«داعش» ـ وكل التنظيمات السلفية الجهادية ـ هي الابن الشرعي لفشل مشاريع الحداثة، لفشل المشروع القومي، ومن بعده فشل الأنظمة العسكرية القائمة على ثنائية القمع والفساد... فشلها في إدارة شؤون المجتمع إدارة دولةٍ حديثةٍ، أي: تشريعات وقوانين فوق الأفراد والعصبيات، سياسات داخلية تحتكم الى إرادة المواطنين الناخبين، قضاء مستقل عن أهواء الحكام والمحازبين، احترام حقوق الأفراد ومساواتهم أمام العدالة، إدارة الثروة الوطنية إدارة عقلانية تضمن معاشاً كريماً للناس، وتنمية عامة مستدامة، مناعة وطنية تحافظ على حدود البلد وتمنع عنه الأخطار، مواجهة الفساد من دون محاباة، خدمات تعليمية وصحية وانفتاح على منجزات العصر العلميّة والمساهمة فيها...
كل هذا أضاعته أنظمة الحكم المتعاقبة في البلدان العربية في نصف القرن الأخير، فأدخلت المجتمع ـ بقمعها السفيه ـ في غياهب الانحطاط واليأس من كل شيء، ولم يعد لديه خيار لمقاومة الاستبداد غير احدى الهاويتين: إما الدين المتعصب على الطريقة الاخوانية، أو الدين الأكثر تعصباً على طريقة السلفية الوهابية من أمثال تنظيم القاعدة و«داعش» وجبهة النصرة وغيرها من التيارات التدميرية الانتحارية.

الأصل

ليس «داعش» صاعقة في سماء صافية، إنه أحد التفريخات السلفية الجهادية التي بدأت سيرتها في الثمانينيات في افغانستان، بقرار ولادة ورعاية وتمويل أميركي ـ سعودي لمواجهة الجيش السوڤياتي آنذاك. وهو بالتالي ـ فكرياً ـ أحد تنويعات التيار الوهابي المتشدد المعروف باسم القاعدة، والذي حظي بانتشار دولي، خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الماضية، والذي أقام له عديد من الفروع (مباشرة أو بالولاء الايديولوجي) في الكثير من دول العالم، ومنها بالطبع عدد من البلدان العربية، مستفيداً من تمويل استثنائي يقدّر بمئات ملايين الدولارات من أموال النفط (والذي ـ ربما ـ لم يحظ به أي تيار سياسي على مر التاريخ) كما استفاد كذلك من وسائل الاتصال الحديثة التي أتاحتها شبكة الانترنت! فراحت تجذب الى صفوفها آلاف الشبان من مختلف الأصقاع.
هذا عن أصل التيار، ماذا عن داعش ـ التنظيم؟
تأسس تنظيم دولة العراق الاسلامية في نهاية 2006 كتنظيم سلفي جهادي تابع للقاعدة بزعامة أبي عمر البغدادي، بعد مخاضات عدة لتنظيمات سلفية جهادية مرتبطة مباشرة بالقاعدة كجماعة التوحيد والجهاد (الزرقاوي) ومجلس شورى المجاهدين (عبد الله رشيد البغدادي ـ أبي حمزة المهاجر...الخ) وكانت لهذه التيارات علاقات دائمة مع أجهزة الأمن السورية خلال احتلال جيش الولايات المتحدة الأمركية للعراق. بعد انطلاق الثورة السورية، وبعد دخول دول الإقليم على خط الثورة، وبعد حرفها لتصبح حرباً اقليمية ودولية في سورية وعليها، أصبح وجود اكثر من تنظيم مسلح على الأرض السورية على علاقة بالقاعدة أكيداً.

مارست جبهة النصرة ثم «داعش» أنواعاً من الفظائع بحق المواطنين تحت ستار واهٍ من التعاليم الدينية

بعد مقتل أبي عمر البغدادي اختار مجلس الشورى الدولة ابي بكر البغدادي ليحل محله في نيسان 2011، وفي أواخر عام 2011 تكونت جبهة النصرة بقيادة أبي محمد الجولاني كفرع سوري لتنظيم دولة العراق الاسلامية جاء «لمناصرة» بقية التنظيمات المسلحة، هذا ما أعلنه أبو بكر البغدادي في تسجيل له بتاريخ 9/ 4/ 2013، وقت أعلن إلغاء اسمي التنظيمين في العراق وسورية، واطلاق مسمى جديد عليهما هو الدولة الاسلامية في العراق والشام، وهو ما عرف إعلامياً باسم «داعش». غير أن الابن انشق عن الأب بعد أن شعر الجولاني بسعة نفوذه وسيطرته على مناطق مهمة من الأرض السورية، فأعلن رفضه فكرة الاندماج، واعلن ولاءه للقاعدة (الظواهري). خلّف هذا صراعاً دموياً بين التنظيمين، ودخلا في مواجهات بعد أن أصبح لـ«داعش» وجود جديد في سورية.
أخذ نفوذ «داعش» المعلن يظهر بتغطية إعلامية كبيرة ابتداءً من سيطرته على نينوى في 10/ 6/ 2014، وراح يتمدد الى العديد من المناطق ذات الغالبية السنيّة، وهي المناطق التي شكلت حاضنة شعبية له في السنوات الماضية التي اعتُبرت سنوات تمييز ضد السنة في العراق، ومعروف أن سيطرته المفاجئة تلك كانت بالتحالف مع قوى عشائرية مؤثرة، ومع بقايا جيش وضباط النظام السابق، قبل أن متد إلى مناطق أوسع فوضع يده على الموصل ثاني أكبر المدن العراقية وهجّر منها ومن محيطها المسيحيين واليزيديين والتركمان! وخاض ـ وما زال ـ معارك كثيرة مع قوات الجيش العراقي ومع قوات البيشمركة الكردية. ودخل على خط المعارك أخيراً الطيران الأميركي. أما في سورية فقد أعلن عن قيام تنظيم داعش في 9/ 4/ 2013، وقبل ذلك بشهر تقريباً كان العالم قد فوجئ بسيطرة جبهة النصرة على مدينة الرقة في 5/ 3/ 2013، غير أن «داعش» سيطر عليها بعد ذلك طارداً منها قوات «النصرة»! في 27/ 7/ 2013 سيطر «داعش» على خان العسل في ريف حلب بعد انسحاب الجيش السوري منها! في 5/ 8/ 2013 استولى «داعش» على مطار منغ العسكري قرب حلب، تلا ذلك تمدد نفوذه إلى العديد من المناطق في الشمال والشمال الشرقي باتجاه الحدود العراقية مثل ريف دير الزور والبوكمال، بل سيطر في 17/ 7/ 2014 لفترة على حقل الشاعر للغاز الطبيعي في محافظة حمص، وأكمل ذلك بوضع يده في 25/ 7/ 2014 على مقر «الفرقة 17»، ثم «اللواء 93» في محافظة الرقة بعد اشتباكات عنيفة واعداد كبيرة من القتلى والأسرى، وانتزع أخيراً مطار الطبقة من قوات النظام. في 29/ 7/ 2014 أعلن ابو بكر البغدادي نفسه خليفةً للمسلمين باسم الخليفة ابراهيم، وأعلن أنه ألغى اسمي العراق وسورية من اسم التنظيم ليصبح: الدولة الإسلامية!

وحشية فوق الوصف

فاقت جبهة النصرة ثم داعش في بربريتهما كل ما مارسه النظام السوري من أنواع القمع والتعذيب والقتل. ومارست جبهة النصرة ثم «داعش» في المناطق التي سيطرا عليها أنواعاً من الفظائع الوحشية بحق المواطنين تحت ستار واهٍ من التعاليم الدينية، فقتلا وذبحا وبترا ونكلا ورجما وقطعا الأصابع وفرضا اللباس ومنعا كل ما تستطيع منعه من ممارسات عادية للمواطنين. كل هذا أثار ذعر السوريين، أينما كانوا، وأياً تكن انتماءاتهم أو أفكارهم.
ما يفعله «داعش» اليوم يثير ضده مشاعر الناس على خلاف مشاربهم وولاءاتهم، ويمكن القول إن «داعش» بقدر ما كان ينتصر في المعارك العسكرية كان يخسر ولاء الناس أو قبولهم له، وإنه تحول الى اسم مخيف يثير القشعريرة لدى المواطنين ويدفعهم لمغادرة مناطق سيطرته، من استطاع الى ذلك سبيلاً. ويبدو أن تشدده الهستيري يُعميه عن أن يرى أنه بتلك الممارسات إنما يحفر قبره بيده.

«داعش» والنظام

أثير من الإشاعات الكثير حول «داعش» وعلاقته بالنظام السوري! وأنه صنيعته لضرب المعارضة المسلحة! وكان يتم الاستشهاد دوماً بصراعاته مع بقية التنظيمات المسلحة، خصوصاً جبهة النصرة، وأن هذه الصراعات لا يمكن أن تصبّ إلا في مصلحة النظام.
والحقيقة أن الفكرة الأخيرة صائبة، غير أن كل ما سبقها مشكوك به، إن لم يكن خاطئاً تماماً.
لا أحد يغفل العلاقة المعقدة التي كانت قائمة خلال سنوات الاحتلال الأميركي للعراق بين كثير من المجموعات السلفية وأجهزة الأمن السورية، فالنظام اعتبر أن ضرب ذاك الاحتلال وتكبيده الخسائر، وتحويله الى مغامرة مُكلفة بل وخاسرة للأميركيين سيحول دون امتداده الى سورية أو نظامها. وعليه راح يساعد المجموعات المسلحة ويفتح لها الحدود. من جهة أخرى اعتبرت تلك المجموعات أن الحدود السورية هي الأكثر أمناً لها للتسرب إلى العراق، والعمل فيه ضد الاحتلال، وأنه لا بد من مهادنة النظام السوري ليسهّل لها العبور الى أرض المواجهة مع الأميركيين. غني عن القول إن كلاً من الطرفين كان يدرك مرامي الطرف الآخر، وإن الأمر هو زواج مصلحة لكليهما! وإن المسافة بين التفكير وأهداف النظام وبين تفكير المجموعات واهدافها واسع جداً. وليس خافياً على أحد أن السجون السورية في السنوات السابقة على الثورة السورية كانت تعج بالمئات من المعتقلين السلفيين من شتى الاتجاهات والدول، ممن لم تك الأجهزة السورية تسيطر عليه، او تعرفه معرفة آمنة. غير أن زمن الاحتلال انتهى، وجاء زمن الثورة السورية، فقلبت المعادلات وحطمت التحالفات السابقة الموقتة، واعتبر كثير من المجموعات أن الثورة السورية وما رافقها من خلل في قبضة الدولة الأمنية على العديد من المناطق فرصتها للسيطرة على سوريا أو على جزء منها، واقامة حكم اسلامي على أرضها، وعملت دول الخليج تمويلاً وتسليحاً وإعلاماً على دعم توجّه كهذا، انطلاقاً من ولائها للسياسة الأميركية أولاً، وانسجاماً مع مفاهيمها للصراع السني ـ الشيعي ثانياً.
أصبح واضحاً أن العلاقة مع النظام السوري أضحت من الماضي بالنسبة لتلك التنظيمات، ومنها تنظيم دولة العراق الاسلامية، وأنه حان الوقت لتعمل لحسابها الخاص، حساب مشروعها الحزبي أو الايديولوجي، وأنه حانت الفرصة التي لطالما انتظرتها ـ هي وغيرها ـ منذ الثمانينيات. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن «داعش» في صراعه مع ابنه العاق (جبهة النصرة) كان دائماً يعمل ليس على ضرب تلك الجبهة فقط بل كل التنظيمات ومنها الجيش السوري الحر، ليصبح هو قطب المواجهة الوحيد مع النظام، ما سيؤمن له سيطرة على مساحات هائلة من الأراضي دفع سواها دماء آلاف المقاتلين ثمناً للسيطرة عليها. كما سيمهّد الأرض له لإعلان دولته على بقعة جغرافية محدّدة، وأيضاً لإيجاد مصادر تمويل إضافية من بيع البترول المهرب أو سرقة الآثار في شتى المناطق! على أي حال فإن المواجهة الدموية مع جيش النظام في كل من موقع «الفرقة 17» و«اللواء 93»، وفي حقل الشاعر للغاز، وفي مطار الطبقة، تحيل كل تلك الاتهامات على المزبلة. نقول ذلك ليس دفاعاً عن «داعش» بالطبع بل للتبصّر في الوقائع وفي حقيقة ارتباط القوى ببعضها، فمعرفة الواقع كما هو ـ وليس كما تتخيله الرؤوس الباحثة دوماً عن تفسيرات سهلة تآمرية لكل أمر أو عارض جديد ـ هو ألف باء العمل السياسي، ونكاد نقول كل عمل.

الآلة وصانعها

لا بد من التعريج أيضاً على علاقة القاعدة (وبقية التنظيمات السلفية الجهادية الدائرة في فلكها) مع الولايات المتحدة والسعودية. إن هذا التنظيم بعد أن أصبح قوة حقيقية على أرض افغانستان راح يشق طريقاً نائية بنفسه عن صانعيه، ثم ما لبث أن تحوّل ذلك الى خلاف معلن، ويبدو أن التنظيم لم يخطر بباله آنذاك أنه كان مجرد أداة بيد الولايات المتحدة... وليس حليفاً! ففي التحالفات السياسية القوى الكبرى هي التي «تستخدم» القوى الصغرى، وليس العكس، لذا لم يكن مستغرباً تخلي الولايات المتحدة عن القاعدة فور الانتهاء من أدائها لمهمتها. من هنا نفهم تلك الروح الانتقامية المريرة التي صبغت سلوك القاعدة تجاه نصيرتها السابقة، من مهاجمة السفارات، الى ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك. كل هذا أشبه ما يكون برواية الوحش لماري شيلي التي ترصد المسخ الرهيب الذي صنعه الدكتور فرانكشتاين، والذي تحول الى آلة قتل وتدمير لكل من حوله. إن الولايات المتحدة وأوروبا لا يمكن إلا أن تعلن عداءها لداعش، لما يمثله من وحشية، ولخطره عليها في حال عودة آلاف المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم الأوروبية، غير أن سياسة «داعش» وإطباقه على مساحات شاسعة، يسديان خدمة ما بعدها خدمة للاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تقسيم المنطقة، فالتقسيم يُحكم سيطرتها على منابع النفط، ويفتت الدول المحيطة بحليفتها إسرائيل.

هزيمة قادمة

بعد تقدم «داعش» الصاعق في الكثير من المناطق في سورية والعراق، لا بد من طرح السؤال: هل هناك امكانية لدى «داعش» ليحكم سورية أو العراق أو كليهما أو جزء منهما؟
لا شك في أن «داعش» يملك اليوم من التسلح والعتاد والتمويل والمقاتلين الشيء الكثير، غير أننا نجزم بأن حظوظ حكمه للبلاد يكاد يكون معدوماً، بسبب طبيعته الايديولوجية ـ السياسية ثانياً، وبسبب الطبيعة السكانية لكلي البلدين أولاً. «داعش» تنظيم ذو تشدد ديني هستيري، طاغوت أعمى، بربرية آتية من العصور الوسطى، لا علاقة له بالعصر ولا بالدين الاسلامي (ربما توجب دراسته في اطار علم نفس الجماعات)، وهو يمكن أن يقتحم مواقع عسكرية، ويمكن أن ينتصر في معارك مع جماعات وجيوش غير أنه لا يمكن أن يدير بلداً أو بلدين، خصوصاً إذا تعدى عدد سكانهما عشرات الملايين! لماذا «داعش» ليس مشروعاً سياسياً أو اجتماعياً قابلاً للحياة: لأن مراجعة بسيطة ترينا أن الغالبية المطلقة للسكان هي ضده، فالاقليات التي يكفّرها ويذبحها ويهجّرها هي حكماً ضده، والغالبية المسلمة في سورية والعراق بدورها ضده، فاسلامها وسطي، معتدل، وهي متعايشة مع الآخر المختلف عنها دينياً أو طائفياً منذ قرون... اذاً من سيحكم داعش!؟ وكيف سيحكم داعش ملايين من السكان، يناؤونه ويعتبرونه قوة قهر لهم!؟ وهم الذين نزلوا قبل ثلاثة أعوام ونصف الى الشوارع يواجهون الرصاص بصدورهم العارية، هاتفين ضد أنظمة الاستبداد والقمع والنهب. هذا ناهيك عن قوة البلدين العسكرية، والتي ستزداد قوةً مع استشعار دول المنطقة والعالم بخطر داعش، ودعمهم السياسي والعسكري لمن يقفون في وجهه. غير أن هزيمة «داعش» المحتمّة (كايديولوجيا وكمشروع) لا يعني أنه لا يستطيع أن يتقدم عسكرياً في المدى المنظور، ولا يعني أنه لا يستطيع أن يصّدع أو يقسّم المنطقة وسكانها وينهكهم بشراً ودولاً، لكن كل ذلك موقت، فممثلو العصور الوسطى وعنفهم الانتقامي لا مكان لهم في العصور الحديثة، لا في بلادنا ولا في أي بلد من بلدان العالم.

من أين جاء؟

لكن ما هي الأسباب العميقة التي جعلت تنظيم مثل «داعش» موجوداً أو قادراً على الحرب لأشهر وسنوات؟ للإجابة على كل ذلك ليس علينا أن نعود لتأسيس هذا التنظيم بقرار من المملكة السعودية ودول الخليج والولايات المتحدة الاميركية... الخ، وكلها لها يد بالمعنى المباشر في خلق «داعش» (هذا اذا لم نأتِ على التسريبات التي تقول بدور إسرائيلي في فبركتها)... غير أن صناعة أي تنظيم تحتاج الى أسباب أبعد من الأسباب المباشرة، أسباب موضوعية، أسباب أعمق في الزمن وفي التاريخ. وإلا لما استطاع التنظيم الوجود والاستمرار، هذا ما يعيدنا إلى فترات سابقة، وإلى طبيعة المشكلات والاحباطات التي واجهتها المجتمعات العربية منذ قرن ونصف في علاقتها بالحداثة أو بالحداثة الأوربية. فلقد أثار غزو بونابرت لمصر سؤالاً وجودياً أمام مجتمعاتنا، ذلك لأنها اكتشفت فجأة تخلفها عن التقدم الأوروبي في شتى المجالات: الدولة والعلم والصناعة. مذاك والعرب مواطنون ومثقفون وسياسيون منقسمين بين من يريد اللحاق بالحداثة الأوربية بأي ثمن (من دون أن يتمكن من ذلك) وبين من يرفض ذلك ويريد الحفاظ على التقاليد (من دون أن يكون ذلك ممكناً بالطبع) فالحداثة غزت كل شيء في مجتمعاتنا القروسطية، غزو طاول بناء الدولة والمجتمع والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما طاول العلم والصناعة والزراعة، وأيضاً اللباس والآداب والفنون وصولاً الى وسائل الاتصال الأحدث... إلخ. لعبت في هذا العجز عوامل عدة: الامبرياليات الساعية إلى إبقاء العالم الثالث متخلفاً وسوقاً لمنتجاتها، وعجز البرجوازيات العربية بسبب تبعيتها، وفساد وقمع الأنظمة العسكرية لشعوبها، وزاد على ذلك الهزائم الوطنية المذلة التي طاولت الانظمة القومية وأفشلت مشروعها... وهكذا على مدى قرن ونصف لم تستطع مجتمعاتنا اللحاق بالحداثة مثلما استطاعت ـ بدرجات متفاوتة ـ العديد من بلدان العالم خارج أوربا مثل اليابان والنمور الآسيوية وجنوب أفريقية... الخ. وزاد من وطأة العجز المستحكم، المفارقة بين التخلف الحضاري القائم من جهة، وتعاليم الدين الاسلامي الذي تعتبرنا «خير أمة أخرجت للناس» من جهة ثانية، في هذا المناخ العاجز والمهين تولد أكثر النزعات العنيفة بل الانتحارية. والتي بدلاً من أن تعمل على تجاوز تخلفها، تُخضع نفسها لسلوك انتقامي، وذلك بالإقدام على قتل الذات... كأن لسان حال النازعين الى الانتحار يقول: لا أستطيع الانتصار، اذاً سأهدم الهيكل عليّ وعلى أعدائي... والحقيقة أن عناصر المجموعات النكوصية السلفية الجهادية لا تهدم الهيكل على رؤوسها ولا على رؤوس أعدائها، بل على رؤوس شعوبها. والمصيبة الكبرى أنها تجد دولاً تستثمر ميولها الثأرية الانتحارية، فتستخدمها في افغانستان واليمن وليبيا وفي العراق وسورية...الخ؛ تمولها وتسلحها وتعومها إعلامياً، بل وتقدم لها الزاد الايديولوجي الوهابي المناسب.

الثورة والحداثة

إن الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وسورية والبحرين لم تكن إلا تعبيراً أصيلاً عن رغبة مجتمعاتنا في الخلاص من الأنظمة المعيقة لتقدمها نحو حياة سياسية جديدة، ومواطنة حقيقية، نحو الحداثة. غير أن الأنظمة العسكرية التي قامت على أنقاض المشروع القومي بدلاً من أن تكون رافعة لمجتمعاتنا، أقامت مناخاً من الاستبداد والنهب المنظم، والاستباحة لحقوق المواطنين. من هنا شرعية الثورات العربية، ومن هنا فإن هذه الثورات هي تعبير عن موجة جديدة من موجات شعوبنا للتقدم نحو الحداثة، نحو النصر على نفسها، وعلى عجزها وإعاقتها المزمنة، وهي في أشواقها الحداثية الأصيلة هذه نجحت نسبياً في أكثر من بلد، غير انها لاقت أسوأ ما يمكن أن تلاقيه في سورية، أي تحويل ثورتها في مرحلة أولى الى حرب إقليمية ودولية على أرضها، ثم في مرحلة لاحقة الى تمدد الحركات الأكثر رجعية ونكوصية ودموية في المنطقة.
من المفارقات المأسوية أن تنهض مجتمعاتنا للمضي الى المستقبل الى دولة الحداثة، دولة المواطنة والحقوق، فإذا بها أمام حركات تريد إعادتنا بالحديد والنار قروناً الى الوراء! لذا فإن هذه الحركات محكوم عليها بالهزيمة طال الوقت أم قصر. إن داعش فاصل دموي موقت وليس التاريخ الذي سيكتب لنا ولأجيالنا الآتية. إنه ضد إرادة شعبنا، ضد إرادة التاريخ، ضد شجاعة شعبنا للمضي الى الأمام، شاء من شاء من أنظمة الاستبداد، وأبى من أبى من سلفيات وهابية قادمة من قبور التاريخ.
(افتتاحية العدد 78 من «الآن»
الناطقة بلسان حزب العمل الشيوعي في سورية ــ أيلول 2014)