حول الموقف من التدخّل الإمبريالي: مجدّداً، أيُّ سياق؟

  • 0
  • ض
  • ض

الجدل الذي أُثير في بريطانيا أخيراً على خلفية قرار الحكومة البريطانية بالتدخّل الجوي في سوريا لم يدفع بسردية معارضة الحرب قُدُماً. فَشِل اليسار هذه المرّة في مجابهة ميل الحكومات الغربية إلى التورّط المتزايد في نزاعات المنطقة، وفَشَلُه مرتبط على الأغلب بعدم فهم كافٍ - أو بسوء فهم - للسياق الذي دفع كتلة وازنة داخل حزب العمّال إلى التصويت بنعم (أكثر من الربع تقريباً) على قرار التدخّل خلافاً لرغبة قيادة الحزب التي يمثّلها جيريمي كوربين. ربما أدرك هؤلاء المصوّتون بالإيجاب أكثر من سواهم أنّ المعادلة قد تغيّرت ولم تعد مرتبطة فقط بمجابهة نزعة إمبريالية للتدخّل ضدّ "دولة ذات سيادة". ضدّ إسقاط الدولة هذا ما يفسّر الانقسام الذي حدث في الحزب قبيل التصويت، والذي حاول كوربين معالجته عبر ترك الأعضاء يصوّتون بحرية على القرار وعدم إلزامهم بموقف موحّد منه كما حصل مثلاً في التصويت الذي جرى في عام 2013 غداة اتهام نظام الأسد باستخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية. حينها كانت الظروف مختلفة، ولم تكن التحدّيات التي يواجهها الغرب مرتبطة فقط بكيفية إدارته للفوضى التي أحدثها. فالنظم التي يواجهها كانت لا تزال مسيطرة على أجزاء كبيرة من الأرض، ولم تكن قد فقدتها بعد لمصلحة داعش أو النصرة أو سواهما من المنظمّات التي يجري التذرّع بسيطرتها الآن لمعاودة التدخّل في المنطقة. أيضاً، لم يكن قد جرى التراجع حينها عن مبدأ جعل الفوضى جزءاً من أدوات السيطرة، وكان النزوع إلى تعميمها ولو بقدر معيّن هو الموقف المُعتمَد غربياً من الدولة التي تحاول الدفاع عن نفسها ضدّ الجماعات التي تنازعها السيطرة على الأرض. هنا بالتحديد حصل الخلاف بين اليمين واليسار في بريطانيا، فاليمين ممثلاً بحزب المحافظين، والذي يشكّل امتداداً لسياسة "التدخّل الإنساني"، كان ضدّ استمرار هذه السيطرة (بيد الدولة حصراً) وهذا الشكل من الحكم المركزي، فيما وقف اليسار ممثّلاً بحزب العمال "معها". هذا الأخير لم يدعم الجرائم المُرتَكبة حينها باسم شرعية بقاء الدولة واستمرارها، ولكنه فضّل أن تَحدُث الجرائم باسم الدولة بدلاً من حدوثها باسم الفوضى أو التدخّل الإمبريالي المباشر. في الحالتين ثمّة جرائم تُرتكب، لكن حدوثها في سياق وجود دولة مركزية تحافظ على المؤسّسات وتمنع انهيار المجتمع أفضل منه في غيابها، وخصوصاً إذا ترافق هذا الغياب مع تحطيم الأجزاء الباقية من المجتمع. على هذا الأساس بنى اليسار البريطاني موقفه "المتين" في مواجهة اليمين الحاكم الذي كان يسعى جاهداً إلى التدخّل، مسخّراً لهذه الغاية شتّى وسائل سيطرته على أجهزة الدولة والحكم، وبالأخصّ منها الإعلام. لم يحدث انقسام في صفوف اليسار حينها وبقي محافظاً على وحدته على الرغم من افتقار قيادته السابقة إلى النزعة الراديكالية التي يمثّلها حالياً جيريمي كوربين (اد ميليباند يُعَدّ ليبرالياً بالقياس إليه). المعيار هنا لا يتعلّق بالراديكالية من عدمها، بل بطبيعة الموقف الذي على أساسه يُرفَض التدخل أو يُقبَل، وفي حالة التصويت الأخير فإنه من حيث المبدأ "موقفٌ من داعش" وسيطرتها على أجزاء واسعة من سوريا أكثر منه من التدخّل ضدّ الدولة أو إسقاطها. ضدّ داعش عملياً بعد تمدّد داعش وسيطرتها على أجزاء واسعة من سوريا والعراق وليبيا أصبح اليسار مضطراً إلى إعادة النظر في موقفه من التدخّل الإمبريالي، فداعش وإن كانت تسيطر على أجزاء من الأرض، إلا أنها ليست "الدولة" التي تستحقّ بذل جهدٍ "للدفاع عنها". بإمكان اليسار الحفاظ على معارضته لمبدأ التدخّل، ولكن من دون أن يبدو هذا الأمر وكأنه دفاعٌ عن الجزء من الأرض الذي تسيطر عليه داعش، فهذا الجزء يُنتهك حالياً من الجميع باسم محاربة التنظيم، وإن لم تقصفه الطائرات البريطانية أو الأميركية، فستفعل ذلك نظيرتهما الروسية. وهذا يجعل من فعل المعارضة أمراً خارج السياق، ففضلاً عن كونه لا يتّسق مع مناداة اليسار بعدم التمييز بين الضحايا، فإنه غير عمليٍّ أيضاً ولا يقدّم أو يؤخّر شيئاً في معركة الحفاظ على ما بقي من دول المنطقة ومجتمعاتها. المعضلة التي يواجهها اليسار هنا هي في قدرته على إبراز موقف من داعش لا يُظهرها بمظهر الضحية، ويُبقي في الوقت ذاته على مبدأ عدم التمييز بين الضحايا، بحيث إذا حصلت مجزرة من جرّاء الغارات البريطانية بحقّ المدنيين يَرفَع صوته اعتراضاً ويطالب بمحاسبة المسؤولين عنها، سواءٌ أكانوا سياسيين أم عسكريين، وبذلك يكون قد فرض على الحكومة التي نالت موافقة البرلمان على التدخّل آلية معيّنة للمحاسبة حين يقع ضحايا. هذا سيضع قيوداً واضحة على التدخّل العسكري، وسيتحوّل إلى موقف أكثر فاعلية بكثير من الرفض بالمطلق على اعتبار أن الأكثرية ليست معه. وحتى لو حصل عليها، فلن يستطيع من موقعه الضعيف نسبياً وغير المتضافر مع مواقف يسارية أخرى في القارّة والعالم مغالبة تيارٍ عارم ينادي بعد اعتداءات باريس وإسقاط الطائرة الروسية في سيناء بالتدخّل ضدّ داعش بأيّ شكل كان. خارج السياق القدرة على المحاسبة هنا تصبح هي البديل عن التظاهر والاحتجاج ضدّ التدخّل العسكري. فحتى يكون الاعتراض فاعلاً ويقدر على منع الحكومة البريطانية من قصف سوريا (don’t bomb Syria) كما كُتِب على اللافتات التي رفعها المتظاهرون أمام البرلمان البريطاني (وفي إسبانيا أيضاً) يجب أن يكون ضمن سياق تجري فيه احتجاجات متزامنة تقنع الناس بالانضمام إليها بحيث لا تغدو فقط واسعة وحاشدة، بل أيضاً قادرة، وهذا الأساس، على تعطيل عمل السلطة ومنعها من المضي قدماً بالعمل العسكري. إذا لم تستطع فعل ذلك فعليها أن تكفّ عن تقديم نفسها بديلاً، وتكتفي بما يفعله ممثّلوها داخل المؤسّسات المُنتخبة، لأنهم الأقدر في هذه المرحلة على تقييد أيّ عمل تُقدِم عليه الحكومة اليمينية بعد نيلها موافقة البرلمان. وهذا ما يفسّر عدم توسّع دائرة الاحتجاجات المناوئة "لقصف سوريا" في بريطانيا وأوروبا عموماً، واقتصارها على الناشطين اليساريين الذين اعتادوا أن يكونوا في مواجهة دائمة مع السلطة. فالقطاعات الأخرى من المجتمع لا تعتبر أنّ الأمر يعنيها، وتقول أيضاً إن المعارضة للتدخّل في هذه المرحلة ليست مجدية كما في السابق، لا بل إنها ستبدو بالنسبة إلى غير المسيّسين بمثابة رفض لضرب داعش، وهذا ليس جيداً لصورة المعارضة اليسارية وموقعها من المعادلة السياسية. المشكلة هنا لا تتعلّق بالموقف من التدخّل الإمبريالي الذي يبقى صالحاً لأيّ زمان ومكان، بل بالتغيّرات التي طرأت على المشهد الدولي وجعلت من وزن القوى التي تؤيّد التدخّل أكبر من تلك التي تعارضه. مع هذا التغيّر بات على اليسار الراديكالي الذي يمثّله كوربين في بريطانيا أن يبذل مجهوداً مضاعفاً حتى لا يغدو خارج السياق الذي تحاول أحزاب اليمين ويسار الوسط فرضه على أوروبا والعالم متذرعةً بما تقوم به داعش هنا وهناك. * كاتب سوري

  • فَشِل اليسار في مجابهة ميل الحكومات الغربية إلى التورّط المتزايد في نزاعات

    فَشِل اليسار في مجابهة ميل الحكومات الغربية إلى التورّط المتزايد في نزاعات (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات