فقط عندما انقشع الغبار عن ستة أيام حزيرانية من عام 1967، أدرك المصريون ومعهم العرب أن فكرة بناء منظومة عسكرية كلاسيكية تقابل مثيلتها لدى إسرائيل كانت وهماً خالصاً. حينها، هُزمت أشياء كثيرة. منها تفاؤل الاشتراكية بقدرتها على بناء الدولة ـ النموذج في ربوعنا، وعدولها عن ذلك نحو تبني أحزاب غاضبة من كل شيء من دون أي أفق على الإطلاق باستثناء الرطانة الثورية المحدودة التأثير.
منها أيضاً موقع الندّية نفسه الذي احتمله العرب هدفاً في متناولهم فإذا بهم يتقمصون ذهنية أقلوية ويُجبرون على اعتماد تكتيكات حروب الغوريلا في صراعهم مع إسرائيل في سابقة تاريخية بامتياز نظراً إلى تفوق تعدادهم السكاني الساحق. لعب التفاوت التكنولوجي من دون شك دوراً مهماً في تموضع الطرفين كليهما في الاستراتيجية القتالية المعتمدة. كان انكفاء العرب، المقاتلين منهم، إلى حروب العصابات صعباً ومذلاً إلا أنه لم يكن خاطئاً بالضرورة.

استطاعت المقاومة في زمن قياسي الانتقال بالفعالية من مرحلة الإزعاج إلى موقع الإيلام

حملت تجارب المقاومة الناجحة في لبنان وفلسطين هذا الإرث. واستطاعت في زمن قياسي الانتقال بالفعالية من مرحلة الإزعاج إلى موقع التحدي والإيلام. في أيّار من عام 2000، تكدست الإخفاقات الإسرائيلية في لبنان واستطاعت المقاومة أن ترفع كلفة الاحتلال إلى مستويات قياسية بحيث تحول قرار الانسحاب من لبنان شعاراً انتخابياً مُرجحاً للحملات الانتخابية في إسرائيل، وهكذا كان. ولا يمكن بأية حال قراءة تفاهم تموز 1993 واتفاق نيسان 1996 إلا في إطار كونهما محطتين معياريتين على قوس بياني تصاعدي يمثل بأمانة التلف التدريجي لخيارات إسرائيل الردعية في موازاة تطور حضور المقاومة وجديتها على الساحة القتالية. أما ما تلى ذلك، فمسار تراكمي لمعادلات الردع تخللته قفزات نوعية جرى اختبار مجملها وتوطيد مفاعيلها في صيف 2006. ويمكن القول بأقل قدر من المبالغة إن مقدار الأذى المقابل شكّل إسمنتاً يُعتد به لحالة ردعية نجحت في الديمومة لثماني سنوات في بيئة استراتيجية خصبة لنمو سائر أنواع المقبلات أمام عدو طالما فتحت شهيته الحربية أدنى فرصة «للتنمّر» الإقليمي. والجدير بالذكر أن القدرة المتبادلة بين الأعداء على إحداث «الألم الذي لا يطاق» هي نفسها التي أدارت ملف الصراع الدولي المفتوح بين معسكري الرأسمالية والشيوعية في النصف الثاني من القرن الماضي، وهي نفسها التي أبقت حرارته العسكرية في مستويات متدنية لأن صراعهما لم يكن بالإمكان إلا أن يكون بارداً والبديل كان كارثياً ببساطة. إذاً، الردع الذي تأسس بين إسرائيل والمقاومة في صيف 2006 كان ينهل من هذه النظرية تماماً، والقائلون بانتصار المقاومة ينطلقون من مقاربة منطقية تتجلى في حقيقة أن المقاومة، لا إسرائيل، هي من حجز بطاقة ردع مستجدة أمام عدو أدمن كيّ الوعي العربي المُحتبس بآلته العسكرية التي حرص على أسطرتها في أكثر من محطة.
في المقلب الآخر، فإن الهدوء المكلف الذي أعقب هذه الحرب أسدل الستار على دور الساحة اللبنانية كحقل تجارب ومتنفس عسكري شبه مجاني للآلة الحربية الإسرائيلية. عنى ذلك أن تؤدي غزة هذا الدور بحكم كونها الحلقة الأضعف موضوعياً على امتداد الجبهات المقاومة. بإمكان أي متتبع ليوميات المقاومة الفلسطينية في الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة أن يخرج بانطباع مفاده أن المقاومة استنسخت نموذج حزب الله مع بعض الفروقات البسيطة التي فرضتها جغرافيا القطاع. شكّل سلاح الصواريخ لدى فصائل المقاومة وسيلتها الفعالة لإيصال الحرب خارج أرضها، وسقطت مجدداً إحدى ركائز الفلسفة القتالية المُخلّعة لدى إسرائيل التي تحتم خوض الحروب على أرض الآخرين. أما الدعامة الثانية في استراتيجية المقاومة فكانت أفضليتها الواضحة في المواجهات البرية ما ساهم في تعقيد أي قرار إسرائيلي بالتوغل البري فضلاً عن التفكير باحتلال دائم لمناطق في القطاع. في المبدأ، فعلت المقاومة الفلسطينية ما فعله حزب الله في الجنوب اللبناني عام 2006، فهل من المنطقي أن تتوقع غزة أيضاً ثماني سنوات من الهدوء على جبهتها؟ ليس تماماً. فغزة ليست جبهة خارجية في المخيال السياسي والاستراتيجي لاسرائيل وبالتالي فإن الأخيرة لن تكف عن محاولة الانتصار الواضح والصريح على جبهتها، وسيبقى العدوان على غزة عرضة للمزايدات في لعبة السياسة الداخلية الإسرائيلية في غياب أي مفاجآت محتملة بالنسبة لصانع القرار الإسرائيلي.
في مراجعة سريعة لتداعيات حرب إسرائيل الثانية على لبنان، خرج تقرير لجنة فينوغراد ليوثق الهزيمة الإسرائيلية بنص يناهز 600 صفحة. لكن هذه الهزيمة، ككل الهزائم، تمثل مختبراً استراتيجياً يملك أن يسدل الستار على تكتيكات عسكرية ويعزز من حضور غيرها. ففي فقرته الخامسة والثلاثين قال التقرير ما حرفيته إن «الجيش الإسرائيلي تصرف في الحرب كمن خشي من وقوع الإصابات في صفوفه». ألمحت هذه الخلاصة إلى نهاية حقبة التصنيف الكلاسيكي الإسرائيلي لحزب الله على أنه ميليشيا مسلحة. لاحقاً قالها العديد من النخب الأمنية والسياسية في إسرائيل، لا مناص من النظر بجدية إلى حزب الله على أنه جيش متكامل يعتمد تكتيكات عسكرية غير تقليدية. في أولى تداعيات نظرة كهذه، فإن مجرد إيصال الصواريخ إلى العمق الإسرائيلي لن يُعتبر خارقاً للعادة بالنسبة إلى إسرائيل لأن ذلك هو ما تتوقعه الجيوش المتحاربة خلال مجريات الحرب. لا يخفى أن مجرد إعطاء إسرائيل للحزب صفة الجيش يحمل في طياته امتصاصاً مستقبلياً لحجم إنجازات الحزب مع ما لذلك من توسيع لهامش المناورة للمستوى السياسي في وضع أهداف متواضعة وبالتالي أكثر عقلانية من حيث القدرة على تحقيقها. ولا يُفهم تهديد الأمين العام لحزب الله باحتلال الجليل أو إشارته إلى أن صواريخ المقاومة لن تكتفي «بتفخيت الحيطان» في تل أبيب إلا في هذا السياق حصراً. المقاومة إذا قررت أن تكون على مستوى الحدث وهي بذلك قبلت عملياً أن تجاري إسرائيل في رفع مستوى التحدي. حسناً، ماذا عن نظرية الضاحية؟
رمت إسرائيل على طاولة الحرب المقبلة «نظرية الضاحية» وهي لسخرية القدر الإنجاز الوحيد الذي خرجت به من حربها الثانية على لبنان في صيف 2006 بحسب العديد من نخبها العسكرية والسياسية. ونظرية الضاحية ليست عسكرية بالضبط، إنها نظرية حرب بالمعنى الواسع للكلمة إذ إنها تقوم على التدمير الممنهج لأحياء وقرى بكاملها ما يرفع كلفة الحرب على حاضنة المقاومة الشعبية إلى مستويات قياسية. وللتذكير فقط، فإن إسرائيل وضعت اللمسات الأخيرة على هذه النظرية خلال الأيام الأخيرة من حربها الثانية على لبنان عندما تخلت عن وهم كسر المقاومة واعتمدت بنذالة «القصف التفاوضي» على الضاحية من خلال تدمير ممنهج لأحياء كاملة فيها. ولا يغيب عن بال المستوى العسكري في إسرائيل قدرة المقاومة على إلحاق الأذى بالبنية التحتية الإسرائيلية أيضاً ولكن مع فارق حاسم لجهة الإمكانيات المادية الهائلة لديها مقابل محدودية هذه الإمكانيات لدى المقاومة. وما حدث خلال الأيام الماضية في غزة هو تطبيق حرفي لنظرية الضاحية في العديد من أحياء القطاع كالشجاعية والزيتون وغيرها التي لم تعد صالحة للسكن على الإطلاق في حين أنه وللمفارقة فإن البنية العسكرية للمقاومة بدت سليمة إلى حد بعيد. راهنت إسرائيل على انتصار بالنقاط سوف تبدأ في حصاد مفاعيله في اللحظة الاولى للهدنة، حيث ستجد المقاومة نفسها أمام دمار غير مسبوق ستسترسل مفاعيله الرهيبة في المكوث على صدر مجتمعها طالما استمرّ الحصار. لذلك، كان واضحاً غياب المصلحة للمقاومة بوقف الحرب من دون ضمانات برفع هذا الحصار. لكن السؤال الذي لا شك يأخذ حيزاً من عقل المقاومة يتمحور حول الرد المناسب على إسرائيل التي باشرت بوضع نظرية الضاحية موضع التنفيذ. الرهان على إعادة الإعمار ليس حلاً ملائماً بالتأكيد لأكثر من سبب منها سلبيته أمام زمام المبادرة العدوانية لإسرائيل. أما الاتجاه الأكثر صوابية فينحو باتجاه العمل على امتلاك القدرة على إحداث الدمار والأذى المقابل في الداخل الإسرائيلي. هذا الأذى، الذي ليس بالضرورة أن يكون مادياً، يجب أن يكون نوعياً لأن القدرات الإسرائيلية لتخطي مفاعيله تتجاوز بأشواط قدرة المقاومة وليس من المجدي التركيز على مجاراة إسرائيل في ذلك بالمعنى الكمّي للكلمة بل الأجدى ان يُعمل على خلق الفارق النوعي في لحظة مناسبة وتفادي الوقوع في مأزق المراكمَة الخالي من أي أفق مجدي، لأن هذا قد يستدرج طاقات المقاومة إلى سلسلة تحديات لا طائل منها ولا آخر لها. لا يبدو أن المقاومة فاتها هذا الأمر عندما قصفت مطار بن غوريون وعطلت الملاحة الجوية فيه أكثر من مرة. المقاومة الفلسطينية إذا دخلت للتو سباق «الألم الذي لا يُطاق» على القاعدة الأميركية الشهيرة: إنه الاقتصاد أيها الغبي. ومن نافل القول إنه في هكذا لحظات استراتيجية، عادة ما تبدو الدبلوماسية مساراً معقولاً وجذاباً لكلي الطرفين فعندما ترتدي العمليات العسكرية طابع المراوحة، تتقدم السياسة كبديل من الحرب بسبب انخفاض كلفتها. الكلام هنا هو على السياسة بأشكالها البسيطة والبدائية بمعنى أن هدنة طويلة الأمد تبدو منطقية لإسرائيل التي لمست إفلاس آلتها الحربية وللمقاومة التي ذهبت بعيداً في تثبيت جرأتها في التصدي على كامل التراب الفلسطيني المحتل. هذه الهدنة في مقدورها أن تخرج غزة من منطوق شهوة إسرائيل المتكررة للعدوان عليها وتدخل أي مغامرة إسرائيلية فيها إلى باب المازوشية البحتة. تصح هذه المقاربة طالما أن القيادة السياسية للمقاومة تعي دورها كظهير للمقاومة وليس بديلاً منها على الإطلاق تجنباً للخطأ القاتل الذي وقعت فيه منظمة التحرير الفلسطينية. نحن إذاً أمام لحظة تاريخية في نضال الشعب الفلسطيني إذا ما أحسن الاستفادة منها فإنه سيكون على ساحات التدريب والاختبار للآلة العسكرية الإسرائيلية أن تنكمش مجدداً وهذه المرة إلى «الداخل الإسرائيلي».
* كاتب لبناني