في حياة الشعوب والأمم نوعان من الشهداء، نوع يقدم حياته في لحظة مواجهة مع العدو، أو في عملية فدائية ضد محتل، أو برصاصة غادرة من عميل، ونوع آخر يهب عمره كله من أجل مبادئ يؤمن بها، وقضية يعيش من أجلها، ومن أجدر من جورج حبش بلقب شهيد فلسطين والعروبة في آن بعدما نذر حياته كلها من أجل فلسطين التي اعتبر أنّ الطريق إليها يمرّ بالوحدة العربية، ومن أجل الوحدة العربية التي آمن بأنها تبنى في مسيرة النضال من أجل تحرير فلسطين.
ما زالت المعادلة صالحة، رغم كل ما يحاط بنا من خيبات وعثرات ونكسات، فالوحدة طريق فلسطين، تماماً كما فلسطين طريق الوحدة، وهي لم تعد مجرد معادلة فكرية أو نظرية، كما أطلقها رواد الفكر القومي العربي المعاصر، بل تأتي كل التطورات اليوم لتثبت أن كل ما تشهده أمتنا من فتن وفوضى وتوحش واحتراب وانقسام وتقسيم مرتبط بوضوح بالتآمر لإبعادنا عن العروبة كهوية تجمعنا، وعن فلسطين كقضية توحّدنا، وذلك عبر فلسطين ولتبرير قيام الكيان العنصري الاستيطاني الاحتلالي الإرهابي على أرضها، تماماً كما تشي كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر العدوان تلو العدوان، وعبر الانقسام تلو الانقسام وعبر تغليب المصالح الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية والقومية العليا.
لا أعتقد أن ابن اللد، طالب الطب في الجامعة الأميركية في بيروت خلال أربعينيات القرن العشرين، كان يدرك أن نكبة بلاده عام 1948 ستدفعه ليؤسس مع رفاق له كوديع حداد وهاني الهندي، وأحمد الخطيب، وباسل الكبيسي، ومحسن ابراهيم، ومصطفى بيضون، واحدة من أهم الحركات القومية العربية المعاصرة التي انتسب اليها مناضلون ومثقفون وناشطون من موريتانيا على كتف المحيط حتى ظفار والبحرين والكويت على سواحل الخليج، وصولاًً الى اليمن حيث باب المندب بكل دلالاته الاستراتيجية.
كما لا أظن أيضاً أن هذا القائد والرمز القومي الكبير كان يدرك تماماً أن منظمة «أبطال العودة» التي أطلقها في أواسط الستينيات مع رفاق له ستتحول بعد فترة وجيزة الى واحدة من أهم المنظمات الفلسطينية، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ملأ صيتها العالم، وانشغل بها القاصي والداني، وباتت حليفة كل ثوار الأرض، فيما بقيت هي أمينة على أرض فلسطين، كل الأرض. 
لكن جورج حبش، بإيمان يضاهي إيمان الأولياء، وبثبات قل نظيره، وببساطة نادرة، كان يتقدم من موقع الى موقع، لا يضيره الانتقال من بلد عربي الى آخر، فبلاد العرب كلها وطنه، ولا من سجن الى آخر فالوطن العربي بات سجناً كبيراً يتناوب على حراسته احتلال واستبداد ويتعاونان، ولا أن يمضي ردحاً طويلاًً من حياته يعمل «تحت الأرض» من أجل تحرير الأرض التي نذر العمر من أجلها. 
فلهذا الرجل الكبير بالطبع مزايا وطنية وسياسية وأخلاقية وشخصية نادرة، جعلت من لحظة الإعلان عن رحيله لحظة صمت وألم وحزن لفّت عشرات الملايين من أبناء شعبه وأمته وأحرار العالم، غير أن ميزته الكبرى أنه في زمن المتغيرات الكثيرة، بل زمن المتغيرين الأكثر (والقول للأستاذ منح الصلح) بقي جورج حبش حارس الثوابت، حريصاً على المبادئ لا يفرط في حق، ولا يساوم في مبدأ. 
على أن ميزته الكبيرة هذه اقترنت بميزة أخرى لا تقل عنها أهمية، بل وترتبط بها، وهي أنه كان معارضاً داخل الساحة الفلسطينية دون انقسام، لأنه كان يدرك ببساطة أن أقصر الطرق للتفريط بالثوابت هو أن تدفع بشعبك الى مهاوي الانقسام والانشقاق والاحتراب.  هذه المزايا مجتمعة جعلت لجورج حبش مكانة مميزة لدى مؤيديه، كما لدى من كانوا يختلفون معه، بل كان كثيرون داخل الساحة الفلسطينية والعربية، وفي مقدمهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، ينتظرون كلمة «الحكيم» التي غالباً ما تكون «تشريحاً» دقيقاً للمرض، ومعالجة صريحة لأسباب العلّة. ويكفي جورج حبش فخراً، أنه كان من القادة النادرين في تاريخنا السياسي والحزبي، الرسمي والشعبي، الذي تنازل طوعاً عن موقعه إيماناً منه بالتداول، بل يكفيه فخراً كذلك أن أحد خليفتيه (أبو علي مصطفى) استشهد على أيدي الاحتلال، وأن خليفته الآخر (أحمد سعدات)، لا يزال معتقلاًً في سجون المحتلين.
كان يدرك أن أقصر الطرق للتفريط بالثوابت هو أن تدفع بشعبك الى مهاوي الانقسام
 
قد يغيب وجه جورج حبش عن أبناء فلسطين والأمة، عن أحرار العالم المنتشرين من اليابان حتى أميركا اللاتينية، لكن أحداً لن يستطيع أن يغيّب صورة حبش المناضل والمعلّم والقائد عن ذاكرة فلسطين والأمة. 
في ذكرى حكيم الثورة، القائد والمؤسس جورج حبش، يبقى السؤال الصعب في الأيام الصعبة: «هل لا يزال المشروع القومي العربي، المشروع الوحدوي الديموقراطي التقدمي، صالحاً في زمن التشظي والتردي العربي الراهن؟».
إن نظرة سريعة الى مآل كل المشاريع التي قدمت نفسها بديلاًً من المشروع القومي العربي تؤكد الحاجة الموضوعية لهذا المشروع النهضوي وإن كانت الحاجة الموضوعية وحدها لا تكفي إذا لم تقترن بشروط ذاتية وآليات عمل ونضال تحمل هذا المشروع.
فمشروع الكيان القطري يتهاوى اليوم أمام عجز الدولة القطرية عن توفير الأمن الوطني والقومي، وصون الاستقلال والسيادة، وتلبية احتياجات التنمية والعدالة الاجتماعية، بل يبرز بشكل خاص عجز الدولة القطرية عن حماية الوحدة الوطنية.
ورغم مكانة الدين والإيمان في وجدان الأفراد وحياة الشعوب، فإن المشروع الديني السياسي المجرد من بعده القومي والتقدمي والعصري، أخذ يتهاوى كذلك أمام استفحال الموجات الطائفية والمذهبية والعرقية. أما مشروع اليسار اللاقومي واللاوحدوي فقد وقع، مع كثير من المفكرين والمناضلين والحكام، أسر نظرية «الاشتراكية في قطر واحد» أو النضال الطبقي بمعزل عن النضال الوحدوي، وهي نظرية، تهاوت بشكل خاص أمام استحالة قيام هذه الاشتراكية القطرية دون قاعدة إنتاجية كبرى مستندة الى سوق عربية مشتركة هي أساس أي تكامل اقتصادي عربي يحاكي التكتلات العالمية الكبرى والمنظومات الإقليمية التي تتوالد من حولنا في كل قارات العالم لتعلن استحالة عيش الكيانات الصغيرة بمفردها.
«والليبرالية اللاوطنية الجديدة»، التي يجري تسويقها اليوم باسم «الحرية والديموقراطية، وحقوق الإنسان» وكلها مطالب عزيزة في مواجهة الاستبداد والفساد والتبعية، هي الوجه السياسي للرأسمالية المتوحشة التي تكشف الأيام عجزها البنيوي وتغوّلها على حقوق الإنسان والشعوب، بل يتحول دعاة هذه «الليبرالية المزيفة» الفاقدة لأي انتماء وطني وقومي الى رؤوس جسور إعلامية وثقافية وسياسية واقتصادية للهيمنة الاستعمارية الجديدة.
مشروع التسوية السياسية للصراع العربي – الصهيوني، وهي تسوية طالما عارضها جورج حبش ورفاقه أبناء المدرسة القومية، وحذّر من تداعياتها الخطيرة، فلقد بات أصحابه اليوم أمام حائط مسدود، وأفق مسدود، بعد عقود من الرهان عليها، لتعود المقاومة، التي هي في الأساس خيار وطني قومي أصيل، رداً رئيسياً على الاغتصاب والاحتلال والهيمنة، بل لتبرز كواحدة من آليات توحيد الأمة في مواجهة كل التحديات. وإذا كانت كل هذه المشاريع قد ازدهرت في العقود الماضية على قاعدة تراجع المشروع القومي العربي، وسقوط معظم حامليه من أنظمة ومنظمات في الممارسة العملية ، فإن الباب بات مفتوحاً من جديد أمام إحياء المشروع العروبي الوحدوي الديموقراطي القائم على المواطنة الكاملة التي لا تميّز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الجنس، بل القائم على احترام خصوصية الأقطار والجماعات الإثنية، كما على احترام تلك العلاقة المميزة بين العروبة والإسلام، التي يحصّن فيها الإسلام العروبة من الشوفينية والعنصرية، وتحصن فيها العروبة الحركات الإسلامية من مزالق الطائفية والمذهبية، بل تلك العلاقة المميزة بين العروبة والنهضة التي كان للمسيحيين العرب الدور البارز في زرع بذورها وتأسيس أركانها. أليست العروبة هوية تنطوي على مشروع نهوض؟
لجورج حبش في ذكراه عهد الوفاء والالتزام بالثوابت التي كان حكيم الثورة أحد أبرز حرّاسها.
(كلمة في ندوة كان من المفترض أن تنعقد في عمان يوم 28 أيلول 2014، موعداً لانعقاد ندوة إحياء ذكرى الدكتور جورج حبش كمفكر قومي عربي، ولكنّ قراراً رسمياً صدر بالتضييق على المكان بقاعة أصغر، فاضطر «منتدى بيت المقدس» ورئيسه ماهر ضياء الدين النمري إلى إلغائها)
* رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن