حتى اذا اعتمدنا نظرةً شديدة التساهل تجاه القيم والمبادىء، فإنّ الكذب في السياسة له نطاق فعالية محدّد ومحصور، خلال فترات التقلّب وعدم اليقين مثلاً، ثمّ تصير له بعد ذلك مفاعيل عكسية. أمّا من يصرّ على ابقاء الكذبة حيّة في وجه الحقائق، وعلى استدخالها في سرديّته وثقافته السياسية، فهو سينتهي الى حركة معزولة عن التاريخ والواقع، كالبعثيين العراقيين الذين ظلوا يؤكدون باقتناع، حتى بدء الغزو عام 2003، أنهم منتصرون على أميركا.
يستغرب صحافي غربي قضى أكثر السنوات الماضية في سوريا وبين مجموعاتها المسلّحة اللازمة التي سمعها من كلّ قائد اجتمع به - بلا استثناء - عن الخذلان الغربي ومظلومية الثوّار تجاه العالم الذي «تخلّى عنهم». هناك وقائع: تمّ رسمياً صرف مليارات الدولارات من قبل الحكومة الاميركية وباقي «اصدقاء سوريا» لصالح المعارضة، أيّ ثورة في التاريخ حظيت بأكثر من ذلك؟ وبعيداً عن الكلام الفارغ عن «السلاح النوعي» الذي حبسه الغرب مانعاً «الثورة» من الانتصار (كلّ الناس صاروا خبراء عسكريين)، فإنّ السلاح الذي تدفّق على المعارضة يكفي لقلب ثلاثة أنظمة - وشنّ حربين اهليتين، وغزو خارجي - فما هو بالضبط هذا السلاح النوعي الذي كانوا ينتظرونه؟ بطاريات باتريوت؟ حاملات طائرات؟
منذ أيّام، كتب أحد منظّري المعارضة مقالاً يذهب خطوةً جديدة في أسطرة التدخّل الاميركي، اذ انّه ينتقل من خطاب انكار التدخّل إلى الاعتراف به، والجزم بأنّه كان موجّهاً ضد الثوار! هذه النظرة تنطوي على مصيبة من مستويين: أولاً، أنّ هناك فعلاً من يعتقد أنّ تسليح المعارضة قد جرى بمعزل عن أميركا، وأنّ قطر والسعودية تسلّحان على هواهما، وأنّ الدول الخليجية كانت تعقد صفقات مع كرواتيا، مثلاً، وتنقل السلاح على متن الطائرات العسكرية الى تركيا، حتّى تدخل سوريا عبر الحدود، بمبادرة «سياديّة» منها. هيلاري كلينتون قالت بوضوح في تصريحٍ رسمي، منذ أكثر من عامين، إنّ الأجهزة الأمنية الأميركية كانت تنسّق بشكلٍ وثيق مع تركيا منذ بداية الأزمة - ولكنّ مثقّفينا لهم سرديّاتهم الخاصة، وهم لا يسمحون للوقائع بأن تقف في طريقهم.
المصيبة الثانية هي أنّ هناك من يحلّل النزاع السوري على أنّه لعبة اميركية مخطّطة سلفاً، وأن أميركا لم تكن تنوي اسقاط النظام، وأن هناك امكانية لإشعال نزاعٍ ما والتحكّم بدقّةٍ بمستواه ووتيرته ونتيجته (وهذا الكلام يأتي ممّن يعتبرون أنفسهم قد تحرّروا من «نظرية المؤامرة»). من دون أن نطرح السؤال البديهي حول «واجب» الغرب في دعمك، أو دعم أي ثورة، حتّى تطالبه وتلومه، فإنّ المؤكّد أن هؤلاء لا يريدون سلاحاً ودعماً، هم ببساطة يريدون من يحارب عنهم، وأميركا لن تمانع أن تخوض معاركها نيابة عنهم، ولكنّها - من دون سببٍ ملحّ - لن ترسل ابناءها حتى يقاتلوا ويموتوا من أجلك.