لدى الحديث عن العروبة والفكر القومي، يستعمل العديد من الناس تعبير «الاقليم ـــ القاعدة» من دون أن ينسبوه الى نديم البيطار، الذي رحل عن دنيانا منذ أيّام، وهو من صاغ المفهوم وأطّره ونظّر له في الحالة العربية. مثّل البيطار، في عيون الكثيرين، نموذجاً عن النزعة «الجرمانية» في الفكر القومي العربي، ضمن التقسيمة المكرورة عن «نموذج فرنسي»، وآخر «الماني» في نشوء القوميّات؛ وهي ثنائية مدرسيّة وغير تاريخية الى حدٍّ بعيد (وفرنسا، تحديداً، تبعت كلّ عناصر «النموذج الالماني» في بناء امّتها، من الضم القسري الى فرض الوحدة عبر الدولة الى الاقليم القاعدة - الا إن شئنا أن نصدّق أساطير الفرنسيين عن أنفسهم).
ما ميّز نديم البيطار هو انّه جمع بين النّسخة الأكثر «علميّة» من الفكر القومي، بمعنى أن تحقيق الأمّة - في نظره - له شروطٌ موضوعية، وأنّ لنشوء الأمم «قوانين» يمكن أن نستشفّها عبر دراسة التجارب التاريخية السابقة، وبين تراث «نظرية التحديث»، التي كانت ترى الحداثة (في السياسة وغيرها) على انّها حالة قطع جذري مع شكل «تقليدي» من الحياة، يجري تجاوزه نحو حالة وجودية وفكرية تختلف نوعيّاً عن السابق. من هنا، انطلقت نظرية البيطار في الجمع بين الشروط التاريخية والمادية لبناء الأمة من جهة، والانقلاب الفكري الذي تستلزمه هذه العملية من جهة أخرى، وهو ما يمهّد عنده لصناعة «المجتمع الجديد».
مع فشل المشروع العروبي، صار رائجاً أن يستخفّ البعض بالحلم الذي ألهم جيلاً من المفكرين والمناضلين، فيعيّرون الوحدة بأنّها «وهم»، لا قدر، ويلفتون الى الطابع الاصطناعي والايديولوجي لفكرة «الأمة» والهوية العربية. اللافت أن الكثير من هؤلاء النّقاد ينطلقون من افتراضات عن الطبيعة الانسانية و«النظام الديمقراطي» و«الحرية الفردية» لا تقلّ مثالية وميتافيزيائية عن نظرية العروبة، مع فارق أنّ ليبراليّتهم هذه، على عكس القومية، لم - ولن - تحظى يوماً بالتأييد الشعبي الجارف الذي نالته العروبة في مرحلة ما، ولن تداعب أحلام الملايين وآمالهم.
قبيل احتلال العراق عام 2003، حين صار نفي عروبة البلد من لوازم الغزو وصفات «العراق الجديد»، قال عزمي بشارة في خطابٍ له في جامعة أميركية إنّ المشكلة في هذه الصيغة هي أنّ العراقيين، ان لم يعودوا عرباً، فهم لن يصبحوا سويسريين، بل سينتكسون الى قبائل وطوائف واثنيات - وهو ما حصل. في زمننا الحالي الذي يشهد سقوط السرديات الكبرى، قومية وليبرالية واسلامية، تبدو هذه التطورات فرصةً لبناء خطاب جديد وتصوّرات أكثر تقدمية وتحرراً عن الهوية، الّا أنّ ظهور هذا الجديد ليس محتوماً، بل إنّ تأخّر البديل يعني افساح المجال للطائفيات البدائية التي تنتشر في بلادنا - داعش وغير داعش - حتى تستوطن وتسود.