كلّما ازداد منسوب الإبهام والإنسانوية في الخطاب الأميركي، أخفى مقداراً أكبر من النفاق والكذب. خطاب أوباما الذي أعلن فيه الحرب على المنطقة هو مثالٌ على هذه القاعدة. بين إعلان الرئيس الأميركي نيته ضرب سوريا والعراق، وتحويله لحلفائه في المنطقة إلى «تحالف شمال» جديد، مقاطع طويلة عن التميّز الأميركي و«عبء الواجب» تجاه العالم: «يا أميركا، إنّ بركاتنا اللامتناهية تفرض علينا عبئاً دائماً، ولكنّنا، كأميركيّين، نرحّب بمسؤولية القيادة». أيّ نظرة مريضة عن الذات تعكسها هذه العبارة؟
الرّسالة الوحيدة الواضحة في الخطاب كانت موجّهة إلى الشّعب الأميركي، تطمئنه إلى أنّ الحملة القادمة ستكون مختلفة عن سابقاتها، وأن الجنود الأميركيين لن يشاركوا ويُقتلوا في أرض المعركة. فالولايات المتّحدة صار لها أعوانٌ مستعدّون لخوض «الجزء القذر» من الحرب ومواكبة طائراتها برّاً. في الوقت نفسه، يعطي باراك أوباما انطباعاً بأنّ شعوب المنطقة والعالم بأسره تسير خلف بلاده في غزوها الجديد: «هذه هي القيادة الأميركية في عزّ ألقها: نقف مع الناس الذين يقاتلون لأجل حريتهم، ونحشد الأمم الأخرى باسم أمننا المشترك وإنسانيتنا المشتركة». بطبيعة الحال، إنّ «حلفاء اميركا» الذين يتكرّر ذكرهم في الخطاب لا يعدو كونهم حفنة أنظمة وميليشيات سلّحتها أميركا واكترتها لخدمتها في حالات كهذه (وبعضها «إسلامي» الطابع)، وليس من بينها طرفٌ واحد يملك شرعية أو تمثيلاً شعبياً - فضلاً عن الإيمان بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، الّتي تخاض الحرب تحت ستارها. الغزو غزو، ومن رفض الاحتلال تحت حجّة خلع صدام حسين لن يقبل به بحجّة قتال «داعش». إن كانت أميركا تظنّ، كما اعتبرت عام 1991 و2003، أنّه يكفي أن ترضى هي وأهلها حتّى نرضى نحن، فهي تسير نحو مفاجأة غير محسوبة. بعيداً عن الأنظمة المساندة، وتلك التي تنتظر استئذان أميركا لها حتى تضرب بلادها، الواجب اليوم هو في الاستعداد للغزو القادم وإفشاله بكلّ أبعاده. لم نعد ضعفاء وعزّلاً، فالحروب الأميركية المتوالية قد راكمت ثقافةً جديدة وثارات وعشرات آلاف المقاومين المدرّبين، الذين لم يصيروا صحوات، والذين يعرفون تماماً ماذا تعني أميركا لهم ومغزى حربها؛ هم لن يسمحوا للماضي بأن يعود، مهما كانت التكلفة، ولن يرحموا الغزو وأعوانه.