب غير ممكنة من دون تخصيص وتعريف الغرب بسعة.
يحاول دعاة الغرب في العالم العربي أن يلخّصوا لنا الغرب وتقدّمه
إن الإصرار على أن الغرب هو أميركا يفيد برنامج السيطرة الأميركيّة لأنه يلغي تلك الدول الأوروبيّة التي أشار إليها تجاهلاً دونالد رمسفيلد ذات يوم بـ «أوروبا القديمة» (مزهواً بـ «أوروبا الجديدة» أي أوروبا الشرقيّة التي تماشي الحكومة الأميركيّة في كل قراراتها لأن أنظمتها الفاسدة أكثر عرضة للتأثير من الحكومة والمال الأميركي). كما ان دراسة اللغات الغربيّة في الجامعات العربيّة ضعيف جداّ: هل هناك جامعة عربيّة تدرّس اللغة الدنماركيّة؟ وهل هناك دراسة لخواص الغرب في تنوّعه وفي إنشقاقاته وإنقساماته؟ إن الإصرار العربي على وحدانيّة الغرب وعلى إكتمال جسمه ورص صفوفه هو بمثابة الخبث السياسي والانحياز في الاستشراق الغربي الذي يصرّ على دراسة العرب فقط من خلال طوائفهم وقبائلهم وشعبهم واثنيّاتهم.
والفهم النخبوي للغرب ينتقل إلى الجمهور. وما نعلمه عن الغرب يمرّ عبر الأجهزة الدعائيّة للحكومة الأميركيّة (مرّ هكذا عرضاً في مقالة في «نيويورك تايمز» عن الحرب الأميركيّة المُستجدّة على «داعش» ان مسؤولاً أميركيّاً اسمه ريتشارد ستنغل -مسؤول «الدبلوماسيّة العامّة»، هي الكلمة الدعائيّة الأميركيّة للدعاية السياسيّة الخاصّة بها، كي لا نلاحظ، جمع مسؤولين عرب لبحث مضامين وتوجّهات الإعلام العربي في هذه المرحلة — كأننا لا نلاحظ تأثير ذلك). أميركا ووكلاؤها يقرّرون ما يريدون ان نعرف، ونحن نعرف أيضاً من خلال الإنتاج الهوليوودي الذي لا يمثّل أميركا على حقيقتها. إن الإفلام الأميركيّة عن العنصريّة ضد السود هي موسميّة وتأتي من باب رفع العتب، مقارنة مثلاً بأفلام عن الضحايا اليهود في المحرقة النازيّة (ليس هناك من فيلم واحد مثلاً عن الضحايا الغجر في المحرقة).
ويحاول دعاة الغرب في العالم العربي أن يلخّصوا لنا الغرب وتقدّمه. لكن دعاة الغرب في عالمنا العربي يعانون من انفصام هائل في الشخصيّة ما يضعف من مصداقيّتهم وفعاليّتهم: كيف يدعو للغرب وقيمه (المُفترضة) مَن يدين بسياسات سلالات التسلّط والتزمّت والطاعة العمياء في دول الخليج؟ وغرب هؤلاء غرب منفصم: هم يستعينون بغرب فولتير وروسو وميلز ومونستكيو للتسويق لحروب بوش وبلير وأوباما. هم لا يريدون رؤية الغرب بتنوّعه وتشعّبه. غربهم مثل غرب الإسلاميّين المتعصّبين: هو خير كلّه، أم شرّ كلّه (مع ان الإسلاميّين المعاصرين والسلفيّين — كما اكتشفنا في عصر الانتفاضات العربيّة - فرّقوا بين الخطاب الإسلامي وبين الممارسة السياسيّة التي لم تمنع التحالف بينهم وبين الحكومة الأميركيّة وغيرها من الحكومات الغربيّة). أي ان القطع الفاصل كان سمة في الخطاب الليبرالي العربي المعاصر عن الغرب.
إن دراسة الغرب من قبل العرب ليس ضرورة حياتيّة أو انه من «شروط المرحلة». من باب أولى تدريس اللغة الصينيّة والإسبانيّة واليابانيّة في الجامعات العربيّة، ومن باب أولى دراسة الشرق، شرقِ شرقِنا. ليس هناك من اهتمام أبداً بدارسة الجوار الجغرافي، مثل أفريقيا وباقي آسيا، حتى لا نتحدّث عن أميركا اللاتينيّة. لكن اهوس العرب السياسي والثقافي والاقتصادي بالغرب يجب ان يترافق مع دراسة جادّة لهذا الغرب. أما التجاهل المعرفي لباقي دول العالم، خارج «الغرب»، فهي نتاج لمركزيّة أوروبا وأميركا في الفهم العربي والاهتمام الرسمي والشعبي.
شكّلت المرحلة الناصريّة (وليس البعثيّة السوريّة والمصريّة) انفتاحاً غير مألوف على العالم الثالث وثقافاته، إن عبد الناصر سوّق لقوميّة عربيّة متآخية مع ثقافات وتجارب دول العالم الثالث. أذكر ان مجلّة «ميكي» في العهد الناصري كانت تعرّف الأطفال والأولاد من القرّاء على ثقافات أخرى: كانت قبّعة المزارعين في فييتنام من الهدايا التي تُباع مع المجلّة. كانت الهند وأندونيسيا أهمّ عند عبد الناصر من الغرب الأوروبي المعادي. والدعوة إلى دراسة الغرب ليست من أجل ديمومة الهوس العربي بالغرب على حساب دول العالم الأخرى بل من أجل تثقيف الوعي العربي الشعبي والنخبوي عن الغرب، كي لا يقع بين طرفيْ النقيض، إما «الصليبي» في وعي الجهاديّين أو «المُحرّر» في وعي الليبراليّين.
يأخذ عميد المستشرقين المعاصرين (من الذين لا يعتبرون الاستشراق بأبشع أشكاله ابتذالاً سبّة) برنارد لويس على المؤرّخين والكتاب المسلمين في تاريخ الحضارة الإسلاميّة، انهم لم يعيروا أي اهتمام للغرب. لكن ذلك كان مفهوماً لحقبة عندما كانت الحضارة العربيّة متفوّقة على الحضارة الغربيّة، أو بسبب عقدة التفوّق الدينيّة التي حكمت الكتابة الإسلاميّة في حينه (هل زالت؟). كما ان السفر العربي إلى الغرب كان شبه معدوم، لكن ذلك تغيّر عندما بدأ بعض الأفراد من لبنان في الرحيل أو زيارة الغرب. لكن هؤلاء اهتمّوا بتعريف (أو إساءة تعريف مثل كتاب أسعد الخيّاط «صوت من لبنان، عن حياة وأسفار أسعد خيّاط» الذي صدر في لندن عام 1847، والذي صدر في طبعة عربيّة من المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت لكن بعد «تحريره» من التعصّب الديني ضد المسلمين) الشرق إلى الغرب، وعلى طريقة الابتذال في الاستشراق. لكن الشدياق كان استثناء في كتاباته عن أوروبا وعن مالطة.
خلافاً للفهم المُبتذل لكتاب الاستشراق الذي روّج له الصهاينة في الغرب (وفي الإعلام العربي: أفردت مجلّة «المجلّة» التابعة لجهاز إعلام الأمير سلمان عدداً خاصّاً عن ذم إدوار سعيد قبل نحو سنة، وخصّصت مقالة الغلاف للصهيوني الليكودي، جاشوا مورافتشيك، مع ان لا علاقة دراسيّة له - إلا العاطفيّة - بالشرق الأوسط أو بالاستشراق)، كتب سعيد ضد الفصل القطعي والمعرفي بين «الشرق» وبين «الغرب». وفي آخر كتاب «الإمبرياليّة والثقافة» يقول سعيد ان الإنسان أكثر من واحد في داخله وفي هويّته، وأن الإيمان بهويّة واحدة قطعيّة هي من مخلّفات الاستعمار نفسه. كما ان سيرة سعيد هي تجسيد معقّد للفكرّة ذاتها. لكن الغرب لا يدع لدينا مجالاً للرحيل عنه: بعضنا يقطن فيه هجرةً، وهو يزورنا بجيوشه الجرّارة وبطائراته وصواريخه في بيوتنا وأخواخنا. العلاقة، أو طبيعة العلاقة، لم تتغيّر: هو يريدها بين سيّد ومسود. والحكومة الأميركيّة تريد ان تكون هي عنوان الغرب، كما تريد ان يكون مصطلح «المجتمع الدولي» حجاباً لجرائمها وسياساتها وحروبها.
إن مقدرتنا على دراسة الغرب تعتمد على الخروج من التركيز على واشنطن وعلى مراكز الدراسات المرتبطة بالمصالح الإمبرياليّة. ماذا نعلم عن السكّان الأصليّين في هذه البلاد؟ أجزم ان سفيراً لبنانيّاً واحداً لم يزر أياً من تجمّعات السكّان الأصليّين في هذه البلاد. هل أقامت سفارة عربيّة علاقات مع منظمّات للسود أو لذوي وذوات الأصول اللاتينيّة هنا؟ نحن ندرس الغرب الأبيض والمتوحّش فقط. ودعاة الغرب يريدون لنا ان «نستبطن» عقيدة بوش وأن نرحّب بالصواريخ والقنابل الهاطلة، من دون ان يريدوا لنا ان ننقل مثلاً تجربة الغرب في دولة الرعاية الاجتماعيّة والتأمين الصحّي المجّاني (خارج أميركا) وحفظ حقوق المرأة العاملة (في الدول الإسكندنافيّة) أو احترام حق العامل في الإجازة (مثل فرنسا)، الخ. هم دعاة التلفّت الرأسمالي فقط.
لكن من الترف المطالبة بدراسة جادّة للغرب فيما لا نزال نحتاج أكثر ما نحتاج إلى نفض كامل للدراسات الإسلاميّة في العالم العربي. توقّفت الدراسات الإسلاميّة منذ انبعاث الحقبة السعوديّة في السبعينيات. من المستحيل ان تصدر جامعة بغداد اليوم، أو أي جامعة اليوم في كل أنحاء العالم الإسلامي، كتاب عن إبن الريوندي كالذي أصدره عبد الأمير الأعسم عن جامعة بغداد في عام 1975 (بعنوان «تاريخ ابن الريوندي الملحد»). كيف نستطيع ان ندرس الغير قبل ان نباشر بدارسة الذات؟ هناك أطروحات جامعيّة كُتبت وتُكتب عن ملابس الملك عبد العزيز، وهناك دراسات إسلاميّة عن قشور القشور. والتمويل العربي للجامعات والمراكز البحثيّة شبه معدوم لأن الدول العربيّة تنصرف لإنشاء مراكز بحثيّة وكراسي جامعات في دول الغرب من أجل التقرّب من مراكز الثقل والفكر هناك. (رفيق الحريري درس في الجامعة العربيّة في بيروت لكنه تبرّع بالملايين لجامعة جورجتاون والجامعة الأميركيّة في بيروت —لعلّ الجامعة الأولى لا تكسبه وجاهة أمام الغرب).
يجثو الغرب فوق صدورنا وتنهمر علينا قنابله وصواريخه، وهو يتدخّل أدقّ تفاصيل حياتنا، ويريد من المسلمين والمسلمات إعادة تفسير دينهم، وحذف ما يتيسّر من القرآن، من أجل إقامة تطبيع كامل معه ومع دولة العدوّ. والأنظمة الحاكمة لا تريد ان تساهم في دراسة الغرب، طاعته فقط هي المنال. إن عصر التواصل التكنولوجي يحتّم فهماً أكبر للعالم من حولنا، خصوصاً لذلك الجزء من العالم الذي لا ينفكّ عن شن الحروب ضدّنا. وإذا كان الاستشراق (ولا يزال) هو رافد للاستعمار الغربي ضدّنا، قد يكون «الاستغراب» رافداً لمقاومته.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)