من البديهي القول إن مبدأ السيادة الفعلية لا يستقيم إلا في ظل دولة قوية وقادرة (الدول لا تُختصر بالسلطة) تعتمد على صلابة مؤسساتها وترفدها آليات تفعيل الطاقات المجتمعية المتوافرة. كما من المعروف أيضاً ان الحلقات الجغرافية الأضعف في تحقيق سيادة وسيطرة أية دولة على مجالها الوطني هي المناطق القائمة على التخوم والأطراف. يكفي للتأكد من ذلك النظر الى الوضع القائم على الحدود بين الولايات المتحدة والمسكيك، هذا إذا ما وضعنا جانباً الحالات القائمة في القارة الأفريقية، حيث إدارات الدول وآلياتها طرية العود.
هذه المناطق الهشة تكون فيها الكثافة السكانية المدينية ضعيفة وقابلة للاختراق (انها عادة خطوط التهريب التقليدية)، وهي تغطي مساحات واسعة تحولت، مع صعود الحركات الإرهابية في افريقيا (بوكوحرام في نيجيريا والدول المجاورة) والمغرب العربي وصولاً إلى العراق وداعش واخواتها، الى قواعد جغرافية تنامت عليها العصابات المسلحة التي عادت وتحولت وظيفياً إلى أدوات للمخططات الأطلسية الخفية أو المعلنة كما حصل في ليبيا. وهي حالة عبّرت عنها بفجاجة الصورة البشعة لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، التي ظهرت أمام طائرتها في بنغازي رافعة شارة النصر ومعانقة أحد قياديي «المجموعات الإسلامية المسلحة» فيما كانت الإدارة الأميركية قد خصصت سابقاً مكافأة مالية بقيمة مليون دولار لمن يساعد في إلقاء القبض عليه. هذا ناهيك عن سلوكيات «الشيخ» الأميركي جون ماك كاين الذي لم ينفك عن الاجتماع المتواصل مع العصابات الداعشية، والذي يرفع الصوت مجدداً مطالباً بمزيد من التدخل الأميركي في العراق و... سوريا كاشفاً مدى الترابط والتداخل بين عدد من التطورات الخارجية في المشرق العربي (أو في مناطق أخرى متأزمة كأوكرانيا) والصراعات الأميركية الداخلية.

إعلاء الصوت ظرفياً
لا طائل منه في مواجهة الأخطار الوجودية

فإذا كانت تلك حالة المناطق الحدودية الحساسة مبدئياً، فكيف بالأحرى إذا ما قررت دول معينة عمداً وعن سابق تصور وتصميم فتح حدودها وخرق القرارات والآليات القانونية الدولية؟ أمام هذا الوضع يصبح من الضروري معالجة مسألة الحدود والسيادة وفق مقاربة مركبة مرسية على:
أ ــ التأكيد المبدئي والمثبت على سيادة كل دولة من دول المشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق، كما الأردن المهدد كيانياً بإرهاب الدولة الصهيونية عبر مشروع «الوطن البديل»، كما بإرهاب داعش وامثالها) وعلى وحدة اراضيها على قاعدة الانتماء الى الأمم المتحدة وفق مبادئ شرعتها والقوانين المرعية.
ب ــ العمل على جمع طاقات وقدرات هذه الدول وفق قرار سيادي بالتكامل والتعاضد فيما بينها، مقرون بإجراءات عملية منسقة، من أجل مواجهة مشتركة لمشاريع تدميرها العابرة للحدود. تقضي هذه المواجهة استنفار واستنهاض الطاقات والقدرات المجتمعية كافة في ما يشبه حالة طوارئ يجب اعتمادها اليوم قبل الغد. خطة تعتمد على استنفار مؤسسات كل دولة ومؤهلاتها المدنية والأهلية في آونة واحدة، من أجل مواجهة مشروع تدميري شامل بخطة استراتيجيّة عقلانية شاملة ومتكاملة تقتضي التصدي لا إلى أدوات التدمير فحسب (العصابات المسلحة) بل مواجهة أوليائها وموجهيها على الأصعدة السياسية والدبلوماسية والقانونيّة والاقتصادية والثقافية والاجتماعية كافة.
7 ــ وفي هذا الإطار لا بدّ من توضيح مقاربة مسألة مكونات المجتمعات العربية المشرقية المستهدفة من دون اي استثناء. ما يزال البعض يصر على اعتماد الخطاب الاستشراقي في توصيف جزء منها «كأقليات» واختزال هويَّتها الاجتماعية المركَّبة بأحاديَّة توصيفها بشعائرها الايمانيّة. نسجت هذه المكونات بعلاقاتها التثاقفية آليات التفاعل التاريخي الذي أضحى ميزة بارزة من ميزات المجتمعات المشرقية بالأخص في عصبها المديني، وهو ما يجرى العمل على تدميره راهناً. الملح، بالتالي هو تعزيز عناصر حمايتها وبناء مستقبلها المشترك عبر تدعيم الآليات الدستورية والقانونية المستندة الى مبدأ المواطنة، والانتماء الوطني والقومي الجامع. من هذه المكونات، على وجه الخصوص، العرب المشرقيين المسيحيين، لما لتوزُّعهم على امتداد دول المشرق، من مصر الى العراق، من تأثير على عملية بناء واستمرار النسيج الاجتماعي وروابطه.

المسيحيون والتحوُّل الجوهري في العقلية

نورد في هذا السياق الملاحظات التالية:
أولاً ـــ لا بدّ من تحول جوهري في العقليات والرؤيا الموروثة عن الرسم الايديولوجي الاستشراقي الذي عززته مؤسسات الاستعمار والتي تولت بعض المؤسسات التربوية اعادة إنتاجه حتى الآن.
ثانياً ـــ لا بدّ من الاقرار بأن المسيحيين (كتلاً بشرية وافراداً مواطنين) موزعين على الدول المشرقية كافة وفق شخصيات اجتماعية مميّزة، لها خصوصياتها، وأنه من الخطأ اختزال هذا الوجود في بلد واحد. لنضع جانباً من لا يرى في إرهاب العصابات المسلحة على شاكلة داعش خطراً ربما لأنه سبقها في الممارسات البشعة. ما يجب أن يعيه المشرقيون المسيحيون هو أن زمن «سراديب الأموات» الروماني ولّى إلى غير رجعة وأن الرؤيا القدرية البكائية للتاريخ لا تصلح في زمن المواطنة والمسؤولية الاجتماعية والصمود وبناء المستقبل، إلى جانب الشركاء في الوطن والإقليم.
واذا كانت إشارات التعاطف الانساني الأولى مع اهل الموصل المسيحيين قد حملت البعض على تحدي الداعشيين بالاجهار بحرف الـ«ن»، فمن غير المقبول على الإطلاق التسليم بهذا الوسم البربري، ومنح اية «شرعيّة» لمنطق ومفردات العصابات التكفيرية الارهابية، في تصرُّفٍ معدوم الوعي والمسؤولية.
ثالثاً ـــ إن التفكير في عملية «تجميع» للمسيحيين في «محميات» مذلّة (كما روج لذلك بعض من الرهبانيات في منتصف السبعينيات من القرن الماضي) هو استنساخ شكلي للنموذج الصهيوني.
يغفل الموقع الاستعماري لـ«دولة إسرائيل» من جهة، ومشروع انتحار جماعي من جهة أُخرى، لا توازيه سوى نداءات التضرع إلى «الحماية الغربية» وهو لن يؤدي على أية حال، سوى إلى مزيد من التهديد «للوجود المسيحي» على امتداد المشرق العربي. يكون الصراخ مفيداً ربما إذا ما كان جزءاً من خطة عمل عقلانية متناسقة مع استراتيجيات تحملها الدول المشرقية المعنية، من أجل الدفاع عن نفسها ومكوناتها. أما إعلاء الصوت ظرفياً، كما حصل بعد الاعتداء على معلولا في سوريا أو بعد غزوة الموصل فلا طائل له في مواجهة الأخطار الوجودية.
رابعاًـــ لا بدّ أيضاً من اعادة النظر في مفردات الخطاب السائد، وعلى وجه الخصوص عبارة «مسيحيو المشرق». ليس في الأمر ترفاً جمالياً بل تحديداً دقيقاً لمضمون المعضلات المطروحة جوهرياً. تختزل هذه العبارة هوية المشرقين المسيحيين في أحادية «الشعائر الدينية» لتحولهم إلى «كائن مقفل» يصلح للعرض في متاحف الديانات، نازعة عنهم الهوية الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية، اي كل العوامل التي تصنع الحياة، ما يسهل استخراجهم واقتلاعهم من أرضهم ومن ذاكرتهم الإنسانية والحضارية، ليفتح الباب على توزيعهم القسري على أنحاء الأرض الواسعة من كندا إلى أوستراليا، طالما أن الموضوع بات، وفق هذا التصور، محصوراً بممارسة الشعائر والطقوس. كيف يمكن أن تستقيم هذه الرؤيا المنحرفة حتى مع الارشاد الرسولي نفسه الذي أعاد تثبيتهم في أرضهم ومنبعهم وجذورهم التاريخية والذي بات ربّما من الضروري إعادة تذكير بعض دوائر الفاتيكان بمضمونه ومعناه.
هذا ناهيك عن اغفاله لطبيعة المشرقيين المسيحيين من غير التابعين لسلطة روما ودورهم وموقعهم وتاريخهم. فلا بد بالتالي من استبدالها بمصطلح العرب المشرقيين المسيحيين لما للعروبة من صفة جامعة تسمح بتخطي الشرذمة المذهبية والطائفية والجبهوية والقبلية القادرة على إعادة الاعتبار للهوية الجامعة المدنية القائمة على القانون والمواطنة، والتي لا يختزلها دين ولا مذهب ولا قطر وتقوم على مشروع بناء مستقبل مشترك قابل للتطوير باستمرار. وفي هذا الإطار لمن الايجابية بمكان أن تعلو وتتصاعد وتيرة الوعي لضرورة الانخراط في استراتيجيات الدفاع الوطني عن الوجود في الأرض. ولا يستقيم الكلام عن ضرورة حمل السلاح عند الحاجة، الاّ في هذا الإطار. اما الكلام عن «تسليح المسيحيين» (او غيْرهم) فهو مقاربة تصُب في غير ما تبتغيه. ما هو مطلوب، لدى الضرورة، هو مؤازرة المواطنين للجيش والقوى الامنيّة بصورة واعية ومنظَّمة وبصفتهم مواطنين تحديداً. ألم يقم العديد من الدول بتنظيم «حرس طني» من أجل مؤازرة القوى المسلّحة لدى الضرورة؟
كما أنه من الضروري ايضاً اعلان الرفض القاطع للتهجير المقنَّع «بالإحسان التعاطفي» خصوصاً اذا ما كانت تتخفّى من ورائه مشاريع سياسيّة خبيثة، وإعادة التأكيد أن المشرقيين المسيحيين بحاجة اساساً الى العيش حيث أراد لهم التاريخ الحياة، اي في ارضهم وديارهم الى جانب شركائهم في المصير وبالتفاعل معهم.
وفي هذا السياق كان يمكن البناء بصورة جدِّية على المبادرات التي اقيمت من أجل الاستعادة الإراديَّة لخطوط التواصل التاريخيَّة، من الزيارة الى بلدة براد في سوريا مروراً بمؤتمر الربوَة الإقليمي للمشرقيين المسيحيين، وصولاً الى لقاء «بيت عنيا»...

ضرورة التواصل الإقليمي

على قاعدة ما سبق، وفي إطار تشخيص دقيق للمشاريع التدميرية، يصبح من الضروري إطلاق عدد من المبادرات تحت شعار إعلان حالة طوارئ وطنية وإقليمية (ليس بالطبع بمفهومها القانوني التقليدي، أي إعلان الأحكام العرفية...) من أجل مواجهة الأخطار المحدقة بالدول المعنية وعلى رأسها لبنان وسوريا والعراق (وفلسطين طبعاً كما الأردن).
من عناصر هذه الخطة:
أ ـــ إطلاق برنامج تواصل متكامل يسمح بتوحيد جهود الدول المعنية والتنسيق الواعي والمبرمج في ما بينها إضافة إلى الدول العربية الأخرى المهدّدة بصورة مباشرة كمصر او الجزائر. وذلك وفق صيغ تسمح بالاستفادة من نقاط القوة لدى كل دولة وتساعدها في مواجهة المشاريع الهادفة إلى استفرادها الواحدة تلو الأخرى.
ب ـــ إعادة إحياء آليات التواصل المبنية على المعاهدات المبرمة الثنائية او المتعدِّدة الاطراف (بعد السقوط المدوي لآليات وروح ودستور الجامعة العربية) وتفعيل المؤسسات المشتركة، وبخاصة تلك القائمة بين لبنان وسوريا ومنهما امتداداً الى العراق في المرحلة الأولى.
نعني هنا تحديداً تثبيت العلاقة «من دولة الى دولة»، بما يعني ذلك من مراجعة مشتركة للأخطاء والشطط ومكامن القوّة والضعف، والاستفادة منها من أجل توسيع العمل المشترك إلى دول أخرى. وفي هذا الإطار لا بد من إعادة تصحيح النهج في ما يتعلق بمسألة النزوح السوري إلى لبنان والأردن إذ لا يعقل أن يجري البحث بالموضوع مع دول العالم بمعزل عن المعني الأول والأساس، أي الدولة السورية. كما لا يعقل أن تتم معالجة مسألة التهجير القسري الذي عانت منه مكونات أساسية من العراق (خاصة بعد غزوة الموصل) بمعزل عن الدولة العراقية وذلك رغم الصعوبات وموروث حقبة «حكم» بول بريمير الثالث الكارثية، وهو موروث لا بدّ من تصحيحه إذا ما أرادت الدولة العراقية النهوض بالمجتمع العراقي من الشرذمة الطائفية والمذهبية التي زرع بذورها السامة الاحتلال الأميركي، وفاقمت من مفاعيلها إدارة ضيّقة وأنانية للشأن العام بعد خروج جيوش هذا الاحتلال.
ج ـــ العمل على تخطي المواقف والسلوكيات الضيّقة والمتعصبّة على امتداد دول المشرق من أجل وضع حد لتوظيف الخلافات والاختلافات في صراعات النفوذ على السلطة من أجل تغليب الصالح العام على المصالح الفئوية.
د ـــ العمل على رفع درجة التنسيق في الخطط والاستراتيجيات العسكرية والأمنية الى اقصى درجات الفاعليّة بين الدول الثلاث ومؤسساتها المعنيّة إذ لا تجوز مواجهة خطر عابر للحدود وأدواته الارهابيّة الموحّدة التابعة لفرف عمليات مندمجة، بصورة مجزأة ومعدومة التواصل بين أطرافها المُستهدفة.
هـ ـــ العمل على إيجاد صيغ تواصل بين هيئات المجتمع المنظمة على قاعدة احياء العلاقات المؤسساتية على مستوى الدول من جهة، وأطراف المجتمع المدني الفعلي من جهة أخرى، من أجل تثبيت مقدِّرات الصمود المجتمعي وتفعيلها. الا يفيد، في هذا السياق، أن تتواصل على سبيل المثال لا الحصر، غرف التجارة والصناعة والزراعة والقطاعات المهنيَّة والنقابيّة على انواعها في الدول المستهدفة، من أجل وضع خطة تعاضد عقلانية تبحث في تلبية حاجات صمود واستمرار القطاعات الإنتاجية والقطاعات الاقتصادية التي تضررت بسبب الازمات ومفاعيلها على الأرض، بدلاً من ان تبحث منفردة عن مصالح آنية وأنانية عبر ما يسمّى اقتناص فرص ظرفية تساهم في استعجال تدمير مقومات الإقليم بدل المساهمة البنيوية في إرساء التكامل المستقبلي المنظم والعقلاني؟
أوليْس من البديهيّات، مثلاً، العمل على تنسيق الجهود على كامل الساحة المشرقيّة بين المتاحف الوطنيّة والمؤَسسات المعنيّة بالتراث بالاضافة الى الهيئات الاهليّة والمواطنين، من أجل رسم خطة مشتركة لمواجهة شبكات سلب الآثار المنظّمة وإعادة إحياء وبناء الإرث المعماري المهدّم؟
أليس للمصارف مثلاً دور أساسي في هذا المجال، بدلاً من الخضوع للابتزاز والقرصنة التي تمارسها الولايات المتحدة وبعض الدول الأطلسية التابعة؟ أوليست الأزمة الإقليمية مناسبة لإطلاق عملية تواصل اقتصادي واستراتيجي من مصر وصولاً إلى العراق ومروراً بلبنان وسوريا، من أجل إرساء مسار تاريخي جديد قادر على تصحيح هذا الخلل البنيوي الذي نشأ بعد توقيع اتفاقية «الكوينسي» بالتزامن مع نشوء «دولة إسرائيل» والتي كانت مفاعيله مدمرة اذْ وأدَت عملية التواصل العربي العضوي في إطار مشروع تنموي مندمج ومتكامل؟ قبل أن تتحوّل المفاعيل تلك، تدريجياً، إلى كماشة حصرت بين أنيابها التطور العربي القومي المشترك المنشود، ورسّخت الخلل الهيْكلي الذي شهد تركُّز الثروات المالية الناجمة عن الاستخدام الريعي لمصادر الطاقة في مكان، بينما الثروة البشرية والحضارية التاريخية في مكان آخر. وهو خلل تفاقم بعد جنوح الأرجحيّة السياسية باتجاه دول الخليج بعد حرب 1967، واخراج مصر من المعادلة الاستراتيجية بعد حرب 1973 ومن ثم اتفاقية كامب ديفيد. هذا بالإضافة إلى امتصاص دول الخليج التدريجي للأدمغة والطاقات البشرية الموظفة في اقتصاديات مصطنعة وهشة، ما زاد دول المشرق افقاراً، خصوصاً بعد الدخول مرحلة «العولمة»، وتحويل مال النفط والغاز إلى عنصر بنيوي في الاقتصاد العالمي، والغربي منه تحديداً، وصولاً إلى الحالة المشينة الراهنة التي تشهد توظيف مليارات الدولارات في عملية تدمير ممنهجة لدول ومجتمعات تاريخية.
د ـــ العمل على تنسيق وتضافر الجهود الدبلوماسية المشتركة بين الدول المستهدفة في وجودها من أجل مواجهة الخطط التدميرية وفرض احترام مصالحها ومصالح شعوبها بصورة منسقة في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى جهد سياسي ودبلوماسي وإعلامي مشترك في الدول التي لها بصورة أو بأخرى صلة مباشرة بالأزمة التي تعصف في المشرق العربي، وتحديداً الاتحاد الأوروبي ودوله القاطرة، كما في الولايات المتحدة، من أجل لجم الجنوح التدميري لسياساتها المشرقية. أوليس من الضروري القطع مع هذه العقلية التي تنتظر اكتشاف الشهوات والرغبات الصادرة عما يسمى بصورة بشعة «دول القرار» وسفراءها وقناصلها من أجل التأقلم معها أو عرض الخدمات عليها؟ أما حان الوقت لاستبدال هذا السلوك المذل بالعمل على استصدار قرارات وطنية منسقة تعبّر عن مصالح الدول والشعوب والمجتمعات العربية المشرقية مقرونة ببرامج عملية من أجل فرض احترامها في المحافل الدولية؟ لنضع جانباً تقييم سياسات الدول، أوليس من الواجب، بعد صدور «القرار ٢١٧٠» في مجلس الأمن مساءَلة الامم المتحدة عن سلوكها في الجولان المحتل ورفع شكوى ضد «دولة اسرائيل» بعد اعتداءَتها على مواقع الجيش السوري وتصريح رسميين عن تحالفهما مع المنظمات الإرهابيّة؟ اما تنسحب هذه المساءَلة القانونية في المحافل الدولية على دولة تركيا وسلطتها الحاكمة؟
ه ـــ أوليس من الضرورة الحيوية العمل على استنهاض وتوسيع دائرة الحلفاء والأصدقاء الفعليين، المعنيين جوهرياً وبنيوياً بمستقبل ونتائج الصراع الدائر في المشرق العربي، من دول التكتل المعروف «بالبريكس» وصولاً إلى المؤسسات الجامعة الإقليمية والقارية في أفريقيا أو أميركا اللاتينية؟
إلى غير ذلك من المبادرات القادرة على استنفار الطاقات البشرية كافة التي تختزنها مجتمعاتنا العربية المشرقية والتي تمثل القاعدة الأساس في مواجهة المشروع التدميري المتعدد الأوجه والمشارب، والذي يشكل داعش واخواته وجهاً قبيحاً ومتوحشاً من أوجهه البشعة المخفية.
طاقات ما زالت تختزنها مجتمعاتنا العربية المشرقية في الثقافة والاقتصاد والابداع والفن والعلوم والقطاعات الإنتاجية تحتاج إلى تفعيلها بصورة منسّقة وعقلانية في إطار سياسة شاملة ومنظَّمة.
إن مقاومة المشاريع التدميرية تقتضي مواجهتها المباشرة بجميع الوسائل المتاحة وإطلاق ورشة عمل موازية من اجل ارساء قواعد جديدة لبناء المستقبل.
أحلام؟ كلا!
دعوة إلى المبادرة، تتطلب فقط مستوىً معيّن من الترقي الفكري والأخلاقي والسياسي... ونوعية رفيعة من الرجال.
* أستاذ جامعي وعالم اجتماع