الشيخ بلال ناصرالدين *يحسب البعض أن ولاية الفقيه العامة التي يقول بها بعض فقهاء الشيعة إنها أمر مستجد ومستحدث. يخلطون في ذلك بين ثبوتها والحديث عنها في كتب الفقهاء وتطبيقها عملياً على أرض الواقع. نعم لم تكن ولاية الفقيه نافذة قبل الثورة الإسلامية في إيران، على الشكل الذي هي عليه اليوم، وإن كان معمول بها في زمن المغول الذين أبدوا للشيخ الكركي صلاحية تطبيق الشريعة الاسلامية ضمن الدولة الصفوية، الا انها لم تأخذ الطابع الفقهي والاجتماعي الذي هي عليه الآن.

ولا يخفى أن نظرية تولي علماء الدين للحكم في العالم الإسلامي لم يكن مقتصراً على الفقه الشيعي فحسب، إنما أيضاً له وجود وبقوة في فقه السنّة. وما يعمل عليه الإخوان المسلمون ويحاولون إنفاذه ينشأ على أساس ولاية علماء الدين وفقهائه، إذن ليس الكلام في ولاية الفقيه مقتصراً على الشيعة فحسب.
أما شيعياً فقد قال بولاية الفقيه العامة الكثير من الفقهاء، أمثال الشيخ النراقي الذي أظهر أدلته على ضرورة أن يكون هناك فقيه حاكم في الأمة الإسلامية والشيخ الكركي والعلامة الحلي وغيرهم من المتقدمين، والذين هم من المتأخرين والمعاصرين كالشيخ الأنصاري والإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر...
والمقصود بالفقيه هو ذاك الذي يتحلى ببعض الصفات العلمية والمعنوية مما يخوله أن يكون قادراً على إدارة شؤون الأمة بما ينسجم مع الفقه الإسلامي والمصلحة الإسلامية.

لا تتعارض ولاية الفقيه
مع المرجعيات الدينية ولا تقف حائلاً بوجهها

ولذلك فقد وضعت شروط عدة لمن يحق له التصدي أكان للإفتاء أم للمرجعية والحكم، من أبرز هذه الشروط أن يكون المتصدي قادراً على استنباط الحكم الشرعي من المصادر الأربعة المعهودة في الفقه الجعفري، وهي القرآن الكريم، والسنة الشريفة - أحاديث الرسول (ص) إضافة لأحاديث الأئمة الإثني عشر- والإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، والمصدر الرابع وهو العقل القادر على التحسين والتقبيح، وللتفصيل في هذه المصادر مقام آخر، ومن الشروط أن يكون إثني عشرياً وذكراً وطاهر المولد.
وليس هناك اختلاف بين فقهاء الشيعة على أصل الولاية إنما وقع بينهم على دائرة صلاحيات الفقيه، فمنهم من قال إن ولاية الفقيه مقتصرة على المسائل العبادية والحسبية، كالتصرف بأموال الخمس والزكاة والقضاء... وهذا القول هو ما يصطلح عليه «بالولاية الخاصة» وفي مقابله مصطلح «الولاية العامة» التي هي محل كلامنا هنا ومثال انتقاد العلمانيين لها، وتعني أنّ للفقيه الجامع للشرائط حق الحاكمية في الأمة في غياب المعصوم أي الإمام المهدي. ففي عصر الغيبة لا بد أن يكون هناك من يقوم بإدارة شؤون الأمة من الناحية السياسية والعامة، وقد أبدى القائلون بالولاية العامة أدلة عديدة، عقلية ونقلية. ولسنا هنا بصدد بيانها جميعاً، وسوف أقتصر على القول بأن العقل يحكم بضرورة وجود حاكم وقائد واحد للإمة في غياب المعصوم على غرار ما هو مسنون في التاريخ البشري، بأن يكون هناك قائد لأي مجموعة وجماعة، أكانوا على شكل دولة ووطن، أم على شكل مؤسسات صغرى. وهكذا، فهذا من الأمور البديهية التي لا يختلف عليها اثنان، وقد أكد الإمام الخميني بديهية وجود القائد للأمة في غياب المعصوم بقوله إن ولاية الفقيه أمر بديهي وضروري لا يحتاج إلى أدلة.
بل إن ضرورة وجود الحاكم في الأمة الإسلاميةً أشد وأقوى منه في أي دين أو مجتمع آخر، ذلك لأن في التشريع الإسلامي انسجام تام بين الفقه والتطبيق العملي له، فهناك أحكام تتعلق بالتجارة والجهاد والقصاصات والحدود... فمثل هذه الأحكام لا تنفذ الا بوجود حكومة ولا تكون هناك حكومة الا بوجود حاكم، وبالتالي لا بد من وجود حاكم يرعى شؤون الامة ويقوم بالاشراف على تطبيق أحكامها.
بالاضافة إلى أن روح الشريعة الاسلامية قائمة على توحيد القيادة، وقد ورد عن الامام السادس لدى الشيعة الاثني عشرية قوله: «ما لكم وللرئاسات إنما للمسلمين رأس واحد».
والمقصود بالأمة في الفكر الإسلامي هو ما يشمل المسلمين جميعاً ولا دخالة للحدود الجغرافية في ذلك، فحدود الأمة هي أشخاص المسلمين أينما حلو واينما كانوا، ولهذا تصبح وحدة القيادة ضرورة لهم، لتلافي تفرق الأمة وتشتتها.
وبغض النظر عن سرد دليل من هنا أو من هناك، فإن الواقع الذي نراه يثبت لنا أهمية حكم ولاية الفقيه، فبنظرة سريعة على حال العراق الذي أصبح ولاية الفقيه مبدأ أبنائه عموماً ومقارنته بإيران القائمة في نظامها عليها، نجد ان الآثار الإيجابية التي تحققت في إيران بفضل هذا الحكم كثيرة جداً وليس للعراق تحقيقها طالما أن مدارسه الدينية وحوزاته لا تأخذ هذه النظرية على محمل الجد، فإن إيران مع كل الضغوطات العالمية والعربية عليها اقتصادياً وسياسياً بل وعسكرياً استطاعت مع كل ذلك أن تنهض ويصبح لها كياناً تقدر من خلاله أن ترفع صوتها وأن تهدد حتى الدول الكبرى في وقت لا يزال فيه العالم الاسلامي يناقش مشاكله تحت عنوان «ما الذي يجري يا ترى» ولا يستطيع مجتمعاً أن يقول حتى كلمة الحق بوجه تلك القوى المستكبرة، وما وصلت إليه إيران ليس وليد اللوحات الفسيفسائية، إنما وليد الالتفاف الشعبي حول القائد الواحد، ووليد الفكر الحوزوي العميق متمثلاً بشخص السيد الخامنئي الذي اثبت أن بالإمكان إيجاد حكم اسلامي حتى وإن كان في وسط المستنقع العالمي الكبير الرافض لحكومة إلهية.

لا شرط بفارسية الولي

تقوم ولاية الفقيه على مبدأ الإسلام، الذي يرفض كل أشكال العصبية ومنها القومية، ما عدا العصبية الدينية المعتدلة، ولذلك ليس هناك شرط يحدد شخص الولي الفقيه بأن يكون فارسياً أو عربياً أو غير ذلك، انسجاماً مع ما ورد عن النبي محمد (ص) لا فرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى، وإن المسلمين سواسية كأسنان المشط، فإن المعيار الوحيد الذي يفرق أحد عن آخر هو التقوى. وبالتالي فإن أي شخص تتوافر فيه الشروط التي ذكرت آنفاً له أن يكون ولياً، وليس لما يدعيه البعض من فارسية الولي الفقيه محلاً، مع العلم - ولو تنزلاً - بأن الولي الحالي أي السيد الخامنئي إنما هو هاشمي عربي، وكذلك كان سلفه الامام الخميني.
الا أن القومية وللأسف تطغى في كثير من الأحيان حتى على أكثر المسائل الشرعية بداهة، وهذا من القوقمة التي يعيش فيها أغلب العالم العربي والاسلامي، وهو الذي يبقيه على ما هو عليه عالماً استهلاكياً إلى أبعد الحدود.
ويمكن أن يقال لمن يتغنى بعروبته منتقداً إيرانية الولي الفقيه، أن عليه أن يقصي مذهب أبي حنيفة وابن حنبل وكتاب البخاري ومسلم والطبري... لأن هؤلاء أيضاً من الفرس.

لا تعارض بين ولاية الفقيه والمرجعيات

ولا تتعارض ولاية الفقيه مع المرجعيات الدينية، فلا تنافيها ولا تقف حائلاً بوجهها، وهذا أمر واضح لا لبس فيه ولا شبهة، فهناك عدد من المراجع في إيران والعراق ومنهم من يقول بالولاية العامة ومنهم من يرفضها، وهناك مقلدون لمراجع يرفضون ولاية الفقيه وهم في الوقت نفسه ممن يسلكون خطها.

لا دكتاتورية في حكم الفقيه

من الأمور التي هي مثار جدال في النوادي الفكرية تحديد المقصود من الحرية التي ينادي بها جميع البشر، ما هو مفهوم الصحيح والصائب لهذه الكلمة، وما هي حدود الدكتاتورية ومعناها، هذه المصطلحات تعتبر مصطلحات شائكة، كلّ يفسرها ويُبرز معناها بحسب ثقافته. ولذلك لا يمكن لكل من ادعى دكتاتورية شيء أن نصفق له ونركن، فلطالما اختلط في هذا العالم الحابل بالنابل، واصبح الحق باطلاً والباطل حقاً، ومن تلك الادعاءات القول بديكتاتورية ولاية الفقيه، وان الولي الفقيه بممارسته لصلاحياته المعطاة له إنما يقوم بتقويض حرية الآخرين، وأنه هو الآمر والناهي في كل آمر... هذه التساؤلات ترجع الى المشكلة الآنفة الذكر، فإن مفهوم الحرية والدكتاتورية يتمايل مع الفكر الذي أتبناه، فلا يمكن لي أن أقنع العلماني بحقيقته، ولا العكس، ولكن يمكن القول باختصار هنا، ان الولي الفقيه يستخدم صلاحياته مراعياً مصلحة الأمة ومن دون كبح آراء الآخرين، بل ضمن حرية التعبير عن الرأي بشرط عدم الانجراف بما يفسد النظام العام أو يكون خارجاً عن المبادئ التي تحفظ خط الحكم وشكله.
لهذا وذاك، يمكن اعتبار النظام المبتني على نظرية ولاية الفقيه نظاماً نموذجياً لكل الحركات والتيارات الإسلامية، ويمكن أن يتخذ قدوة في سبيل انتشال الأمة من الضعف الذي هي فيه.
* أستاذ جامعي