كان أول «فرمان» يصدره أمير المؤمنين وخليفة المسلمين لرعيته في دولة الخلافة، من بعد أن استتبت له الأمور، على النحو التالي:أولاً: يمنع على النساء السفور، أو أن يكشفن وجوههن للرجال، وواجب عليهن ارتداء الحجاب الشرعي الذي يسترهن. وإذا شوهدت امرأة تمشي في الطريق بدون محرم، أو تسير سافرة، أو كاشفة عن وجهها، فسوف تقبض عليها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمّ يُعاقب ولي أمرها بالحبس. وكذلك يُمنع منعاً باتاً أخذ مقاييس جسم أي امرأة من أجل تفصيل ملابس لها، حتى ولو كان القائم بالعمل امرأة أخرى.

ثانياً: تمنع إذاعة المعازف (الموسيقى)، ويحظر الاستماع لها في البيوت أو المحال أو العربات. وإذا وُجدت أي أدوات عزف في بيت أو محل، فإن صاحبه سوف يُسجن والمحل سوف يُغلق. وإذا وجدت شرائط غناء في سيارة، فإن السيارة سوف تصادر والسائق سوف يُسجن. ويمنع منعاً باتاً استعمال الطبول، كما يحرم الغناء والرقص وكل مظاهر الفسوق في حفلات الزواج. وفي حال المخالفة فإن رب العائلة سوف يُقبض عليه ويُعاقب. 
ثالثاً: يُمنع حلق اللِحية أو قصها بأي شكل من الأشكال. وإن أي رجل يُضبط حالقاً لحيته أو قاصاً شعرها، سوف يُقبض عليه ويُسجن حتى تكبر لحيته إلى حدها الشرعي. 
رابعاً: إنّ كل رسم أو صورة معلقة هي نوع من الشرك بالله. لذلك وجب أن ترفع كل الصور من حجرات البيوت أومن المحال أو من أي مكان آخر، وسوف يُكلف أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفتيش في كل مكان للتأكد من تنفيذ هذا الحكم. 
خامساً: يُمنع القمار والميسر وكل أشكال اللهو عن ذكر الله. وسوف يجري سجن كل اللاعبين أو اللاهين أو المتواطئين معهم، وسوف تغلق تلك المحلات. 
سادساً: يمنع تصفيف الشعر على الطريقة الغربية. وكل من يضبط متلبساً بتصفيف شعره على هذا النحو، سوف يتولى رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حلق شعره وتغريمه.
سابعاً: تحرم أعمال السحر، وسوف تصادر كتب السحرة جميعاً وتحرق. كذلك تمنع ألعاب الحواة، ومن يقوم بها يوضع في السجن. 
ثامناً: تتوقف كل السيارات أو العربات في أوقات الصلاة. وأي شخص يبقى في محله أو في الطريق متلهياً عن أداء الصلاة في وقتها، سيُقبض عليه فوراً، بقطع النظر عن أسباب تلهيه. إنّ هذا بيان واجب التنفيذ، صادر من أمير المؤمنين محمد عمر إلى رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كابل. صدر في قندهار، في 23 من شهر رجب سنة 1417 هجرية.

■ ■ ■


ليس أمير المؤمنين أبو بكر البغدادي، بصاحب سبق في إعلان دولة الخلافة الراشدة حينما طلع من الجامع الكبير بالموصل، ليبشر جماهير الأمّة بقيامتها من جديد... فلقد كان قصب الريادة والسبق في إحياء هذه الخلافة بعد طول موات، من نصيب أمير المؤمنين الملاّ محمد عمر الذي أطلق على دولته اسم «إمارة أفغانستان الاسلامية». وبشر أمام حشد من الملالي بايعوه في قندهار يوم 4 نيسان 1996، بأنّ دولته تلك ستمضي ببركة الله على منهاج الخلافة الربانية.

سال لعاب عدد من الملوك حينما انتهى إليهم نبأ إلغاء تركيا للخلافة العثمانية


وبالفعل، فقد كانت تلك «الدولة الاسلامية الطالبانية» أول محاولة جدية وناجحة لإعادة الحياة إلى مومياء الخلافة الراقدة في قعر تابوت دفنتها فيه «الجمعية الوطنية العليا التركية»، يوم 3 آذار 1924، حينما اقترعت غالبية أعضائها لمصلحة إلغاء صيغة الخلافة، وخلع آخر الخلفاء عبد المجيد، ونفي سلالة آل عثمان جميعاً وترحيلها فوراً إلى خارج الجمهورية التركية.

لماذا سقط نظام الخلافة؟

كانت رمزية الخلافة وقيمتها - في تلك الأيام - قد انحدرتا إلى الحضيض، لما صار الخليفة مجرد ألعوبة في أيدي القوى الغربية التي احتلت اسطنبول وأجزاء كثيرة من أراضي تركيا في نهاية الحرب العالمية الأولى. فكانت تلك القوى الاستعمارية تسلطه لينفذ لها ما وقّع عليه في هدنة مودروس (30 تشرين الأول 1918) ثم في معاهدة سيفر (10 آب 1920). وكان السلطان/ الخليفة يأتمر بجميع أوامر أعداء بلاده، وينفذ لهم كامل طلباتهم مطيعاً، فيقرّ قوانين تتنازل فيها السلطنة للانكليز والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين عن كل أقاليمها غير التركية، ويسمح لهم بالاستحواذ على مضايق البوسفور والدردنيل. ثم إنه يقر لهم قانوناً آخر يقسم فيه تركيا نفسها ويسلخ الأجزاء الأرمنية والكردية في الأناضول عنها. ثم إنه يلغي الجيش العثماني ويسرّح كل جنوده، ويسلم للحلفاء كل أسراهم عند الجيش العثماني من دون أن يسلموا هم الجنود العثمانيين الأسرى لديهم. ثم إن الخليفة يتيح لجنود الحلفاء أن يسيطروا على الإذاعة والتلغراف والسكك الحديدية، وأن يحتلوا أية مواقع استراتيجية داخل تركيا يراها المحتلون مهددة لأمنهم وسلامتهم... والأدهى من كل ذلك أن الخليفة محمد السادس (وحيد الدين)، أوعز في نيسان 1920 إلى شيخ الإسلام درّي زاده عبد الله أفندي لكي يفتي بكفر رجال المقاومة التي قامت في بلاده ضد الغزاة المحتلين لتركيا. ولقد نصّت فتوى شيخ الإسلام على أنّ قتال المتمردين الخارجين عن طاعة الخليفة (المتواطئ مع محتلي بلاده غير المسلمين) هي فرض عين على كل المسلمين! ولمّا نجح المقاومون في هزم الغزاة وطرد اليونانيين من غرب تركيا، بعد أكثر من ثلاثة أعوام من المعارك، لم يجد خليفة المسلمين وأمير المؤمنين ما يصنعه سوى ما صنع كل عميل خائن لوطنه، حينما ينقضي دوره. فغادر الخليفة وحيد الدين تركيا هارباً مع أعداء الوطن، على ظهر بارجة بريطانية نقلته إلى المنفى في جزيرة مالطة، في 17 تشرين الأول 1922.
ولم يكن وحيد الدين بدعة من نوعه بين خلفاء آل عثمان، فقبله كان أخوه الأكبر السلطان/ الخليفة عبد الحميد الثاني يُغرق بلاده في متاهات من جنون العظمة التي ألمّت به. وكان عبد الحميد هذا قد فرض حظراً في سلطنته على مسرحيات سوفوكليس وشكسبير لأنّ بعض مواضيعها كان عن خلع الملوك من سدة العرش! ولعل من أطرف ما فعله الخليفة عبد الحميد أنه امتنع عن إدخال الإنارة الكهربائية إلى قصوره سنين طويلة حتى جرى إقناعه بجهد جهيد أن ليست هناك أية علاقة بين الدينامو (المولد الكهربائي)، وبين الديناميت! وكان من عادات عبد الحميد أن يحمل مسدسه في حزامه دائماً وأبداً، ولم تكن مرة واحدة تلك التي أطلق فيها السلطان النار على بعض خدمه المساكين الذين قدّر لهم سوء طالعهم أن يرعبوه بصورة مفاجئة! ثم إن الخليفة (الذي يعتبره بعض الاسلاميين اليوم رمزاً وبطلاً وأيقونة لأنه تصدى لهرتزل، وتلك أكذوبة وخرافة!) لم يكن لينسى نصيبه من متع الحياة الدنيا، فكان قصره يضم مئات من الجواري الصغيرات ومن الغلمان. وكان الخليفة يستخدم آلافاً مؤلفة من الحرس والعسس والخدم والحشم ومتذوقي الطعام، وآلافاً آخرين من الجواسيس يجوبون بقاع السلطنة بحثاً عن معارضين مفترضين. ولكن أولئك الجواسيس فشلوا جميعاً في إحباط مساعي مجموعة من الضباط الشبان، كونوا جمعية «الاتحاد والترقي»، ثم قاموا بالاستيلاء على السلطة في تموز 1908، وعزلوا خليفة المسلمين عبد الحميد، وأرسلوه إلى المنفى في سلانيك برفقة 213 محظية من جواريه، ومعهن قطته المفضلة.

محاولات لنفخ الهواء في فم جثة

تلك «البلاوي» التي اقترفها خلفاء آل عثمان في تاريخهم المديد، هي التي نفرت كثيراً من رعاياهم منهم، ومن دولة الخلافة نفسها، حتى لجأ البعض إلى الإنكليز يتواطأون معهم ضد أبناء ديانتهم الترك المتسلطين عليهم منذ أربعة قرون قهراً وجوراً! ولكن كل «بلاوي» آل عثمان تلك، لم تدفع الأتراك إلى أن يبادروا مختارين بإلغاء الخلافة، بل إن ذلك القرار قد أخذ منهم وقتاً وجهداً ونقاشاً طويلاً حتى اتخذوه أخيراً في 3 آذار 1924. وكان كثير من الساسة والعسكريين الأتراك - ومنهم بعض أقرب أعوان مصطفى كمال مثل الجنرالات علي فؤاد ورفعت وكاظم قره بكر- يرون في مؤسسة الخلافة قيمة معنوية لا يجب أن تهدرها تركيا أو تضيّعها وتلغيها. وكانوا يعتقدون أن الخلافة الإسلامية يمكن فصلها عن السلطنة العثمانية، فتلغَى الأخيرة دوناً عن الأولى، وبذلك يبقى الخليفة رمزاً دينياً جامعاً بذاته للمسلمين، من دون أن يكون له - بعد إلغاء دوره كسلطان- سلطة زمنية تضايق الساسة الجدد وتريبهم من دوره. وكان رأيهم أن إبقاء الخلافة في الأتراك بالأستانة، يضفي على الجمهورية التركية التي ولدت في 29 تشرين الأول 1923 مكانة إضافية وقدراً ووجاهة وهالة في العالم الإسلامي، تشبه تلك الهالة التي يضفيها الفاتيكان على روما في العالم المسيحي. وتركيا بعدُ ما زالت في أمسّ الحاجة إلى خليفة تركي يجعل لها وضعاً مميزاً خاصاً بين الأمم المسلمة، مثلما جعل البابواتُ الايطاليون لبلدهم وضعاً مخصوصاً بين الأمم النصرانية. بل إن الخلافة بذاتها قد تفيد تركيا، إذ تجمع عرى المكونات الاجتماعية والطائفية والعرقية للأمة التركية، وهي من بعدِ محنة الحرب، تكاد أن تتشظى لحمتها.
ولكن مصطفى كمال وأنصاره كان لهم رأي آخر مغاير، فهم يرون أن مفهوم الجمهورية لا يمكن له أن يتلاءم أو يتواءم مع مفهوم الخلافة مطلقاً. فالجمهورية تعتبر في دستورها أن الشعب التركي هو مصدر السلطات وصاحبها الأوحد، وأما الخلافة الإسلامية فلا يمكنها أن تعترف سوى لله بكونه مصدر السلطات ومشرّعها. ثم إن الخلافة لكونها أممية، لا يمكنها أن تعترف - صراحة - لأمّة معينة تعيش تحت مظلتها الجامعة، بامتياز خاص بها دوناً عن أممها الأخرى. ولا يمكن للخلافة أن تعترف لكل شعب بسلطانه التام المستقل عن عباءتها، لأنها تفقد بذلك علة وجودها.
ثمّ زاد مصطفى كمال (الذي كان قائداً عسكرياً عثمانياً في الجبهة الجنوبية الشامية، حينما تمرّد عرب وتواطأوا مع الإنكليز في حربهم ضد العثمانيين) فأعلن عما في قلبه من غيظ وغضب، وكان من رأيه أنّ خلافة لم تردع بهيبتها وسلطانها الجنودَ المسلمين الهنود والمغاربة والعرب لكي لا ينخرطوا مع جنود أعدائها البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين في صف واحد ينال منها في العراق والشام والدردنيل وتراقيا والأناضول، تلك إذن خلافة لا حول لها ولا قوة ولا شأن ولا قيمة، وأما تلك الشعوب التي غدرت - في ظنه - بالخلافة، فلا يرجى منهم حينئذ رجاء، ولا حاجة لربط مصير تركيا الجديدة معهم برباط!

«البلاوي» التي اقترفها خلفاء آل عثمان هي التي نفرت كثيراً من رعاياهم


وزادت حادثتان جدتا في ذلك الزمن، من ارتياب الكماليين من دور الخلافة والخليفة، بالرغم من أنهم هم الذين نصّبوا ولي العهد عبد المجيد بعد فرار السلطان وحيد الدين مع البريطانيين.
فأمّا الحادثة الأولى فهي أن الحلفاء حين أرادوا دعوة تركيا إلى مؤتمر مدينة لوزان في نهاية عام 1922، ليفاوضوها على حدودها الجغرافية النهائية، بعد تخليها عن الولايات العثمانية غير الناطقة بالتركية، لم يدعوا فقط حكومة الجمعية الوطنية في أنقرة التي يقودها الكماليون، بل إنهم دعوا معها ممثلين عن الخليفة في اسطنبول. ولقد استاء مصطفى كمال من ذلك الأمر كثيراً، لأن إرسال دعوتين معاً يراد بهما تبديد وحدة السياسة التركية، ولعل ذلك مدخلاً جديداً لتبديد وحدة الدولة أيضاًَ!
وأمّا الحادثة الأخرى، فكانت حين بدأ الخليفة المعيّن عبد المجيد يجمع من حوله قوى تقليدية ومحافظة ليتوسل بها نفوذاً ما. ولقد طلب مصطفى كمال من الخليفة الكف عما يحاوله من اشتغال بالسياسة، وأن يقتصر على دوره الرمزي والمعنوي والشكلي المرسوم له، فما راع كمال إلا أن جاءه الرد من مسلمي الهند في شكل رسالة نشرتها صحف اسطنبول الثلاث في أواخر تشرين الثاني 1922، ووقعها الآغا خان والمهراجا أمير علي. ودعا الرجلان حكومة تركيا إلى وجوب احترام منصب الخليفة وعدم تهميش دوره.
وكانت تلك الرسالة القطرة التي أفاضت كأس الكماليين. فباسم الخلافة والرابطة الإسلامية يجيز مسلمون لأنفسهم أن يتدخلوا في شؤون تركيا لنصرة الخليفة والخلافة، ويقرر هؤلاء أن يعلموا ساسة تركيا ما يصلح وما لا يصلح للشعب التركي ولدولته! والمفارقة المدهشة أنّ أولئك المسلمين أنفسهم الغيورين اليومَ على الخليفة والخلافة، هم الذين كانوا - قبل بضع سنين- قد بعثوا بجنودهم تحت راية جيوش غير مسلمة، ليحاربوا صفاً واحداً دولة الخلافة التي يترأسها الخليفة الذي لا يجيزون حالياً تهميش دوره! ولقد حيّرت تلك الرسالة الهندية جراحاً تركية قديمة، وحكّت دمّلا لم يلتئم بعد في القلوب، فكان ذلك المكتوب سبباً من أسباب التعجيل في إلغاء الخلافة! وكذلك غلبت حججُ الكماليين حججَ مخالفيهم، فاستقر القرار بين غالبية نواب الجمعية الوطنية العليا التركية بأن يلقوا عن كاهلهم هذه الخلافة الثقيلة الوطء، وأن يرتاحوا من عبئها.

سباق على الزواج بجثة متحللة

وأمّا في بلاد الشرق الأخرى، فقد سال لعاب عدد من الملوك حينما انتهى إليهم نبأ إلغاء تركيا للخلافة العثمانية، واعتزالها القيام بتلك الوظيفة. فجدّ كل واحد منهم لكي يحمل، هو قبل غيره، عبء الأمانة التي نأى الترك عنها وأشفقوا منها. وسعى كل واحد فيهم أن يشغل، هو لاغيره، منصب الخليفة الشاغر! 
وفي 11 آذار 1924، أي بعد أسبوع واحد من إلغاء البرلمان التركي للخلافة، افتتح حسين بن علي ملك الحجاز المزاد، وأعلن أنه هو الآن قد صار - بحمد الله - أمير المؤمنين وخليفة المسلمين. وادعى ملك الأفغان أمان الله خان في بلاده ومع قومه، مثل الذي ادعاه لنفسه الشريف حسين. ولكن تلك الدعاوى لم تلق قبولاً من بقية الملوك والسلاطين. وكان هنالك اثنان آخران يرى كل واحد منهما في نفسه جدارة أكثر وأحقية أكبر لكي يصير هو خليفة الله في الأرض. وكان أحد ذينك الرجلين عبد العزيز آل سعود سلطان نجد، وكان الثاني هو فؤاد الأول ملك مصر.
ولعل فؤاد كان الأكثر حرصاً على شغل الوظيفة الجديدة. فهو دعا إليه شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، وأطلعه على ما نواه من إعلان نفسه خليفة على المسلمين. فزيّن الشيخ لمليكه الفكرة ووعده أن يصنع له مؤتمراً يجمع فيه شيوخ مصر كلهم حتى يبايعوا جلالة الملك فؤاد إماماً وخليفة لرسول الله. وبالفعل فقد وفى شيخ الأزهر بوعده للملك، فعقد بالإدارة العامة للمعاهد الدينية، في يوم 25 آذار 1924 (أي بعد ثلاثة أسابيع من إلغاء الأتراك للخلافة في بلدهم) مؤتمراً كبيراً تحت اسم «الهيئة العلمية الدينية بالديار المصرية لبحث شأن الخلافة وللدعوة للمؤتمر الإسلامي العام لجميع المسلمين». وحضرت إلى المؤتمر هيئة دينية كبرى رأسها شيخ الأزهر الجيزاوي بنفسه، وكان من بين أعضائها رئيس المحكمة العليا الشرعية الشيخ محمد المراغي، ومفتي الديار المصرية الشيخ عبد الرحمن قراعة، ووكيل الجامع الأزهر الشيخ أحمد هارون، وشيوخ المعاهد الدينية الكبرى، ومشايخ الأقسام بالجامع الأزهر، وهيئة كبار العلماء، وشيخ الشافعية، ووكيل المالكية، وشيخ الحنابلة... إلخ.
ولمّا كانت الخلافة شأناً عاماً للمسلمين كافة لا يحتمل أن يقرّه شيوخ الأزهر وحدهم لملِك مصر، كان لزاماً حينها على الشيخ الجيزاوي أن يستقطب شيوخاً آخرين من أرجاء العالم الإسلامي كافة، لأجل ترسيخ حملته الإسلامية لمبايعة الخليفة فؤاد. وكان من الواضح أنّ الشيخ قد نذر نفسه بالكامل للغاية المقدسة! ولأجل تحقيق هذا الهدف، فقد قرر المجتمعون الأزهريون أن يعقدوا مؤتمراً عاماً لجميع المسلمين، وأن يكون ذلك التجمع العام بعد عام واحد من مؤتمر الأزهر السابق، أي في شهر آذار 1925. وقرروا أن البحث سيكون فيمن يجب أن تسند له الخلافة ومكان وجوده، وحددوا شهر شعبان من العام التالي لانعقاد اجتماعهم. لكن عراقيل داخلية وخارجية كبلت كل جهود شيخ الأزهر وجماعته لخدمة المليك المفدى، وجعلت حملتهم تبوء بفشل ذريع.
فمن جهة، لم يرق لسعد زغلول رئيس وزراء مصر - وقتها - فكرة أن يصير فؤاد خليفة للمسلمين، ووجدها نوعاً من الترهات السخيفة المبتذلة. وأخذت الصحف الوفدية على مدى عامين تهاجم تطلعات عاهل مصر المحمومة نحو الخلافة. ولقد شاركت حتى أحزاب الأقلية في الامتعاض من مطامح فؤاد، برغم أنهم كانوا حلفاء تقليديين له. وكتبت جريدة «السياسة» الناطقة بلسان حزب «الأحرار الدستوريين»، في عددها لشهر آذار 1926، افتتاحية معارضة لتطلعات فؤاد، فقالت: «إن الدستور ينصّ على أنه لا يجوز للمَلِك أن يتولى مع مُلكِ مصرَ أمورَ دولة أخرى بغير رضى البرلمان. ومن ثم يتعيّن ترك هذه المسألة للسياسيين، وأن يكف علماء الأزهر عن دعوتهم». وفي ذلك المناخ عام 1925، ظهر كتاب الشيخ الأزهري الجريء علي عبد الرازق «الإسلام و أصول الحكم»، ليفند مفهوم الخلافة الإسلامية نفسه بالأدلة الشرعية والتاريخية والمنطقية.
ومن جهة ثانية، امتنع الملوك الآخرون المنافسون لفؤاد على منصب الخلافة، عن إرسال مشايخهم إلى مؤتمر الأزهر المزمع انعقاده في القاهرة. فأخذ ذلك الموعد يتأجل مرة تلو مرة دون أن يلتئم نصاب كافٍ لعقده. وحينما يئس المنظمون بعد عامين كاملين من مجيء من دعوهم، قرروا أن ينعقد مؤتمرهم الإسلامي العام للخلافة بمن حضر، في 13 أيار 1926. ولم يتجاوز عدد أعضاء الوفود غير المصرية 34 شخصاً. فكان الحضور ضعيفاً والنتائج هزيلة، وحتى أولئك الحاضرون أنفسهم لم يجتمعوا على فكرة مبايعة فؤاد بالخلافة، وظل كل فريق منهم يتشيع لسلطانه دون غيره. ففشل مؤتمر شيخ الأزهر في تحقيق مراد الملك فؤاد. ثمّ أخفق بعد ذلك مؤتمر آخر أعدّ له المفتي محمد أمين الحسيني في القدس عام 1931، للبحث في موضوع إحياء الخلافة. وكان كل ذلك الفشل المتلاحق إعلاناً واضح الإشهار بوفاة منظومة الخلافة بيولوجياً، بعد أعوام من وفاتها سريرياً!

■ ■ ■


ولكن البعض من جماعات الإسلام السياسي (حزب التحرير خاصة) لم يستوعبوا حقيقة أن الخلافة قد توفيت، فأبوْا أن يقيموا لها العزاء، أو حتى أن يدفنوا جثمانها، بل إنهم ظلوا زمناً طويلاً مشدوهين أمام تابوتها يوقدون البخور أملاً بقيامتها من رقدتها الأبدية. ورغم أنّ كل شعوذاتهم لم تؤتِ أكلها أبداً، فإنّ الله يسّر أخيراً ظهورَ الرجلين المنتظرين، أبي بكر البغدادي وقبله الملا عمر، لتتحقق المعجزة على أيديهما المباركة، وتقوم مومياء الخلافة النائمة منذ 90 سنة، إلى جماهير الأمة المتعطشة لعودتها من جديد!
* كاتب عربي