الارتباك الشامل هو السمة العامة التي تطبع المشهد السياسي الآن في الشرق الأوسط «الكبير»، الممتد من موريتانيا إلى باكستان! بل إن بعض هذا المشهد يتخذ تشكيلاً سوريالياً بالكامل؟ من كان يدور في خياله يوماً ما، في الماضي أو حتى في المستقبل، بأن دولة صغيرة مسالمة (تميَّزت بثروتها الكبيرة وبمبادراتها الاقتصادية) كالإمارات العربية المتحدة، يمكن أن تشارك طائراتها الـ«إف 16» في قصف مواقع في سوريا؟!
سبب الارتباك هو طبعاً، تسارع الأحداث، منذ حوالى ثلاثة أشهر، بطريقة مفاجئة لكل التوقعات والحسابات، ولكل الكتل والأحلاف والأفراد والمجموعات. منذ اجتياح تنظيم «الدولة الإسلامية» لمناطق إضافية واسعة في كل من سوريا والعراق وإعلان «خلافة» أبو بكر البغدادي عليهما، لا شيء سوى ذلك، تقريباً، يشغل الجميع في العالم وفي المنطقة على حدٍ سواء. ليس ما أقدم عليه تنظيم «داعش» مفاجئاً لكل الجهات على الدرجة نفسها. بات معروفاً أن عدداً من الدول كان متورطاً في تشجيع التنظيم المذكور وفي توفير دعم متعدد الأشكال له منذ انطلاقته حتى اندفاعته الكبرى الأخيرة.

لكن الجميع تفاجأ، من دون شك، بحجم النجاحات التي حققتها «داعش» في العراق على وجه خاص، ثمَّ بما أقدم عليه من عمليات وأشكال القتع والإجرام والإرهاب التي لم تستثنِ أحداً تقريباً، بشكلٍ عام.
الارتباك الأكبر طاول بلا شك محور «الممانعة» الذي فؤجئ بمسار جديد يضع حداً لنجاحاته المتواصلة، منذ سنة تقريباً، والتي شملت الحقول السياسية (في «جنيف 2» وفي تفكك وتهافت وتقاتل المعارضة المسلحة السورية)، والعسكرية في منطقة القلمون وريف دمشق، والاستراتيجية (في إقامة تحالف ذي بعد دولي وجيوسياسي يمتد برياً، من إيران إلى الحدود التركية مع سوريا... انتهاء باليمن الذي وضع لنفسه فيها قدماً ثابتة على غرار ما كان يتراكم حتى تبلور في اجتياح العاصمة صنعاء من قبل حشود ومسلحي «الحوثيين» مطلع هذا الأسبوع).
لم تزد التطورات اللاحقة هذا المحور إلا ارتباكاً خصوصاً حين بادرت سلطات الولايات المتحدة الأميركية إلى تشكيل تحالف دولي ضد «الإرهاب» بقيادتها طبعاً، وبدور نشيط لقيادة المملكة العربية السعودية التي بدت وكأنها «أم العروس» ( بعد إلحاح طويل على واشنطن لكي تتحرك في المنطقة لمواجهة محور «الممانعة»: في سوريا وفي العراق وفي طهران وفي بيروت... مروراً، خصوصاً، بموسكو التي لم تنفع معها إغراءات الرياض ولا عتب واشنطن قبل أحداث أوكرانيا).
يظهر أكثر ما يظهر هذا الارتباك على الطرف السوري الذي يبذل جهوداً متواصلة للتكيف مع الحلف الأميركي السعودي الجديد، ومن أجل تبرير ضرباته في سوريا، رغم عدم التنسيق الفعلي والمسبق مع دمشق، ورغم استمرار السعودية في المجاهرة بأن هدف ضرباتها العسكرية هو «داعش» والنظام السوري معاً. يحصل ذلك فيما لا تملك موسكو من وسائل العرقلة والمنع، التي أتقنتها طيلة ثلاثة سنوات، سوى تكرار التشكيك بمشروعية القصف الأميركي لسوريا، أما الموقف الإيراني فيراوح ما بين التحذير والانخراط في التنسيق مع واشنطن في العراق وإبداء الاستعداد للتعاون المشروط في سوريا، وبشكل عام، في المنطقة.
سينتصر أولئك الذين يراجعون حساباتهم ويعيدون النظر في إخفاقاتهم وأخطائهم

وسط كل ذلك، لا يبدو محور «الممانعة» قادراً على بلورة صيغة نشيطة ومبادرة بديلة. هو يحاول الحد من خسائره في العراق، وينظر بتوجس وشكوك إلى الانتقال السريع للقصف الأميركي من العراق إلى سوريا، ويتخوف من نتائج كل هذا المسار على مجمل الوضع في منطقة الشرق الأوسط.
ليست الأمور مختلفة كثيراً على المقلب الآخر. فالولايات المتحدة مترددة نتيجة إخفاقاتها وخسائرها السابقة. وهي محكومة باستراتيجية عدم التدخل العسكري المباشر (البري خصوصاً) إلا لاعتبارات دفاعية صرف. وحيث أنها اضطرت إلى خوض هذه الحرب، فقد حصرتها في غارات جوية غير مضمونة النتائج خصوصاً حيال قوة كمثل ما هو عليه تنظيم «داعش» من قدرة على التكيف مع الحرب الجوية والسعي إلى إفشال أهدافها.
ويطاول الارتباك، خصوصاً، مواقف قيادة المملكة العربية السعودية التي تتعدد حروبها هذه الأيام على نحوٍ غير مسبوق، ضد «الدولة الإسلامية» وضد الدولة السورية، وضد سياسات تركيا وقطر في دعم جماعة «الإخوان المسلمين» قبل وبعد الغارات على مناطق سيطرة «داعش» في سوريا والعراق. والسعودية مرتبكة أيضاً حيال التطورات التي تسارعت أخيراً في اليمن. فقد انهارت «العملية السياسية» التي كانت ترعاها وتدعمها لمصلحة جماعة «الحوثيين» المدعومين، خصوصاً، من بعض خصومها اليمنيين والإقليميين على سواء.
ويبرز ارتباك كبير أيضاً لدى القيادة التركية القديمة الجديدة بزعامة الرئيس أردوغان. لقد كانت تلك القيادة تدير سياسة مدعومة من واشنطن بمساعدة جماعة «الإخوان المسلمين» في تحركهم من أجل الوصول إلى السلطة في عدد من البلدان العربية والإسلامية، آملة من خلال ذلك أن تراكم نجاحات سياسية واقتصادية على مستوى الإقليم برمته. واشنطن تصغي الآن إلى قيادة المملكة العربية السعودية أكثر من سواها، خصوصاً بعد إخفاقات «الإخوان» في مصر. إلى ذلك فالقيادة التركية هي من أكثر المتورطين في دعم وتشجيع «داعش»، الذي باسم محاربة خطره قام الحلف الذي تقوده واشنطن في المنطقة، من دون أن تتمكن أنقرة من معارضته أو طبعاً من الانضمام إليه.
ينطبق ذلك الارتباك على قطر أيضاً. وقطر، كما ذكرنا سابقاً، دور لا دولة. هي تكاد تُضبط بالجرم المشهود في دعم الإرهاب، وإن كانت واشنطن قد شجعت حلفاءها، بشكل شبه مباشر، على استخدام كل الوسائل لـ«تغيير ميزان القوى في سوريا» بعد فشل مؤتمر جنيف الثاني في تحقيق أهداف واشنطن وكل «أصدقاء» الشعب السوري بإزاحة أو إضعاف سلطة الرئيس بشار الأسد.
وسط كل ذلك الارتباك والمرتبكين تغيب تماماً عن المشهد قوى أخرى، من خارج المحورين المذكورين. عنينا القوى التي رفعت تاريخياً شعارات التغيير الجذري. يمكن أن تتبلور، تباعاً، احتمالات خروج المحور الأميركي من ارتباكه. لا تبدو، مثل هذه الاحتمالات متوقعة، راهناً بالنسبة إلى الفريق «الممانع». أما بالنسبة إلى الفريق الثالث، المذكور آنفاً، فاحتمال نهوضه من كبوته مؤجل حتى إشعار آخر...
دخلت المنطقة وقضاياها وشعوبها مساراً مضطرباً جديداً. لن يكون الخروج من ذلك سهلاً. انتصارات هذا الطرف أو ذاك ستكون نسبية. وهي انتصارات ستكون أيضاً شديدة التكلفة وخصوصاً على شعوب المنطقة وعلى عمرانها وعلى سيادتها.
سينتصر، بطريقة أو بأخرى، أولئك الذين يراجعون حساباتهم وأساليبهم ويعيدون النظر في إخفاقاتهم وأخطائهم. سيعي الأميركيون وحلفاؤهم لإعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحهم، لا بد من خطة مقابلة مختلفة، لا بد، تكراراً، من «ممانعة» من نوع جديد ذات برنامج أكثر اتساعاً وأكثر جذرية وأكثر تعبيراً عن مصالح شعوب المنطقة وبلدانها وإنسانها: في التحرير والحرية والتقدم والعدالة والديمقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني