وضع مؤتمر «جنيف 2» بشأن الأزمة السورية الذي عقد مطلع السنة الحالية، حداً لمقررات «جنيف 1» الذي كان قد عُقد قبل حوالى سنة ونصف السنة من ذلك التاريخ (نهاية حزيران 2012). وضع ايضاً نهاية لمجمل المساعي السياسية الدولية والاقليمية لايجاد حل للصراع الضاري الدائر في سوريا وعلى سوريا والمنطقة (المبعوث الدولي الجديد يلعب في الوقت الضائع بانتظار نشوء ميزان قوى جديد). تبلورت يومها معادلة مستعصية على التسويات والحلول: عجز خصوم النظام السوري، من داخل ومن خارج، عن اسقاطه، من جهة، وعجز النظام السوري عن السيطرة على البلاد ووضع حد للصراع الدائر فيها وعليها، من جهة ثانية.
ولأن الهدف من مؤتمري جنيف الاول والثاني كان، بالنسبة للفريق المعادي للنظام السوري، اضعاف او اسقاط السلطة التي حكمت سوريا أكثر من 41 سنة (حتى اندلاع الأزمة)، بكل ما يعنيه ذلك من نتائج على صعيدي سوريا والمنطقة، فقد تصاعدت الانتقادات ضد الادارة الاميركية وضد الرئيس اوباما شخصياً، حيث اتهما، من الاقربين قبل الأبعدين، بالعجز والضعف والانكفاء. كانت قيادة المملكة العربية السعودية، من بين دول الخليج، هي الاكثر استياء والاكثر مبادرة في اتخاذ المواقف واطلاق التهديدات واجراء الاتصالات والاتفاقيات. اعلامها كان الانشط في التهجم على الادارة الأميركية ورئيسها. الاستياء التركي كان كبيراً ايضاً وإن اختلفت وسائل التعبير وردود الفعل المباشرة او اللاحقة (لا داعي للحديث عن موقف قطر فهي ذات دور أكثر منها دولة).
لم يجد وزير الخارجية الاميركي، يومها، وبعدما يئس من اقناع «الشريك» الروسي بتغيير موقفه، سوى الاعلان عن ضرورة تغيير ميزان القوى في الداخل السوري من اجل تحقيق هدف واشنطن وحلفائها السوريين والعرب: أي فرض شراكة على النظام تلغي احتكاره للسلطة، أو النجاح بإسقاط سلطته بالكامل.
في ظل هذا التعهد، بل القرار، الاميركي بتغيير ميزان القوى في سوريا، بدأت تتحرك الاوضاع في أكثرمن منطقة (اوكرانيا مثلاً) وصولاً إلى التطورات الدراماتيكية في منطقة النزاع الأساسية التي تلاحقت منذ شهرين وادت الى إعلان «الدولة الاسلامية» وسيطرتها على اراض واسعة في كل من سوريا والعراق في الوقت نفسه.
تداخل الوضعين العراقي والسوري اكثر من جلي. هو كذلك، خصوصاً، منذ غزو العراق من قبل واشنطن وحلفائها في ربيع عام 2003. ولقد تعاظم هذا التداخل، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، في السنتين الاخيرتين معزّزاً بأزمة سياسية في العراق ايضاً، تفاقمت، خصوصاً، منذ الانسحاب الاميركي من العراق اواخر العام 2011. تطورات الوضع في البلدين، ولأسباب متشابهة غالباً، دفعت نحو تصدُّر القوى الاكثر تطرفاً المواجهة. في العراق كانت عمليات التفجير والتفخيخ تواكب وتسابق، بشكل دقيق ومضطرد، تردي الوضع السياسي: تتغذى منه وتغذيه في الوقت نفسه.
السمة العامة في العراق كانت تفاقم الاضطراب المذهبي وما رافقه من تمرد وتظاهر وعصيان، وبشكل اخص في المحافظات نفسها التي سيطرت عليها «الدولة الاسلامية» ابتداء من اواسط حزيران الماضي.
وفي سوريا ايضاً، لم يبقَ في الميدان سوى المتطرفين الاسلاميين بكل اسمائهم وتشكيلاتهم وخلافاتهم. إلى هذه القوى، بشكل عام، اتجهت الانظار من قبل كل من القيادتين التركية والقطرية، خصوصاً أنّه كانت لكل من «أنقرة» و«الدوحة» علاقات دعم وتشجيع وحوار مع هذه القوى. القيادة السعودية، بدورها، اختارت التوجه نحو القوى التقليدية القريبة منها، لكن هذه القوى ضعيفة ولا تملك القدرة على الحركة والمبادرة والهجوم كما هو الامر بالنسبة للتنظيمات الاشد تطرفاً. يمكن القول، بكل موضوعية، إن ذلك جرى من قبل قوى حليفة لواشنطن. بل إن بعضها مجرد تابع للسياسات الاميركية ولأجهزتها الامنية والاستخبارية. وان ذلك جرى في ظل القرار الاميركي وكترجمة له، أي قرار «تغيير موازين القوى» على الارض الذي كرره مراراً الوزير جون كيري. لم تُقم الادارة الاميركية صلات مباشرة، لكنها اجازت كل الصلات لكل الاطراف. وهي أجازت، بالطبع، تقديم الدعم والمساعدة المتنوعين وخصوصاً من قبل الجانب التركي وعلى حدوده الواسعة مع سوريا. يجب القول بموضوعية، استطراداً، ان قيادة الولايات المتحدة قد تواطأت مع هذين الاسلوب والخطة وان ظلت تلبس القفازات لحفظ خط الرجعة ولتقليص الخسائر والالتزامات والتبعات، ولتغيير السياسات والوجهة، اذا لزم الامر، لاحقاً. وليست هذه المرة الاولى التي تلجأ فيها واشنطن الى استخدام التطرف والمتطرفين لتنفيذ اهدافها ولاضعاف خصومها. بدأ ذلك، وبشكل مباشر، منذ ازمة افغانستان على الاقل. ثم إن واشنطن، المبادرة والرائدة في هذا المضمار، لم تستمر وحيدة في استخدامه. في العراق استخدم هذا الاسلوب، من قبل بعض رافضي غروها، ضدها وبشكل مؤثر كما هو معروف. في سوريا اختلطت الامور بشكل مدهش بين المستخدِم والمستخدَم كما لم يحصل من قبل.
تستطيع واشنطن ان تقول إنها غير راضية عما احرزته «الدولة الاسلامية» (داعش) من نجاحات وما مارسته من فظائع وانتهاكات. لكنها لا تستطيع التنصل من انها قد أجازت، بل اخترعت، استخدام الارهابيين لتغيير موازين القوى منذ «كابول» الى «الموصل»! هذا أمر يستوجب استطراداً، التأكيد بأن الإستخدام لم يكن، غالباً، من طرف واحد: لم يندر أن «تجاوز الإرهابي حدود الصفقة» و«فتح على حسابه» وانقلب على مشغليه ومموليه...
هذا الامر لا يعني ان الولايات المتحدة هي المسبب الوحيد لتشكل الارهاب الأعمى كردة فعل على مظالم وسياسات دولية ومحلية خارجية وداخلية. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة على صلة وثيقة بما يحصل: أسباباً ونتائج! من هنا يجب ان تبدأ الحملة الدولية على الارهاب: للتعامل مع اسبابه وليس مع نتائجه فحسب. فإذا استمر الظلم والعدوان والاغتصاب والاستبداد، فلا بد للارهاب من ان ينشأ، مرة جديدة، وغدا اذا ما تم القضاء عليه اليوم... فكيف إذا حاولت واشنطن اسخدام الإرهاب، مرة جديدة، لإعادة ترميم وتعزبز مواقعها في المنطقة!
الامر الثاني، هو انه سيكون من قبيل الخطأ قبل المكابرة، الامعان في السياسات نفسها، في سوريا والعراق، التي قامت على الاستئثار والتمييز، والتي ساعدت على تنامي الارهاب والافساح امام التدخل الخارجي المشكو منه الآن.
اما الامر الثالث، فهو ان الارهاب لم يتشكل، بهذا الحجم المخيف والكيفية الهمجية المتخلفة، لولا غياب وفشل البدائل الطبيعية التي رفعت يوماً شعارات الحرية والتقدم والديموقراطية والتنمية والمساواة...
* كاتب وسياسي لبناني