لا يألو الصهاينة الحاكمون في تل أبيب جهداً في إطلاق يد جيشهم في سعيه الحثيث إلى إبادة الفلسطينين لا مجرد «تأديب» حماس كما يدّعون. فمعضلة الصراع «الديموغرافي» الحتمية شكلت حدثاً بارزاً بالنسبة إلى الدولة العبرية، العرب ينجبون أكثر بمعدل 4 لواحد، كيف يمكن التعامل مع قدرٍ كهذا؟ الإبادة هي الإجابة الأكثر هدوءاً في أروقة الحرب الإسرائيلية. أطلقت يد الطيران العبري فاستشهد أكثر من 2100 فلسطيني خلال عدوان غزّة الأخير، لكن ذلك وإن كافياً ومرضياً بعض الشيء واجهته عاصفةٌ جديدة: كيف يمكن أن نفلت من العقاب «المجتمعي» الأوروبي الذي بات يعرف أكثر مما ينبغي؟
لم يكن المجتمع الأوروبي يعرف الكثير عن المسلمين خلال العقود الماضية، كان جل ما يعرفه هو بضع أمورٍ شديدة البساطة: السلام عليكم، رمضان والعيد، وبالتأكيد الثياب الأفغانية واللحى الغريبة. بعد ذلك خطف الفلسطينيون الطائرات فوسموا بالإرهاب ولكنهم رغم أنهم لم يصنفوا كإسلاميين (إذ أن أغلبهم كانوا من تنظيماتٍ يسارية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مثلاً)، فقد ألقى كثيرٌ من الصحف الغربية بتوصيفاتٍ «إسلامية» عليهم. ظلت تلك العلاقة تتأرجح بين المجتمع الغربي والمسلمين وسرعان ما وصلت إلى عنق الزجاجة المؤلم مع تصاعد المد الإسلامي بدءاً مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وصولاً حتى أحداث 11 أيلول مع القاعدة وبن لادن، حينها استشعر المجتمع الأوروبي القلق. ولأن كان حديثنا عن المجتمع الأوروبي، فهو يختلف عن الحكومات الأوروبية التي كانت ومنذ اليوم الأول تراقب تحركات الإسلامويين وحركاتهم ومنذ نشوئها (يمكن مراجعة علاقة الإخوان المسلمين بحكومة بريطانيا مثلاً). كل هذا ودون إطالة حديث، كان يخدم الدولة العبرية منذ بداياتها، كان يعطيها كل الدوافع المطلوبة كي تستثير تعاطف المواطنين الأوروبيين الذي يشاهدون العربي المسلم، الذي يعيش بينهم ولا ينتمي إلى مجتمعاتهم، بل بالعكس يشجع على كراهيتهم وبعنف زائد. لكن دوام الحال من المحال، فجاء الجيل الجديد من أولاد المهاجرين العرب/ المسلمين مختلفاً، إذا جاء أوروبياً بكل ما للكلمة من معنى وإن حمل ديانة النبي محمد (ص) وأسماء عربية. هنا بدأت هجرةٌ ثقافية/ عقلية معاكسة: الغربي الذي لا يعرف عن الإسلام شيئاً، بات لديه أصدقاء مسلمون، زملاء دراسة، حتى زملاء رياضةٍ وهوايات، وما كان يخشاه سابقاً ويخافه بات جزءاً من حياته اليومية ببساطتها. إن انخراط هؤلاء المسلمين في تفاصيل المجتمع الغربي جعلهم نواة اختراق، ولكن ليس كما فكّرت بها الحركات الإسلاموية: نواة اختراق هدامة، بل كانت نواة بناءة. فشاهدنا منتخب ألمانياً الفائز بكأس العالم الأخيرة (بما لألمانيا من تاريخٍ عنصري) لكرة القدم يضم أكثر من لاعبٍ «مسلم» كمسعود أوزيل (تركي) وسامي خضيرة (تونسي) مثلاً (لا يمكن الإشارة ههنا إلى منتخب فرنسا الذي كان من أوائل المنتخبات التي ضمت مسلمين والسبب يعود إلى فكرة الفرانكفونية وسلطتها). وكما جرت العادةُ، وقف المجتمع الغربي ومواطنوه مع المواطن الإسرائيلي باعتباره «أوروبياً» يحتاج الدعم بمواجهة «عربٍ» رعاع متخلفين يريدون قتله من دون أي وجه حق (يمكن مراجعة تعليقات المخرج وودي ألن التي تتحدث حرفياً عن الفكرة)، لكن ما كان يصح في السابق، لم يعد يصلح الآن: هذه المرة النواة المسلمة نفسها باتت جزءاً من المجتمع الأوروبي الأصلي نفسه، وبالتالي فإن جزءاً من ايمانها انتقل إلى المجتمع نفسه. هنا بات المجتمع الأوروبي منقسماً وبحدة: أوروبيٌ محبوب مسكين (الصهيوني) ضد أوروبيٍ مواطن «فاعل» و»مفيد» (الأوروبي المسلم ذو الأصول الشرقية).
كل ذلك ظل حبيس الأدراج لأن سيطرة الصهيوني على وسائل الإعلام جعلت كل محاولات الأوروبي المسلم بعيدةً من «الحقيقة» بنظر أقرانه الغربيين، فمهما حكي عن «مجازر» صهيونية، كانت وسائل الإعلام (وأصدقها حتى) تكذّبه وتشير إلى «مجازر» عربية. ولعبت الأنظمة العربية الديكتاتورية وتمظهراتها دوراً كبيراً في تصديق المجتمع/ المواطن الغربي للدعاية الصهيونية. جاء عدوان غزّة الأخير نقطة تحوّلٍ كبيرة: كانت نقطة التغير هذه مرتبطةً بشيءٍ لم يكن في الحسبان أبداً، فما استعمله الغرب ومخابراته لتنفيد «الربيع العربي» انقلب عليهم وبأثرٍ رجعيٍ مخيف. تمت تعرية الصهاينة أكثر مما ينبغي وبكثير! نقلت وسائل التواصل الاجتماعي كل ما يحدث في غزة لحظةً بلحظة، حدثاً بحدث، وصورةً بصورة. بات من المستحيل على أي وسيلةٍ إعلامية تكذيب ما يحدث، مهما كانت مهاراتها، ومهما كانت قدرات مراسليها وحتى لو إنّها «طردت» مراسلها أو «عزلته» فإن تغطية ما يحدث صار فعلاً من الماضي. ظهرت الحقيقةُ وبشكلٍ بالغ جعلت الأوروبي المسلم ينتعش ويشعر بأنه ولأول مرةٍ بات «صادقاً» أمام مجتمعه، فهو لم يكن ينقل الصورة كاذبةً. ردة فعل الصهاينة كانت هذه المرّة عشوائيةً وغير منظمة، ذلك أنّهم لم يستوعبوا ما حدث جيداً: أنشأوا وحدةً متخصصةً للهجوم الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي (الهاسبارا) همّها الوحيد الدفاع عن الدولة العبرية، وتبييض صورتها المهشمة حول العالم. لكن – وبطبيعة الحال - عرف الجميع بشأن الوحدة، وبات أي شخصٍ يدافع عن الصهاينة يوسم بأنه منتمٍ إليها حتى ولو لم يكن (يمكن متابعة التعليقات على صفحاتٍ أوروبيةٍ كثيرة حيث يتم استعمال هاشتاغ #hasbara_b****)) للرد على من يدافعون عن الدولة العبرية).
في الإطار عينه لم يعرف النشطاء العرب المؤيدون للقضية الفلسطينية نجاحاً بمقدار ما حصدوه خلال العدوان الحالي على المدينة البحرية، فهم لم يحتاجوا لأي إقناعٍ لأحد، وحدها الصور كانت كافية لإقناع الأوروبيين بالنزول إلى الشارع تضامناً: أطفالٌ بأجسادٍ ممزقة، بيوتٌ مهدّمةٌ فوق رؤوس ساكنيها، وأكثر من ذلك: جيشٌ يتفاخر مقاتلوه بأنّهم يقتلون مواطنين عزّل وأطفال (نستذكر ههنا صورة الجندي الصهيوني الذي يرتدي قميصاً مكتوبٌ عليها قتلت اثنان بطلقة واحدة في إشارةٍ لقتله امرأة عربيةً حامل). أدّت هذه الصور هدفها وأكثر، ورغم بقاء «المحافظين» وحماة اسرائيل في مكانهم، إلا أن الوسط واليسار الغربي استشعر ولأول مرةٍ أن المشكلةً التي تحدث في الشرق الأوسط بات «مواطنوه» يعرفون عنها، لذا انخرط كثيرٌ من تلك الأحزاب في تحركاتٍ متضامنة مع أطفال غزّة وأهلها أولاً لحفظ ماء وجهها، وبالتأكيد لحماية مكانتها الانتخابية.
اليوم يكمل الصهاينة عدوانهم على غزّة، يقتلون الأطفال والنساء وكبار السن، يفعلون ذلك من دون أن يرف لهم جفن، فهم يدافعون عن بلادهم كما يحبون أن يصفون حربهم، لكنهم وللمرة الأولى منذ نشوء دولتهم «الفتية» عراة أمام مجتمعات غربية كانت مستعدة أن تعطيهم روحها في لحظةٍ ما، أما اليوم فهي جالسةٌ تنظر وتراقب في انتظار انتخاباتٍ مقبلةٍ ستحدد اتجاه سياساتٍ أوروبيةٍ جديدة لربما.
* كاتب فلسطيني