لا يمكن أن يكون المشهد أكثر تأثيراً من ذلك، لقد اكتمل بكل عناصره المبهرة. قاعة كبرى تشبه قاعات مسارح الأوبرا أو الكنائس الأوروبية القديمة، اصطف جمهور حاشد من النخب العربية المهاجرة والمتغرِّبة والمهتمين بقضايا الشرق الأوسط ودراساته وسياساته، امتلأت كلُّ الصفوف، لم يعد هناك مكانٌ لوافدٍ جديد. جلس الفيلسوفُ الضيف صاحبُ النظرية الجديدة على كرسيه في مواجهة مُذيعٍ عربي، وراحت وقائعُ الحفلة تُعرض مسجلة ومنقحة باهتمامٍ عبرَ أهمِّ قناة عربية نفطية تنطق باللغة الانجليزية.
صاحب النظرية والمكان والحضور والقناة التلفزيونية كلها تبدي القدر الكافي المطلوب من الرغبة والاهتمام لمناقشة القضايا العاصفة في العالم العربي ضمن سياق ما صُدِّرَ له تحت تسمية ثورات «الربيع العربي».
كانت حفلة النقاش والتنظير للفيلسوف الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي ضمن برنامجhead to head الذي سجلته قناة «الجزيرة الانكليزية» مع حضوره النخبوي تمثل ذروة جديدة من ذرى الاستعلاء الغربي على الأطياف الفكرية العربية المتغرِّبة أو المُستَغربة، بين من اختار الغرب موطناً ومستقراً أخيراً له أو أولئك الذين ما زالوا يستمطرون الحلول الغربية للمنطقة ويرون أنها الحلول العبقرية الوحيدة القابلة للتطبيق في شرقنا العربي الذي أصيب بلوثاتِ الجنون الحالية.
كان التيار العام الجارف للفكر الاستشراقي التقليدي في العالم الغربي قد تأسس على قاعدة أن الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً يعانون من عدم أهلية واضطرابات سلوكية عامة، تجعل من الصعوبة انسياقهم بشكل سلس مع التطورات الحضارية البشرية المعاصرة والتي نضجت في المجتمعات الأوربية بعد استتباب ثوراتها العلمية بعد القرون الوسطى. وقد انبنت على هذا الفهم الذي رسخه المستشرقون في القرون الثلاثة الأخيرة توطئةٌ ذرائعية لكل الانتدابات وحركات الاستعمار التي اجتاحت الوطن العربي بدءاً من الحملات الفرنسية والبريطانية للمنطقة وليس انتهاءً بالقواعد الأميركية الرازحة في كثير من البلدان العربية كحاميات أنظمة.
«فالعرب قوم يركبون الجمال، إرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسقون، مرتشون، لا يستحقون ثرواتهم وهم إهانة حقيقية للحضارة»، وبالتالي فللغربي المثقف الحضاري العلمي العملي المتطور أن يمارس وصايته على هذا الشرقي وما يملكه من ثرواته وأن يساعد في إدارة حكمه أيضاً.
لعل هذه الفكرة المسيطرة على العقل العام الواعي الغربي هي المحفز التاريخي لما جرى ويجري في هذا الشرق الواسع، وان استطاعت بعض أجزاء هذا الشرق مثل الهند ومجاوراتها الانعتاق الجزئي من هذه الوصاية التاريخية.
إن أفواج العرب والإسلاميين المضطَهدين التي تتالت على الهجرة والالتحاق بالدول الأوروبية خلال فترة صراعات السلطات الوطنية الجديدة مع الأحزاب المختلفة في القرن الماضي شكلت أملاً عريضاً لفكر نهضوي تعتمده الأمة من أجل طريق جديد مختلف نحو مجتمعات مدنية حضارية وفهم معتدل لإسلامٍ سمحٍ عقلاني تربى في كنف الديمقراطيات الأوروبية الحديثة، بعيداً من القهر والقمع الذي صبغ الحكومات الوطنية في فترات الاستقلال الوطني وما تلاه، وظهرت تعابير بآمال واسعة من مثل أن شمس الإسلام الحقيقي ستشرق مجدداً من الغرب.
اليوم حوامل الفكر الإسلامي المتطرف الأعلى صوتاً المدعم بإمبراطوريات إعلامية نفطية ذات مداخيل مالية ضخمة تنتشر في كل العالم الغربي وتتكاثر الأفهام المتطرفة للإسلام بشكل غير مسبوق بما يهدد كلَّ الإسلام المعتدل الذي كان أسرع الأديان نمواً في الغرب، ويجعله كما المعتقدين به أو المنتمين له في مواجهة مقبلة حتمية مع اليمين المتطرف الغربي عندما ستفتح الملفات المجمعة للإسلام الحاضر بصورته «المتطرفة» على سطح العالم.
ومع بلوغ الخواء والعقم الإيديولوجي في المنطقة هذه الدرجة، الخواء الذي يهدد «بمواليد مليصة» من المشاريع المتصارعة في كل الساحات العربية، مشاريع إسلام سياسي متطرف ترفضه بيئته، مشروع إسلاموي «إخواني» يلفظ أنفاسه ويحتضر في المنطقة، مشروع قومي متعب منهك، مشروع ليبرالي مدني غير واضح المعالم وغير مزود بقدرات رافعة.
يصل المأزق العربي ذروته ويتولد تيار عربي ذرائعي مدعوم بقدرة مادية وإعلامية، تعمل على بث اليأس والقنوط في صفوف الجماهير العربية، وتتم الاستعانة بالمفكرين المستشرقين لإيجاد حلول لصراعاته الراهنة، وكما كان يعتقد أن الحلول العبقرية تأتي مع كثير من المستشرقين مثل شامبليون الذي فكك طلسم الكتابة الهيروغليفية من حجر الرشيد إبان حملة نابليون في احتلال مصر فها هي «الميديا» العربية تواكب الأحداث المشتعلة بشخصيات عبقرية لطرح حلول لأزمات استعصت في هذه البلدان العربية المعقدة التركيب والصعبة الفهم!
قال شاتوبريان: «إن الشرقيين لا يعرفون الحرية وهم يحتاجون الفاتحين كل فترة».
راحت منظمات عربية
تطلب التدخل الأجنبي لحماية الشعوب المظلومة ورعايتها

أما كرومر فقال: «إن الفاتحين يعدون ضرورة للشرقيين». وهو يعتبر العدوان الغربي على البلدان الشرقية تحريراً وليس غزواً أو احتلالاً وأنهم يحتاجون كل فترة مخلصاً جديداً.
أما لامارتين فقال في خلاصته بعد أن زار بلاد العرب: «أمم بلا أراضٍ، ولا أوطان، ولا حقوق، ولا قوانين ولا أمن، تنتظر بقلق حماية الاحتلال الأوروبي لها».
اليوم يُستجلب برنار هنري ليفي بأموال عربية ويحاط بهالة الفهم والألمعية، ليعطي نخب المنطقة درساً قديماً مكرراً في كل تاريخ الاستشراق التقليدي الغربي المدون والمنقول من جيل إلى جيل، درساً في الإذلال ونقص الأهلية والتخلف والدونية، درساً يتناقله الغربُ المستعمر من لامارتين إلى بلفور وكرومر وفيلبي ولورنس إلى برنار لويس ليصل إلى الفيلسوف الفرنسي الجنسية الصهيوني الهوى، النرجسي ذي الشخصية الهستريائية، الذي يصر طوال الوقت على أن يكون في كادر صورة الحدث الجاري. ولو اضطر إلى أن يمدَّ رأسه مقتحماً طرف الصورة، ظهوره في أيٍّ منها يلقي شبهة على الحدث برمته، صوره عديدة، صورة في غرفة عمليات عسكرية ليبية، صورة مع عبدالجليل متأبطاً ساركوزي وكاميرون في انتصار «ثورة الناتو» في ليبيا، صورة في ميدان التحرير في مصر، صورة مع «ثوار» سورية.
يجلس على كرسيه يضع كل الحاضرين والمشاهدين أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، خياران يذكران بفجور خلاصةِ لامارتين السابقة: «ليس أمام العالم الغربي المتحضر إلا أن يقف مكتوف الأيدي أمام أعمال الطغاة العرب (المتوقعة الحدوث أو المزمع البدء بها أو التي تقع ضمن ظروفها) أو أن يتحرك بقوته المسلحة العنيفة وأساطيله الجرارة وأسراب طائراته المدمرة، ليسقط هذه الأنظمة التي خرجت من الرعاية الغربية أو التي تمانعها أو تلك التي فقدت مفاعيل وجودها أو صلاحية استخدامها».
وبرنار هنري ليفي وهو يضع الجميع في هذه الزاوية الضيقة من الاختيار، يعتقد أن الإجابة ستكون تأكيداً إجبارياً لنظريته التي ما زال يروج لها وهي التدخل العسكري «الإنساني» في بعض دول «الثورات العربية». يقدم الرجل انجازاته الميدانية في بعض الدول وليبيا بشكل خاص كنموذج يُحتذى لمشروع متكامل الأركان (تشكيل راوية ملفقة، ورفدها بثوار مشبوهين، وتعزيزها بقرارات وقوى دولية لإسقاط النظام).
كم بدا مشوشاً مرتبكاً! عقلاً باتجاهين متعاكسين، وبمعايير مزدوجة، في تبريره الساذج عدم التدخل في البحرين، وعندما تاه في تفسير دور فرنسا (المتناقض) في دعمها للرئيس بن علي في تونس لآخر لحظة، ودورها الفاعل في التدخل في إسقاط الدولة الليبية، ولم تنفع كل التقسيمات والتصنيفات التي وسم بها دولته (بين فرنسا مظلمة تقف مع الطغاة وأخرى أقل قتامة دعمت التدخل العسكري في ليبيا) لأنها كان تحت سلطة رئيس واحد (ساركوزي) في كلا التصرفين. يبدو الرجل بكلماته غير نادمٍ على تصرفاته في ليبيا وعلى الحالة التي وصلت إليها، بل فخور بها ويعتبرها نموذجاً يُحتذى في تدخلاتٍ أخرى.
فيلسوف المنطقة الرمادية يدافع عن حلوله العبقرية التي تُقدم للشعوب المحطّمة أفضلَ الأجوبة السيئة، فلا توجد في هذا العالم حلول فضلى أو مثالية كما قال، من دون أن يتنبه إلى أنه يمثل تياراً مضلِّلاً للشعوب يُنظّر ويبيعهم أوهام الديمقراطية والحرية والمساواة ويستخدمها كشعارات زائفة لتقويض دولهم وتمزيقها وتفتيتها ونسف الأمن الاجتماعي فيها، ليصل بهم إلى عالم رمادي مجنون من الكوارث اليومية أسوء من ذلك الذي كانوا فيه.
والمأساة الأخرى أن هذه الحلول الكارثية يُبتدئ بها أولاً من دون أن يُدفع بالحلول السلمية الأخرى (دبلوماسية التحاور والإصلاح) ومن دون أن تستكمل هذه دورها في معالجة الأزمات عند وقوعها ويعلن فشلها.
أما في موضوع التدخل العسكري في سوريا لدواعٍ إنسانية، فواضح أن الرجل مصابٌ بالإحباط واليأس والقنوط إذ أن الصراع في سوريا يتجاوزه ويتجاوز دولته فرنسا ذاتها، إذ أن الصمود السوري الأسطوري بعوامله المختلفة جعل فرنسا تكتفي بلعب أدوار هامشية لم تؤثر مطلقاً في سياق الأحداث العام.
قوبل الرجل برأي مفحم أن سبب الفشل العالمي في سوريا هو عدم الوقوف الحاسم أمام التدخل الدولي في سوريا الذي حصل منذ اليوم الأول مع المليارات التي ضُخّت من قبل الدول النفطية لتأجيج الرأي الشعبي وإدخال عشرات الآلاف من المرتزقة و«المجاهدين» من أجل إسقاط الدولة السورية.
قال كوفي أنان معلقاً على استخدام التدخل العسكري [الإنساني] في نزاعات الشرق إنه لا يدري أيهما أخطر المرض أم الدواء المستخدم في العلاج.
لم تكتفِ المنظومة «الفكرية» السلطوية في بعض الدول النفطية العاملة بمثابة «وكلاء تنافسيين» لمراكز نفوذ استعماري بالعمل على تبرير هذه الحلول القسرية القاسية في المنطقة، بل ذهبت بعيداً في الترويج لها على أنها حلول عبقرية للقضاء على الدكتاتورية والاستبداد والظلم الاجتماعي، في سياق ثورات شعوب المنطقة من أجل الحرية وتحقيق الديمقراطية، وراحت كل المنظمات العربية والإسلامية المدعمة بنفوذها النفطي تطلب التدخل الأجنبي لحماية ورعاية الشعوب العربية المظلومة.
يبقى سؤال حائر نقذفه للمستقبل: متى ستطوي هذه المنطقة صفحات هذا الفكر الاستشراقي بمفكريه وغلمانه الكُثر من أبناء جلدتنا من سفراء الرجل الأبيض في ديارنا وديارهم ومن مبرري غزواته المتلاحقة فيها، وتنضم إلى ذلك الفكر الرائد الصاعد الفتي الشابّ عن الطوق في أميركا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية المنطلقة بقرار وطني مستقل معبر عن رغبات وآمال شعوبها، بعيداً من تلك النظرة السلطوية الامبريالية الاستعمارية في العالم، وتبدأ دول المنطقة العربية تكتب تاريخها ومستقبلها الخاص ولو متأخرة جداً بعد هذه الكوارث الراهنة التي تهدد ما تبقى من وجودها الذاهل المرتبك المتخبط.
لا بد أن تولد من قلب هذه العواصف والمحن القاسية دولٌ (ولو كانت قليلة) وقيمٌ (ولو كانت معاكسة للسائد) تصنع خطّها ونموذجها الخاص الذي ينسف كل المتداول والمنقول من التراث الاستعماري الاستشراقي وتجعله كمطالعة المسرحيات الكوميدية وتترك للتاريخ مقولة تثبت صحتها كل فترة: أن الدول العظيمة تصنعها الإرادات الصلبة.
* كاتب سوري