فرنسا: التردُّد السياسي والمُكابَرة اللامسؤولة

  • 0
  • ض
  • ض

في لحظات الصدمة السياسيّة الحادّة تبرز عملانيّة القيادة، وتصبح مدارك صُنّاع القرار على محكِّ التاريخ، إمّا الانجراف الهادر، أو التموُّج على جهاز كشف وهن، وخبايا كاريزما الزعماء، أو التوقُّف عند مقاييس العقلانيّة. ولطالما كانت الانعطافات الحادّة تفكُّ شيفرة شخصيّة القائد، ورُبَّما تحوِّل نمطيته إلى قيادة تحويليّة تُسهِم في تحوُّل القيادة إلى تيَّار مُتفاعِل، وحالة حركيّة غير نمطيّة على مُستوى السلوك السياسيِّ. تلك المواقف التي حوَّلت ديغول من مُجرَّد قائد تاريخيٍّ إلى فلسفة، وفهم للحكم الفرنسيِّ خُصُوصاً على مُستوى السياسة الخارجيّة عندما رسمت بعض معالم الاستقلاليّة في القرار التي لم يكن فيها أسير بيئته الإقليميّة منها، والدوليّة. عُمُوماً... عندما تنهار كرة الثلج، وتسقط وأنت في الوادي لن تكون لديك خيارات كثيرة، فهناك مثلاً: دقائق معدودة هي فقط تلك التي حكمت، ووصفت قيادة الرئيس جورج دبليو بوش بأنها الأسوأ في التاريخ الأميركيِّ عندما أخبره مُساعِدوه بعد دقائق بكارثة سبتمبر، وهو يزور مدرسة في ساراسوتا بولاية فلوريدا، أعقبها تفجير البرجين في مانهاتن، وعلى الرغم من معرفته بخروج الطائرات عن مساراتها المُعتادة إلا أنّه استمرَّ ببرنامجه في المدرسة لمُدَّة 20 دقيقة بعد وقوع الأحداث من دون اتخاذ أيِّ ردِّ فعل تجاه هذا الحدث الكبير. لحظة الصدمة التي لم يستوعبها ابن تكساس على العكس من سابقيه الذين عاشوا سجلاً من الحُرُوب الباردة، والحارّة، والتي جرى التحقيق فيها معه لاحقاً كما يروي الصحفيّ الأميركيُّ المُخضرَم Bob Woodward، المشهد يتكرَّر في 11 أيلول الفرنسيّة في تفجيرات الثالث عشر من تشرين الثاني 2015، ولكن هذه المرة يبدو أنَّ متعة الكرة المُستديرة التي حُرِمَها الرئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاند جاءت على حين غرّة، وتحوَّلت إلى كرة لهب لم يستوعب الحدث سبقها بوقفة بوشية، واستمرَّ دقائق أخرى من المشاهدة حتى وإن كان الهدف عكسيّاً في مرمى قلب أوروبا، وباريس مدينة النور استمرَّت الصدمة إلى حين تمكُّن مُرافِقيه من إخراجه من الملعب مُستقِلاً طائرته نحو مقرِّ وزارة الدفاع. أخطاء القيادة التي أحاطت قصر الإليزيه... تحالفات مُشوَّهة، وخطابات مُغوَّشة، وسياسة خارجيّة مُرتبكة، ونيات موتورة حوَّلت الديك الفرنسيَّ إلى دجاجة تحاول الحفاظ على قِنِّها الذي هاجمته الذئاب المُختبئة في ثنايا حاراتها الضيِّقة... داخلياً سنوات عجاف أظلت حكم الاشتراكيّين، شارك فيه منجل نيكولا ساركوزي، الذي وضع مُعادَلة جبريّة في الملفِّ السوريِّ يصعب حلها، وستكون نتائجها مُباراة صفريّة؛ فنسبة البطالة لم تنخفض، وعجلة النموِّ الاقتصاديِّ لم تتحرَّك كثيراً، فضلاً عن مسلسل فضائح (18+) الذي يُقدِّمه هولاند بعرض مُستمِرٍّ في ثنايا الإعلام الفرنسيِّ، والعالميِّ، ويعشق الجمهور الفرنسيُّ هولاند عندما يظهر في ثنايا البرنامج التلفزيوني الفرنسيِّ الساخرCest cantaloupe عندما يُوصَف بـ"الأبله"، والسفينة الفرنسيّة التي تُبحِر بالمياه الدافئة على متنها أكثر من 1500 فرنسيٍّ للقتال في صفوف داعش، وجبهة النصرة لم يعُد منهم بقارب نجاة مثقوب إلى برِّ الأمان تقابله مُعارَضة اليمين، ولا سيَّما من قِبَل جمهور مارين لوبين الذي تتهمه بأنه فتح الباب للعرب، والمُسلِمين، والسياسات الأمنيّة الخاطئة التي تمارسها فرنسا اليوم بعد أن تحوَّلت الحدائق العامة في فرنسا إلى ساحات تدريب للمُتطرِّفين تحت غطاء مُمارَسة الرياضة. الشرق الأوسط الذي كتب عنه ذات يوم جاك شيراك في مُذكّراته (كلُّ خطوة يجب أن تكون هدفاً) بأنه جعل من أولويّاته بناء السلم في المنطقة، فمن حقِّ الشعوب أن تحتلَّ الموقع الذي تستحقُّ بسلام، وأمان في الشرق الأوسط؛ بحثاً عن حلم قيام رابطة مُتوسِّطيّة تُشكّل همزة وصل بيننا وبين العالم العربيِّ من أجل التبادل والتلاقي. يبدو أنَّ هولاند أراد هذا التلاقي التحدِّي الفرنكوفونيّ الذي كان من المهم أن يُقدِّم القِيَم الفرنسيّة التي لا تتناسب بأيِّ حال من الأحوال مع المُتطرِّفين. لا يُمكِن الحديث عن تفجيرات باريس فقط حديثاً أمنيّاً بمعزل عن السياسة الخارجيّة الفرنسيّة تجاه الشرق الأوسط التي تحتاج إلى مُراجَعة حقيقيّة، وكأنَّ فرنسا الديغوليّة قد شيَّعها هولاند علناً ليُعلِن موتها على تحت مُسمَّى الليبراليّة وحقوق الإنسان التي شغفها حُبّاً في سوريا، وذبحها كرهاً في مُواجَهة نظام صدام حسين في ثنائيّة: "الدكتاتور القاسي، الدكتاتور الطيِّب"؛ لتُعيد إنتاجها بالمُعادَلة السوريّة: "المُعارَضة المُعتدِلة، المُعارَضة المُتطرِّفة"، تقف اليوم على أقصى اليمين، والتطرُّف ضدَّ سوريا بينما تحارب هي بنفسها القاعدة في مالي. دبلوماسيّة تخلّت بشكلها الدقيق عن مفاهيم الأخلاقيّة الاشتراكيّة التي رفعتها كشعار في سياستها الخارجيّة؛ بحثاً عن دبلوماسيّة مصلحيّة لم نجد لها اليوم تطبيقاً في ميدان سياسة هولاند. فرنسا ذات التاريخ الديغوليِّ القديم تحتضر في القرن الحادي والعشرين بمرمى نيران صديقة طالما حذر منها أصدقاء، وإن كانت التحذيرات - بالمنظور الفرنسيِّ - قد جاءت من مصادر ليست وثيقة، وبالأحرى ما هو وزنهم السياسيُّ والأمنيُّ بالنسبة إلى فرنسا الأخ الأكبر في قلب أوروبا، ولكن أن يقوم مسؤول أمنيٌّ عراقيٌّ مُهِمٌّ بزيارة باريس، ويُبلِغ الجانب الفرنسيَّ بأسماء، ومعلومات أمنيّة دقيقة نهاية عام 2014 تخصُّ 200 مُشتبَه به في مدينة باريس تحديداً ينوون القيام بعمليّات إرهابيّة لم تُؤخَذ بالاعتبار من الجانب الفرنسيِّ، ثم رسالة أخرى يُوجِّهها جهازات المُخابَرات العراقيّة. مصادر السِرِّ تُشير إلى معلومات قدَّمها الجهاز الأمنيُّ في العراق من خلال الحُصُول على اتصالات بينيّة بين مدينة الموصل والرقة تشير إلى أنَّ قيادات داعش قد بحثت بعد مُشارَكة روسيا في الضربات الجويّة على مواقع التنظيم البدء بالقيام بشنِّ ما سمَّوه "الغزوات الدوليّة"، وأنَّ هذه العمليّات الإرهابيّة ستشمل إيران ومصالحها في الخارج؛ بسبب عدم وجود أعضاء للتنظيم في الداخل الإيرانيِّ، وكذلك تنفيذ عمليّات في روسيا، ومصالحها في الخارج، علاوة على الولايات المُتحِدة الأميركيّة. معلومات مُهمَّة سُلِّمت إلى الجهات الفرنسيّة، وفيها تفاصيل تدعو فيها إلى رفع درجة التأهُّب في مُدُن باريس وشوارعها بالتفصيل تحت مُسمَّى "غزوة باريس"، وليس على نمط حادثة تشارلي إيبدو، لكنَّ الفوقيّة القوميّة الفرنسيّة المُتكبِّرة التي أبت أن تتنازل، والحُجَّة أنّها تتلقى مثل هذه الاتصالات بصورة مُتكرِّرة. المعلومة مُهمّة إن جاءت على لسان مُدير وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة جون برينان مثلاً، ولكنها ليست مُهمّة في بلد تجري على أرضه أكبر حرب عالميّة على الإرهاب، نعم... إنَّ جهازه الأمنيَّ يُعاني من خروقات مُستمِرّة، ولا يزال بحاجة إلى مزيد من التأسيس، والعمل، لكنها معلومات قُدِّمت بشكل مُهمٍّ، وفي وقت قياسيٍّ، وكانت تلك الإشارات تحافِظ على حياة الأبرياء، وبناءً عليه فإنَّ فرنسا الأخ الأكبر الأوروبيّ، ومُمثلة القِيَم الأوروبيّة بحاجة إلى مُراجَعة شاملة، وجادّة. * مُدير مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة ــ بغداد

0 تعليق

التعليقات