ليست معاناة السوريين بسبب القضايا الطارئة أو المستجدة، فهم كانوا، على الدوام، ضحايا أزمة اقتصادية بنيوية، يتم في سياق تحولاتها إعادة إنتاج سياسات اقتصادية تحمل ملامح وأسباب الأزمة ذاتها.

اللحظة الأولى


قبل حوالى ثلاثين عاماً، أي في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، عانى السوريون من حصار اقتصادي خانق. كان يتعذر عليهم تأمين أبسط مستلزمات حياتهم اليومية، يُستثنى من ذلك طبعاً أصحاب النفوذ والحظوة ومن يدور في فلكهم. وقد وصلت حركة رأس المال إلى أدنى مستوياتها، كذلك حركة التجارة الداخلية والخارجية. الأسواق كانت تفتقر إلى السلع والأسعار تُراوح عند حدودها الطبيعة. يعود ذلك إلى إحكام الدولة قبضتها على حركة التبادل التجاري. وكانت المؤسسات الاستهلاكية العامة مسؤولة، بشكل شبه كامل، عن بيع وتوزيع المواد الاستهلاكية، الأساسية تحديداً. كانت المؤسسات المذكورة تعمل في إطار «وزارة التموين والتجارة الداخلية»، التي كانت مسؤولة عن مراقبة وتنظيم حركة الأسواق والأسعار والإشراف عليها. إلا أنّ ذلك لم يكن يعني أن الأسعار لم تكن تخرج عن سيطرة تلك الجهات أو أن الفساد كان معدوماً. فالفساد والفاسدون كانوا يتصدرون المشهد.
من جانب آخر، انطلقت حوارات الجهات الرسمية وشخصيات أكاديمية وممثلين عن القطاعات الاقتصادية والتجارية والصناعية والزراعية في أواسط السبعينات لتحديد هوية الاقتصاد السوري، لم يُكشف عن تفاصيل تلك الحوارات على الرغم من أهميتها. وكان المشاركون فيها يُمثلون اتجاهات اقتصادية متنوعة، تمثلت بـ: رأسمالية الدولة (التحويل الاشتراكي)، الاقتصاد المشترك والاقتصاد الليبرالي. لكن أياً من ممثلي تلك التيارات لم ينجح في فرض نموذجه الخاص، فبقي التداخل والاختلاط بين تلك الأشكال، السمة الأبرز للاقتصاد. نتيجة ذلك، ولأسباب أخرى، غابت الهوية النمطية أو الكلاسيكية عن الاقتصاد السوري. أما القرار النهائي، فكان بيد السلطات العليا وبعض رموز المال والأعمال، الذين حافظوا على علاقة عضوية مع الجهات النافذة.
السياسات الاقتصادية الأخيرة تُعبِّر عن مصالح الميّالين إلى الاقتصاد الحر


اللحظة الراهنة


إذا نحيِّنا جانباً مناقشة تداعيات الصراع وإشكالية انعكاسه على الاقتصاد، نستطيع تكثيف اللحظة الاقتصادية الراهنة بكونها تُشكل تخلياً كاملاً عن السياسات الاقتصادية ذات الملامح الاجتماعية، يتم ذلك في سياق تمكين سياسات تحرير الاقتصاد. ونتيجة ذلك يعاني السوريون من خطرين. الأول: تداعيات الحرب وويلاتها وجشع تجَّارها وفسادهم، إضافة إلى مرتزقة وفاسدين يتكاثرون كالفطر على ضفاف الأزمة السورية. ثانياً: سياسات اقتصادية تحريرية ينزلق بسببها السوريون إلى مستنقع الفقر والمجاعة والبطالة، إضافة إلى انتشار ظاهرة التسول. ونُذكِّر أن انتشار ظاهرة تسول الأطفال والنساء ليست غريبة عن المشهد السوري، فهي تفاقمت بشكل لافت منذ منتصف العقد الماضي.
أما عن أسباب تلك التداعيات، فلا يمكن ردّها فقط إلى سياسات ارتجالية. فالأوضاع والتحولات الاقتصادية تتعدّى ذلك وتتجاوزه إلى برنامج منهجي ومدروس، هدفه تمكين نمط اقتصادي نيوــ ليبرالي، أي أننا في مرحلة يتم فيها العمل من بوابة تحرير تجليات البنية الاقتصادية كافة: تحويل الاقتصاد السوري من اقتصاد اجتماعي هيمن عليه بعض المستفيدين والمتنفذين لعقود عدة، إلى اقتصاد نيوــ ليبرالي متحرر من القيود والضوابط أي إلغاء أي دور اجتماعي أو تنموي للدولة. وفي هذا الوقت، يحكم التجار والمستثمرون وبعض رجال السياسة والعسكر قبضتهم على مفاصل الاقتصاد ويُحولون المواطن السوري إلى بائع حرّ لقوة عمله. ومن المرجح أنّ حاجة السوريين إلى البقاء، ستجعلهم يبيعون قوة عملهم بأبخس الأثمان. عند هذا المستوى تكون الدولة (السلطة) قد تخلت عن مسؤولياتها الاجتماعية وهي بذلك تخالف السياق الموضوعي لتطور الدول الرأسمالية، التي ما زالت تُعبِّر عن مواطنيها، إضافة إلى كونها تسيطر على بعض القطاعات الإنتاجية والمؤسسات السيادية ذات الصلة. ما يعني، أنها لم تتخلَّ عن مهامها وواجباتها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها لصالح رأس المال الحرّ. لكن ذلك لا يلغي أو ينفي أنها ترتبط عضوياً وبنيوياً بحركة رأس المال وميوله العامة وهي تغطي جزءاً من مسؤولياتها الداخلية من خلال تكثيف نهب مواردنا الوطنية وما يتبعه من تعميقٍ للتبعية والارتهان. ولا ينفصل ذلك عن افتعالها للحروب التي تهدف، إضافة إلى ما ذكرناه آنفاً، إلى تسريع عجلة الصناعات العسكرية.
من جانب آخر، لا يمكننا التغاضي عن بعض الإنجازات مثل، مجانية التعليم والطبابة ودعم المواد الأساسية الغذائية والنفطية وأمور أخرى. إلا أنها لم تندرج في سياق مشروع تنموي اقتصادي اجتماعي وبشري متكامل. إضافة إلى ذلك، فإن التحولات التي نلحظ تجلياتها في الآونة الأخيرة، تصبّ في سياق التخلُّص من آخر ملامح الاقتصاد الاجتماعي المذكورة. ويتجلى ذلك من خلال: عمل الحكومة على خصخصة القطاعات العامة الإنتاجية وغير الإنتاجية، توسيع مشاركة رأس المال الخاص في قطاعي التعليم والصحة، تخلي الحكومة عن دعم المواد الأساسية، تحرير أسعار حوامل الطاقة، تحرير الأسعار والأسواق، رفع المعدلات الضريبية المباشرة منها وغير المباشرة وإطلاق يد التجّار في رسم السياسات الاقتصادية، تراجع مستوى الرقابة الرسمية، استفحال دور المتنفذين في الفساد. وجميعها تجليات تندرج في سياق ميول ليبرالية تُناقض مصالح الفئات الفقيرة والمهمَّشة. ومن اللافت أن التحرير الاقتصادي الذي استوجب انسحاب الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية، لم يترافق مع تحرير النقابات ومؤسسات المجتمع المدني والحياة السياسية عن سلطة الدولة.
إذا دققنا في السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة، نلحظ أنها تنسجم مع السياق العام للتحولات الاقتصادية البنيوية وتعبِّر عن النمط الاقتصادي النيوــ ليبرالي الذي يتم العمل على تمكينه. وقد نوهّنا سابقاً، أنه ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي، كان يتم وضع أسس الاقتصاد الحر وتمثّل ذلك بداية في إصدار المرسوم رقم 10 الذي كان من نتائجه ارتفاع نسبة مشاركة القطاع الخاص مقابل تراجع مشاركة الدولة. وترافق ذلك مع تغيير بعض الوجوه السياسية تمهيداً لمرحلة أخرى مختلفة شكلاً ومضموناً. ومعلوم أنه حتى بداية الألفية الثالثة، كان أصحاب القرار يحافظون، ظاهرياً، على التوجهات العامة لرأسمالية الدولة. من ناحية أخرى، كان الإعلان والترويج الإعلامي عن ابتكار وصفة «السوق الاجتماعي المستوردة» يتزامن مع محاولة تمكين سياسة التحرير الاقتصادي وتخلي الدولة (السلطة) عن الجانب الاجتماعي للاقتصاد.
نؤكد، أخيراً، أنّ كل السياسات الاقتصادية الأخيرة، بما فيها السياسات المالية، تُعبِّر عن مصالح الميالين إلى الاقتصاد الحر. وهؤلاء يرفضون أي دور تنموي واجتماعي للدولة، لكنهم يتمسكون بدورها الأمني لضبط تحركات السوريين، سياسية أو غير ذلك. وهم في سياق تمكين استثماراتهم الخاصة، يتمسكون بعدم المشاركة في إنشاء وتطوير بنية تحتية تناسب التحولات الاقتصادية النيوــ ليبرالية وفي «حقهم» في استخدام البنى التي أقامتها الدولة، مدعين أن الدولة هي الجهة المسؤولة عن تطوير البنية التحتية لتشجيع الاستثمار وتسريع حركة ودوران رأس المال.
*كاتب وباحث سوري