عن شُكر «جبهة النصرة» بعد تحريرك

  • 0
  • ض
  • ض

هناك شيء من المبالغة في ردود فعل بعض الناس إزاء مواقف وسلوك العسكريين والدركيين المُحررين وعائلاتهم بالنسبة إلى المجموعات الجهادية التي اختطفتهم. والسنوات الماضية في لبنان تميّزت عموماً ببروز تشكيلة من المناحي الخطابية، المُبالغة، عند فئات من الناس ربما انغمسوا في الأطر السياسية المعروضة على الساحة الوطنية بدرجة أكبر من ممثليهم على الساحة السياسية، أقلّه على المستوى العاطفي. هي حال بعض جمهور المقاومة مثلاً، حيث نجد، أقله على المستوى المُعلن مثل وسائل التواصل الاجتماعي، أغلب المواقف المُنتقدة والقاسية بحق العسكريين المُحررين، إذ تجري مقابلة "جُبن" العسكريين المُفترض بشجاعة وشدة بأس مُقاتلي المقاومة ومُعتقليها الذين وقعوا في أسر العدو الإسرائيلي في الماضي. ويجوز الافتراض أن قساوة الانتقادات عند هؤلاء، تأتي ضمنياً من شعورهم بأن القيم والرموز التي يستقر عليها نظامهم العاطفي الخاص، أي ما يسمى "ثقافة المقاومة"، لا يقام لها حساب مُنصف في الساحة الإعلامية اللبنانية عموماً، وأن العَمَل العسكري المقاوم نفسه لا يُعترف بفضله في تحقيق الظروف التي سمحت بتحرير الأسرى العسكريين، وذلك عبر تضييق المقاومة الحصار على الجماعات الجهادية في جرود السلسلة الشرقية. وليست كل السلوكيات هذه سوى إشارة، من بين عدة، إلى أنّ جزءاً من جمهور المقاومة ما زال يتفاعل بدرجة كبيرة مع ما تطرحه الساحة الوطنية الإعلامية، ربما لدرجة تتنافى مع مصلحته الخاصة، وذلك بالرغم من كل جهود "حزب الله" في توفير الإطار المعنوي والعاطفي الأفضل لتعبئة جمهوره حول مشروعه. والمواقف المُدينة للعسكريين وعائلاتهم ليست جديدة، ولم تنتظر تصريح الدركي جورج خزاقة، ثم والده، حين شكرا "جبهة النصرة" يوم الثلاثاء، بينما أصبح جورج في أمان، في قاعة الاستقبال في السرايا الحكومية. وكانت الانتقادات والإدانات قد طاولت الأسرى منذ أن بثّت المجموعات الجهادية أشرطة الفيديو المُذلة لهم فيما كانوا معتقلين عندها، لا بل من قبلها، إثر مشهد عائلات الأسرى اليائسة والباكية حين قامت باعتصامات في مناطق مُتعددة من البلاد. وفيما قد يغيب عن البعض، أخصّهم الصغار بالسن، مدى تشابه قضية الأسرى العسكريين بقضية مخطوفي "الحرب الأهلية" مثلاً، هؤلاء الآلاف الذين ما زال مصيرهم مجهولاً، لأن القدر شاء أن تَرفض القوى الحاكمة مجتمعةً أن تعطي الإذن بالتحرّي، والتوثيق وحتى الكلام رسمياً عنهم، فيما بعضهم معروف أين دُفن أو جرى حرقه أو رميه مربوط القدمين بمكعّب من الباطون. وللأسباب هذه كافة، تجوز العودة إلى بداية قضية اليوم، قضية "العسكريين المخطوفين لدى القوى الجهادية"، والتذكير بما يأتي: تقنياً، هؤلاء العسكريون لم يُخطفوا. وهؤلاء لم يخونوا بزّتهم، أو مهنتهم. يعيش العسكريون في مهنة تجعل منهم مدار تجاذبات بين القوى الحاكمة، وعرضة لنزاعاتهم كما لصفقاتهم. فعلاقة الطبقة السياسية عموماً مع القطاع العام، هي علاقة استغلال إلى حد التدمير بالنسبة إلى هذا القطاع، دون حتى ضمان قابليته للاستمرار. وبصفتهم أشياء تحت تصرّف السياسيين، أُرسل العسكريون والدركيون إلى عرسال ليعيشوا إلى جانب الميليشيات الجهادية، دون أي مراعاة لأمنهم الشخصي. كانت أوامرهم تقضي بعدم التعرّض "للثورة"، للموقع الطائفي "السني" هذا. "عرسال خطّ أحمر"، كان شعار "تيار المستقبل" آنذاك، فيما لا يزال بعضنا يذكر موقف زعيمه الخبيث رداً على قول السيد نصر الله إن "بيوت الناس في نهر البارد خط أحمر" في سنة 2007. وكما حصل في موقعة "نهر البارد"، انقلب الجهاديون في أحد الأيام على جيرانهم العسكريين والدركيين، وكالأشياء، أسروا منهم "بالدزينات"، أخذوهم دون سابق إنذار من مقارّهم التي قيل لهم أن يلزموها احتراماً لحدود "النفوذ الطائفي". هؤلاء العسكريون لم يسقطوا في معركة، لم يكونوا في إطار فيه إلهام وحثّ للإنسان على التفوّق على نفسه. هُم الذين جرتت خيانتهم، وذلك بأبشع الاشكال التي يمكن تصوّرها. ببساطة، لقد "خانهم وطنهم"، خانتهم الجِهة الوصيّة على تأمين استمرارهم كبشر، أي وظيفتهم، وممثليهم، و"الدولة" بصفتها المرجع المجتمعي الأعلى، ولاحقاً، بعض فئات المجتمع. وظيفتهم ومنطق إدارييها وضعاهم في إطار لا يقبله إنسان، بتصرف الجهاديين. وما تلا ليس خطف، أو أسر، بل "أخذ". عائلاتهم، وهم الأقرب إليهم بصلات الروح، أدركوا كل ذلك تلقائياً، وعاشوا حلقات الإذلال تباعاً. إذلال أبنائهم عبر الإعلام الذي عرض وعلّق بغبائه المعتاد على الفيديوهات التي أصدرها التنظيم الجهادي الخاطف، أو ذاك الذي انحاز إلى الجهاديين، والسكوت المُطلق في أحيان أخرى، عندما لم تعد القضية تطرح مجالات للاستثمار السياسي. هل من شاهد مناظر العائلات فيما كانوا يجلسون في الخيم والساحات بانتظار جلاء مصير أبنائهم في السنة الماضية؟ هل من يدرك أنه لولا تحريك الملف من قبل الراعي القطري للتنظيم الجهادي، كما يجري تحريك ملف رئاسة الجمهورية أو الوزراء ومناصب الدولة المهمة، لما كان أحد يتحدّث بموضوع العسكريين والدركيين الأسرى اليوم؟ من المفارقة في هذا الإطار كيف أن بعض جمهور المقاومة لا يكاد يدرك بتاتاً الظروف التي تجعل المقاومة إطاراً يمكّن الآلاف من تقديم ذاتهم والأفضل ما فيها لتحقيق مشروع سياسي. لكن هكذا تعمل السياسة في العادة، دون علم أو إدراك كافة فئات القاعدة المعبّأة بكافة تفاصيل البناء. أما المفارقة الأكبر التي يمكن تسجيلها، فهي السذاجة التي يعيش فيها بعض الناس، فيما يغفلون أن تعاطي "النصرة" و"داعش" والسياسيين مع الأسرى، ليس سوى فرع من تعاطي هذه الجهات معهم بشكل عام ويومي. لكن تاريخياً، هذه "السذاجة" عادية أيضاً. قد نكون في طريقنا في العالم العربي إلى عصر "باليوليتي" جديد، مع التصحّر عوضاً عن الجليد، فلا مفارقة بالتالي لو صادفنا ناساً مُلتفين حول صنم ثور. فيما كنت أشاهد على التلفاز دخول الأسرى المحررين إلى مبنى السرايا الحكومية، لفتني دون أن أركّز على الموضوع صوت الصراخ والتهليل في القاعة، فيما كانت الكاميرا تلتقط صف السياسيين ينتظم لاستقبال الأسرى. ثم أدركت وجود عائلات الأسرى عندما سُمح لهم بلقائهم وطغى مشهد العناق على الشاشة. وأدركت بعد حين أن سبب اندهاشي من اللحظة، كان واقع أن أصوات الأهل العاطفية هذه، لم تجتمع من قبل مع صورة المكان، السرايا. إن الرابط في ذهني بين الغرضين بات حسّياً غريباً ويتطلّب تصوّره ربما تعاطي الحشيش، كما يفعل الفنانون لتحريك مخيلّتهم. هؤلاء الناس لم يُرحّب بهم قطّ في السرايا من قبل، وفي العموم، لم يُرحّب بهم في أي مكان. لم يعاملهم الإعلام جيداً، ولم يلتفّ المجتمع من حولهم. كانت تحركاتهم في الشارع دائماً محصورة بالأقارب. ببساطة، هؤلاء وأولادهم لم يرحّب بهم في الحياة، وهو ما يدعوهم إلى شكر أي قوّة يرونها مسؤولة عن إعطائهم يوماً إضافياً. ولنكن واضحين في هذا الموضوع: هذه تماماً الحال التي تريدها الطبقة الحاكمة للناس في هذا البلد. وليست الصورة الجماعية للعسكريين مع السياسيين التي التقطت في السرايا، حيث جُعل العسكريون يجلسون على الأرض كما كانت تصوّرهم "النصرة"، فيما وقف السياسيون خلفهم، ليست هذه سوى دليل إضافي على أولويات "بروتوكول" السرايا بالنسبة إلى اللبنانيين المُحررين، بدل التنبّه لما تلتقطه الكاميرات من تصريحات وتأهيل الأسرى نفسياً. بعد التأهيل النفسي، قد يقول الأسرى المُحررون كلاماً آخر، أو لا، وهذا موضوع آخر. أما الآن، فليسوا الوحيدين الذين سقطوا.

0 تعليق

التعليقات