يعيش الاسلاميون في العالم منذ سقوط حكم «الاخوان المسلمون» في القاهرة يوم 3 يوليو 2013 ما عاشته الحركة الشيوعية العالمية عقب تفكّك الاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من عام 1991 إثر سنتين ونصف السنة من هزيمة موسكو في الحرب الباردة ومن ثم تفكك الكتلة السوفياتية: شعور بالهزيمة السياسية والفكرية مع عدم القدرة على تقديم بديل فكري - سياسي يتجاوز حالة الهزيمة إلى حالة جديدة، كما فعل لينين بعد صدمته بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عندما وافق في آب 1914 على اعتمادات الحرب التي طلبتها الأركان الألمانية حيث قام بتأسيس بديل فكري - سياسي عن «الأممية الثانية» من خلال كتابي «الامبريالية» (1916) و»موضوعات نيسان» (1917) من دونه ما كان من الممكن أن يصل لما وصل إليه من استلام السلطة عقب ثورة أوكتوبر1917، حيث طلب من حزبه، في المؤتمر الذي قدم فيه موضوعاته، خلع القميص القديم، الاشتراكي الديمقراطي، وارتداء قميص شيوعي.

الاسلاميون، الآن، ما زالوا في حالة صدمة في مصر وهم في حالة تراجع دفاعي تنظيمياً وسياسياً، ولم يوحوا بأنهم في حالة مراجعة فكرية للتجربة والمفاهيم والسياسات، بعد فشل في سنة أولى حكم لتنظيم سياسي عمره أربعة وثمانون عاماً هو بمثابة المركز - الأم للتنظيمات الاسلامية بين طنجة وجاكارتا. مباشرة، دفع «اخوان» تونس وليبيا وسوريا فاتورة سقوط مرسي. في 2014، مع وضوح إدارة الظهر الأميركي لـ «الاسلام السياسي» بعد زواج قصير لـ «الاخوان المسلمين» مع واشنطن عامي 2011 و2012 صعدوا من خلاله للسلطة في تونس والقاهرة وتصدروا واجهة المعارضة السورية وصاروا مشاركين في السلطة في صنعاء وطرابلس الغرب، تقوم «السلفية الجهادية»، بفصائلها المختلفة المرتبطة مباشرة بالقاعدة (النصرة) أو المرتبطة فكرياً (كتائب أحرار الشام) أو المختلفة سياسياً وتنظيمياً من دون الفكر مع القاعدة مثل تنظيم داعش، باستلام دفة «الاسلام السياسي» بدلاً من «الاخوان». هذا يجعل الغرب الأميركي - الأوروبي أثناء حربه المعلنة ضد «السلفية الجهادية» التي وصلت لاستصدار القرار 2170 من مجلس الأمن ضد «داعش» و»النصرة» ولتشكيل تحالف دولي – اقليمي ضد «داعش»، في حالة من عدم التمييز بين شقي تيار الاسلام السياسي. وعلى ما يبدو ستغض واشنطن النظر عن اتجاه حلفائها في الرياض والقاهرة للبطش بالاثنين.
هناك فراغ بدأ يتوضح عن هذا الانحسار لتيار الاسلام السياسي، وخصوصاً بعد فشل «الاخوان» في حكم القاهرة وبعد أن دخل الاسلام السياسي السوري في تجربتين فاشلتين في 1979- 1982 و2011 – 2014 أنتجت كوارث وهزائم وخسائر مؤلمة دفعت فاتورتها أولاً البيئة الحاضنة للتجربتين: القاهرة ودمشق هما البوصلة لاتجاهات التيارات الفكرية - السياسية العربية حيث تتبعهما العواصم الأخرى، وهذا بدأ منذ عام 1919 مع المرحلة الليبرالية عبر حزب «الوفد» ثم «الكتلة الوطنية» في دمشق، وفي عام 1952 مع عبد الناصر والبعث ومد الحركة العروبية، ثم مع صعود الطبعة الاخوانية للاسلام السياسي منذ أواسط السبعينيات في مصر وسوريا. الآن، في مصر وسوريا، هناك اتجاه كبير عند المسلمين السنة للانفضاض عن «الاسلام السياسي» في التنظيم والاتجاه السياسي والأهم في الفكر والثقافة وحتى في المظاهر والزي وأيضاً في السلوك الفردي والاجتماعي. ساهم الفشل السياسي في توليد ذلك، ويساعد التطرف والعنف وظهور وحشية «داعش» وتناقض سلوكياتها مع المجتمعات المحلية في تسريع ذلك، كما أن قدرة الأوساط الاجتماعية على شم الرياح السياسية واتجاهاتها، وهو ما يفتقده أغلب السياسيين والمثقفين العرب ومعهم الكثير من كتبة الصحف ومعلقي الفضائيات، يجعلهم ينزلون من مركب هو في اتجاه الغرق بعد أن أعلنت واشنطن الحرب عليه، وهي التي لم تخض حرباً عالمية إلا وكسبتها، كما حصل ضد القيصر الألماني وهتلر والسوفيات.
هناك الآن فراغ سياسي في المجتمعات العربية بين الرباط والكويت ناتج من بدء انحسار تيار الاسلام السياسي: هذا الفراغ غير مسبوق، عندما سارع العروبيون لملء فراغ انحسار الليبراليين عقب نكبة فلسطين عام 1948 وعندما سارع الاسلاميون لملء فراغ العروبيون الذين انحسر نفوذهم المجتمعي بفرعيهم الناصري والبعثي عقب هزيمة حزيران 1967 وتوضح وبان هذا الانحسار عقب وفاة الرئيس عبدالناصر في 28 أيلول 1970. في حالات بدء المد السياسي، كما الليبرالي بالعشرينيات والعروبي بالخمسينيات والاسلامي بالسبعينيات، كان الفكر والثقافة يسبقان السياسة والتنظيم، وفي حالة الليبراليين مع مظاهر التحرر الاجتماعي وفي حالة الاسلاميين مع مظاهر المحافظة الاجتماعية في الزي والسلوك. كان «الاجتماعي» يترافق مع «الفكري» و»الثقافي» و»السياسي» و»التنظيمي». تأتي عدم مسبوقية هذا الفراغ من كون بدائل تيار الاسلام السياسي المنحسر غير ظاهرة في الملعب، أو حواليه، إذا حسبنا بأن البديل من الاسلاميين لن يكون خارج التيارات الفكرية - السياسية الثلاث: الليبرالية – العروبية - الماركسية، التي تصدرت وسادت مع الاسلاميين الساحة السياسية العربية منذ عشرينيات القرن الماضي. هذه التيارات الثلاث في حالة ترهل وضعف وانعدام اللياقة الفكرية – السياسية لكي تكون بديلاً سياسياً – تنظيمياً عن الاسلام السياسي، ما دام الماركسيون لم يفيقوا بعد من صدمة سقوط موسكو، والعروبيون كذلك من صدمة تراجعهم بعد فشل التجربتين الناصرية والبعثية في حكم القاهرة وبغداد ودمشق، فيما الليبراليون العرب المعاصرون عبر طبعة «الليبرالية الجديدة» قد سقطوا من خلال ذيليتهم للاسلاميين، كما في «اعلان دمشق»، ومن خلال التحاقيتهم بواشنطن التي كانت عامة عند جميعهم فيما لم تكن الذيلية للاسلاميين عامة عندهم، حيث كان الليبراليون الجدد المصريون والتونسيون بعيدون، بخلاف السوريين، عن الاسلاميين وفي تناقض معهم، وإن ابتلوا بمرض عضال وهو الارتماء والاستعانة بالديكتاتور الحاكم من أجل مواجهة الاسلاميين، وهو ما فعلوه في حالات زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعبدالفتاح السيسي.
* كاتب سوري