(«عدوّنا هو الغرب» ــــ هادي العلوي)
صاحب القول أعلاه، المفكّر الراحل هادي العلوي، كان يحمل نظرة سلبيّة وماهويّة تجاه الغرب، بمعنى أنّه حاجج بوجود شيء «شرّير» وعدائي يكمن في جوهر الحضارة الغربية وثقافتها وتطوّرها التاريخي. والعلوي يكمل كلامه واصفاً الغرب بـ«... عدوّ البشريّة الاوحد، وأداته الضاربة في عدوانه المستمر على البشرية هي الولايات المتحدة الأميركية».

بعبارةٍ أخرى، كان العلوي يضع البشرية في كفّة، والغرب في كفّة مضادة، كأنّه الاستثناء ومصدر كلّ الشراسة في العالم. هنا شيء يشبه «اكتشاف» كلود ليفي ستراوس في «مداريات حزينة» لوداعة وعمق وتنوّع الحضارة الاسيوية في الهند والصين، مقابل الشّرق الاسلامي المنغلق والعدائي والرتيب، والذي وقف حاجزاً في وجه تلاقحٍ حضاريّ وجميل بين أوروبا وآسيا. يؤكّد ليفي-ستراوس انّه كان ممكناً لولا أن الاوروبيين قد اضطروا لبناء حضارتهم وهم محاطون بالمسلمين الاجلاف (بمعنى آخر، حتّى عنف الاستعمار الاوروبي ووحشيته في وجه الهنود والصينيين تفسرهما جيرة الاوروبيين للحضارة الاسلامية!).
ولكن اذا ما ابتعدنا من هذه الرؤى الجوهرانيّة، فانّه لا يوجد، للوهلة الأولى، أيّ سببٍ بنيوي وحتميّ للشّقاق بيننا - كعرب - وبين الغرب. نحن لا نملك أطماعاً في أراضيهم ومشاريعنا لا تتضمّن تغيير نظام الحكم في واشنطن أو الهيمنة عليه (البعض ما زال يحلم بالأندلس، ولكن بالامكان وضع هذه الأمثلة المتطرّفة جانباً في هذا النقاش). بل انّه من الممكن - نظريّاً - عقد علاقات تعاون وصداقة ومنفعة متبادلة مع دول المركز الغربي، ففي نهاية الأمر، نحن نملك نفطاًَ نحتاج لأن نبيعه، وهم يملكون تكنولوجيا يهمّنا أن نحصل عليها، فلما العداء؟
في الفلسفة السياسية لآلان باديو، هناك مفهومٌ يتكرّر عن «مفاصل» محوريّة في المجال السّياسي واسئلة مركزيّة، لا تكمن أهميتها في ذاتها فحسب، بل في تأثيرها على مجالاتٍ أخرى كثيرة وتشابكها معها، فتصير هذه الخيارات حاسمة في تحديد شكل المجتمع السّياسي ككلّ. تشبه فكرة باديو المفهوم الماوي عن التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وهو استوحاها من الماوية بالفعل؛ وهذه المحاور عنده تشمل، مثلاً، الخيار بين المساواة والمجتمع الطّبقي، أو بين الملكية الفردية والشيوعية، فبالنّسبة لباديو، يكفي أن تتخلّى عن الفرضيّة الشيوعيّة حتى تخضع، بالمعنى الفلسفي، «لاقتصاد السّوق والديمقراطية البرلمانية - أي نظام الدولة الذي يوائم الرأسمالية -، وللطابع «الطبيعي»، أو الذي لا يمكن تجنّبه، لأكثر الاشكال وحشيّةً من انعدام المساواة».

الخاسر الأوّل من
«وهم التصالح» كان من
دون شك تنظيم «الإخوان» في المنطقة


علاقتنا مع اميركا تجوز مقاربتها عبر هذه النّظرية. نظراً لوضع النّظام العالمي، والاختراق الاميركي في منطقتنا، فإنّ الخضوع أو «التأقلم» مع الهيمنة الأميركيّة لا يؤثّر فقط على علاقتنا بالمنظومة الغربية، ولا يقتصر على التضحية بجانب معيّن من السيادة الوطنية، بل هو تنازلٌ ينسحب على كلّ الملفّات الأخرى، من السياسة الخارجية إلى النظام الاقتصادي إلى فلسطين، وحتّى في ما يتعلّق بنوعية النّخب التي تحكم البلاد. الصراع مع الهيمنة الأميركية هو المعركة التي تختصر كلّ المواجهات، داخليّاً وخارجيّاً، والخضوع - بالمقابل - يدخلنا في مسارٍ شامل لا فكاك منه.


وهم التصالح

يمكن للمرء أن يتفهّم قيام شاب مصريّ «مثقّف» بمساءلة مفهوم الامبريالية، وبالتشكيك في كون روسيا وقوّتها على الساحة الدولية تختلف نوعيّاً عن نمط الهيمنة الاميركي، نقاشات كهذه مطلوبة ومفهومة، ولكنها تغدو غريبة ومستهجنة، وخارج المكان حين تكون اميركا هي القوّة الّتي رسمت لهذا الشاب ماضيه السياسي، وفرضت عليه نظامه الاقتصادي، وسيّرت بلاده وخياراتها في كلّ المجالات خلال العقود الماضية.
منذ قيام الثورة المصريّة ظهرت نزعة لدى العديد من الناشطين المصريين تتجلّى في «تجنّب» المواجهة مع الدور الاميركي في بلادهم، أو حتّى نقاشه، واعتباره «طبيعيّاً»، أو القول بأنّ المجابهة غير ممكنة، أو انّه من المتاح تأجيل هذا السؤال الصعب وبناء نظامٍ سياسيّ حرٍّ وجديد تحت السقف الأميركي وبالتفاهم مع واشنطن. حقيقة الثورة وجذريتها تنتهي أمام انعطافات كهذه، هناك دائماً أسئلة صعبة ومواجهات مكلفة ولكنّها، تحديداً، ما يعطي الثورة مغزاها ومعنى القطع الفعلي مع الماضي ودينامياته وترسباته.
بدلاً من أن تكتسب الثورات العربية معنىً جذريّاً حقيقيّاً، تكون المواجهة مع منظومة التبعية الخارجية في قلبه، جاءت بروباغاندا مصادرة الثورات وتدجينها وتزييفها (وهي لم تكن أقلّ أذىً من «الثورة المضادة» ذاتها) لتشيع وهم أنّ الثورة ممكنة بالتصالح مع الوضع العالمي القائم، بل إنّ الاصلاح يجب أن يجري بالتفاوض معه ومع ممثليه! هذه الحالة من «الجهل المريح» لا تغيّر الواقع وموازينه، ولكنها تشوّه الوعي وتنفي الفعل السياسي. هناك كتب كاملة كُتبت عن الثورات العربيّة ومصائرها، في تونس ومصر واليمن، لا تجد فيها أثراً للدور الأميركي، أو يجري الكلام بشكلٍ عمومي ومبهم عن «السفارات» و«الحكومات الغربية» (فتصير الولايات المتحدة وبلجيكا، مثلاً، فاعلين متساويين).
هذا المزيج من التبسيط والتواطؤ هو الذي سهّل للأميركيين التحكّم بالعملية السياسية وادارتها في تونس وليبيا ومصر، من خلف الكواليس، وهو الّذي جعل العملية السياسية المحلية في هذه الدول متمحورة حول استمالة القوى الغربية وعقد الصفقات معها. مرسي جاء بصفقةٍِ مع اميركا، وخُلع بموافقتها، والسيسي زايد على «الاخوان» في خدمة المصالح الاميركيّة، فصار محظيها الجديد. لا شيء يدلّل على حالة الجهل المقصود كاقتناع الكثير من جماهير السيسي بأنّ رئيسهم يحكم في «تحدٍّ» لأميركا، مصدّقين القصص المسرحيّة عن «وقفات» السيسي في وجه واشنطن، ومن أطرفها ادّعاء أنّ السيسي سيتسلّح من روسيا بغية الخروج من دائرة الهيمنة الاميركية (وبتمويلٍ خليجي، تقول الروايات، أي أن السعودية والامارات، في العالم الذي يعيش فيه البعض، سوف تسهّل صفقات مع روسيا بهدف تفتيت النفوذ الاميركي!). يكفي أن نستمع الى رأي الجنرالات الإسرائيليين والاميركيين في نظام السيسي، وامتداحهم الدائم للتعاون غير المسبوق للحكومة المصرية مع إسرائيل في قمع الفلسطينيين، حتى نفهم مركزيّة الدور المصري لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
الخاسر الأوّل من «وهم التصالح» هذا كان، من دون شك، تنظيم «الإخوان» في المنطقة. الخسارة الكبرى للاخوان لم تكن في انحدار نفوذهم السياسي فحسب، وهم كانوا يمسكون بقياد الحكم في بلدان عربية عدّة قبل سنة ونيّف، فصاروا تنظيماً مقصيّاً ومطارداً. الخسارة الحقيقية لـ«الإخوان» تمثّلت في انّ استراتيجيّتهم للحكم بالتفاهم مع اميركا أوصلتهم الى خسارة السلطة والموقف المبدئي في آونة واحدة، بعد أن كان «الإخوان» المصريين، في الماضي، يحملون ادّعاءات راديكالية، نقدية تجاه القوى الغربية وإسرائيل، وضد النظام السياسي والاجتماعي القائم، لم يعد بإمكانهم العزف على الوتر نفسه، بعد أن وافقوا على السير في درب «كامب ديفيد»، وعدم تحدّي النفوذ الاميركي، والتواصل مع «إسرائيل»، وكلّ ذلك من أجل الوصول إلى الحكم - الذي لم يلبثوا أن خسروه نتيجة لـ«صفقة» عقدها الاميركان مع غيرهم.
حتّى اليوم، في الذكرى السنوية لمجزرة «رابعة»، يستنكف «الإخوان» عن توجيه نقدٍ حقيقيّ ومباشر لأميركا، أقلّه على ما فعلته بهم. هم يعرفون جيّداً أن من كان يقتل مناصريهم في الميادين، ويعتقل قادتهم وناشطيهم، هي فعلياً السياسة الأميركية لا السيسي. هم يدركون أنّ الولايات المتحدة انقلبت عليهم وعلى أيّ مفهومٍ للتمثيل الشعبي في مصر، وهم لا يزالون - مع الأسف - يأملون بعدم خسارة الرضا الأميركي ولا يريدون اغلاق الطريق على تفاهم جديدٍ في المستقبل يعيدهم الى منصة الحكم.
من تداعب خياله خططٌ من نوع «استخدام» اميركا واستغلال «تلاقي المصالح» معها، وهو يظن أنّه «يضحك» على الاميركيين ويتذاكى عليهم، ليس له الّا أن يقرأ تجربة «الإخوان» ومصيرها. المصيبة الحقيقية اليوم، لمن ينظر إلى الساحة الاسلامية، تتمثل في أن «داعش» أضحى التنظيم الاسلامي الوحيد في المنطقة الذي يحمل موقفاً جذرياً من السياسة الأميركية، فيما أغلب الاسلاميين الباقين قد اختُرقوا وحُيّدوا، بعضهم دخل في صفقات تحت الجناح الأميركي والبعض الآخر يقاتل بأمر غرف العمليات في تركيا والأردن التي تديرها الـ«سي اي اي». هذا الواقع، لوحده، كفيلٌ بتحويل «داعش» الى القناة الوحيدة لجذب الشباب الاسلامي الذي يرفض الهيمنة الأميركية (بطبيعة الحال، فإنّ راديكالية «داعش» في وجه اميركا ما هي الا امتدادٌ لتطرّفه في التعامل مع المخالف القريب والبعيد - وهو لن يطاول اميركا، ولكنه في ديارنا).


ثمن الانشقاق

المسألة هنا ليست على طريقة توصيف «نعوم تشومسكي» لعلاقة الفرد مع النظام الرأسمالي، حيث تنازلٌ صغير يجرّ آخر، حتّى يجد الانسان نفسه وقد صار غارقاً في نظام السوق وعقليّتها، وفي حالة اعتمادٍ لا فكاك منها، بل هي تتعلّق بكامل البنية التراتبية التي تحكم علاقة اميركا مع باقي العالم. في أزماننا هذه، انت ان لم تكن تملك ترسانة نووية، أو بلداً بحجم قارّة كالصين أو الهند، فإنّ مصيرك الطبيعي هو الالحاق ضمن المعسكر الاميركي ومنظومته العالمية. لا توجد علاقةٌ في الساحة الدوليّة لا يحكمها منطق القوّة. روسيا تكتشف اليوم أنّ كل المؤسسات العالمية، وصولاً إلى أنظمة تحويل النقد وخوادم الانترنت والمحاكم الدولية، سوف تتحوّل إلى أسلحة ضدّك لدى أوّل اختلاف مع السياسة الاميركية (حتّى لو كان مردّ الخلاف أنّ الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة قاما، بشكلٍ علني، بتشجيع وتشريع انقلابٍ ضد الحكومة المنتخبة في اوكرانيا، شعاره الأساس معاداة روسيا).
لهذا السبب تنهمك روسيا اليوم في انشاء مؤسسات بديلة للتعاملات المصرفيّة وتبني الصين وإيران شبكات انترنت وطنية، لا تمرّ عبر خوادم خارجية ولا يمكن قطعها أو التأثير فيها بسهولة (والصين أصرّت، منذ بداية عهد الانفتاح فيها، على ابقاء التعاملات المالية مع الخارج تحت سيادة الدولة حصراً). هذه البدائل لن تكون أكثر كفاءة من المؤسسات المعتمدة عالمياً، ولكنّها السبيل الوحيد لحماية هذه الدول من مصير كوريا الشمالية - بمجرّد توقيع زعماء غربيين على سلسلة قوانين وعقوبات.
في عالمنا هذا، كلّ الخيارات صعبة، ولا معنى هنا للتدثّر بتعابير فضفاضة واستسهالية مثل «معاداة الامبريالية»، يمكن لأيّ كان أن ينضوي تحتها؛ اذ لا يوجد بالمعنى العملي شيءٌ اسمه «معاداة الامبريالية»، يملك بنية واضحة، وعقلاً مركزياً يخطط، ويشمل قوىً قادرة على مقارعة الامبراطورية. كما انّنا لم نعد في الأيّام التي كان الزعماء العرب فيها، كصدام حسين وحافظ الأسد، يحاولون «اللعب على الحبال» واستغلال التناقضات بين المعسكرات الدولية بغية تحصيل مكاسب من الجهتين. صارت الهيمنة الأميركية مباشرة وآمرة، من يراقب تفاعل الإدارة الأميركية مع الأنظمة التابعة لها في منطقتنا، أو يقرأ ببساطة وثائق «ويكيليكس»، يدرك أن العلاقة تقتصر على تقسيم المهمات، حيث تعيّن الولايات المتّحدة، لكلّ «حليفٍ» لها، دوراً محدداً ضمن الاستراتيجية الاميركية في اقليمه، وما عليه الا التنفيذ.
قد يحاجج البعض بأنّه من الأسلم دخول هذه العلاقة غير المتكافئة، وتجنّب كلفة التحدّي، وأن نحاول أن نتبع مسار دولٍ ككوريا وتايوان واليابان، تمكّنت من تحقيق التنمية والتقدّم عبر التعاون مع النظام المهيمن بدلاً من الخروج عليه. ولكن من الضروري هنا أن نعي جيّداً شروط الخضوع في منطقة كالشرق الأوسط، وما اذا كنّا مستعدّين لاحتمالها: التصالح مع اميركا، مثلاً، يعني مباشرةً أن ننسى فلسطين وتحريرها، وأن نُخضع اقتصادياتنا لمشيئة المؤسسات الدولية، ونحن لا نملك طبقات برجوازية قديمة - كما في إيران والهند مثلاً - لديها مصلحة في الاستثمار الوطني وتنمية البلد، ولا نملك (كاليابان وتايوان وكوريا) ارث دولة مؤسسية متمرّسة في الإدارة. بمعنى آخر، فإنّ ارساء النظام الاميركي لدينا لن يعني إلا ادامة حكم النخب القاصرة والطبقات الناهبة والفئات المتحالفة مع الخارج.
الخيار هو ليس بين الخضوع الكامل لأميركا أو العداء النهائي معها، بل هو يتعلّق بمستوى التنازلات الذي تقبل به، و- وهذا أهمّ - النيّة الأميركية نفسها، التي قد لا تكون تصالحية أو قابلة للمساومة. في حالة إيران مثلاً، وهذه نقطة يجب تكرارها حتى نفهم حقيقة الموقف الايراني من السياسة الدولية، لم تكن إيران - برغم ارث حرب الخليج - في وارد الصدام مع الولايات المتحدة، وكانت بياناتها الرسمية (ولم تزل) تدعو باستمرار الى علاقات جيدة مع اميركا وغيرها من الدول الغربية. بل إن ايران كانت مستعدّة لتقديم تنازلات جدية في هذا الاطار، وفي إيران أصلاً نخبٌ وطبقات تسعى بحماس الى دخول منظمة التجارة الدولية وفتح العلاقات التجارية مع الغرب وتلزيم قطاع الطاقة في إيران للشركات الغربية. من هنا، لا يستغرب التفاوض الاميركي - الإيراني ومحاولات التقارب بين الحكومتين إلّا من يعتمد الصورة النمطية التي خلقتها أميركا عن إيران، ويجهل حقيقة التفكير السياسي الإيراني. جلّ ما أراده الإيرانيون هو أن تكون العلاقة مختلفة عن النمط «الاختراقي» الفوقي الذي يحكم صلة العديد من الدول الصغيرة باميركا - بمعنى آخر، أرادت إيران من أميركا أن تعترف بها كـ«قوة اقليمية»، لها درجة من الاستقلالية، وسياسات خاصة بها في منطقتها والعالم، والحقّ في مدّ نفوذها وعلاقاتها في الدول المجاورة (وبعد ما فعله جيران إيران بها خلال حرب الخليج، لا يمكن أن نلوم الإيرانيين إذا ما خالطهم قدرٌ ما من البارانويا، وسعوا الى حماية انفسهم من محيطهم). أميركا هي التي لم تقبل بهذه الصيغة، فبدأت، من جانبٍ واحد، بفرض العقوبات على إيران في عهد كلينتون (من دون سبب مباشر)، وأطلقت علناً سياسة «الاحتواء»، حتى جاء عهد جورج بوش الذي وضع إيران في «محور الشر»، ونزع الشرعية عن النظام الإيراني، وجعل من تغييره هدفاً رسمياً للسياسة الاميركية - هكذا ابتدأت المواجهة.

خاتمة

في العقدين الماضيين، كانت الهيمنة تمارس نفوذها وحروبها وغزواتها تحت ادعاءات قانونية وانسانوية كونيّة، تصوّر أفعالها دائماً على انّها تجسيدٌ للشرعية الدولية ولمفهوم العدالة والمصلحة العامة. بطبيعة الحال، الكثير من النخب في العالم الثالث استنسخت هذه المفاهيم عن «الشرعية الدولية» و«المجتمع الدولي» وصدّقتها وجعلتها جزءاً من ثقافتها ونظرتها الى العالم. ولكن، مع تقلّص القوة الغربية وقدراتها، تبدأ هذه «المبادئ» والشرائع بالانحلال، بالتوازي مع انحسار القوة المهيمنة.
الراحل الكبير هادي العلوي كان يفترض أنّ زوال سطوة الغرب كفيلٌ، في ذاته، بتغيير مسار الحضارة الانسانية، وفتح احتمالات جديدة للحياة البشرية، اقل مادية واكثر تحرراً. ولكننا انسجاماً مع رفض الجوهرانيّة، سننطلق من فكرة أنّ البشر متشابهون، وأن لا ضمانة في أنّ العالم الجديد الذي يتشكل اليوم سوف يكون أفضل وأكثر اخلاقية من سابقه. بالفعل، على مستوى معيّن، فإنّ التعامل مع دولٍ كروسيا والصين لا يختلف جذرياً عن العلاقة مع الدول الغربية. الروس والصينيون والإيرانيون وغيرهم لا يختلفون، في نهاية الأمر، عن الغربيين في براغماتيهم وسعيهم خلف مصالحهم، وفي قدرتهم على الاعتداء والأذى، ولكنّهم حين يفعلون هذه الأمور، على الأقل، فإنّهم لا يفرضونها علينا تحت اسم العدالة والشرعية والحضارة.
* من أسرة «الأخبار»