كعادته، خرج أحمد سيف في السابع من فبراير/ شباط 2011 من سجن جديد، المخابرات الحربية هذه المرة. كان قد قبض عليه مع مجموعة من الزملاء الحقوقيين قبلها بيومين من مركز هشام مبارك للقانون الذي أسسه عام 1990. وعند سوق التوفيقية القريب من مركزه القانوني جلسنا في حديقة السطح المطلة على دار القضاء العالي في وسط البلد، يعرف ما أحب، قال لي: الظابط ظبّط لي شاي. كانت المخابرات الحربية تريد أن تتأكد أن أحمد سيف الذي اتهمه نظام السادات ومبارك بالولاء للمعسكر الشرقي لم يتحول لعميل غربي هذه المرة!
وقبل سقوط مبارك بخمسة أيام، كان أحمد سيف المحامي الذي درس الحقوق في سجنه، يقول إن ثورة 25 يناير تعني أن جيلكم اقترب مما لم نقترب منه، نحن فشلنا وأنتم تنجحون. قال هذا ولكنه أدرك – قبل رحيله - الخيبة التي أوقع رهطٌ من جيله جيلنا فيها مرة أخرى. يقرر أن يحكي لي حكاية منى، ابنته التي ولدت أثناء اعتقاله: هذه اللطيفة جعلتني أقرر الفرار من الاعتقال حتى تأكدنا أن أمها حبلت بها، كنا قررنا أنا وزوجتي ليلى سويف أن ننجب، ولم أكن لأخلف وعدي وأغير خطتي، خصوصاً أن علاء كبر وقتها وسيكون أمامي 5 سنين سأنشغل فيها بالسجن، يقول أحمد سيف!
كبر صديقي علاء، وسجن، وولد له أثناء اعتقاله - هو أيضاً - من زوجته الرائعة منال طفل سماه خالد، تيمناً بالشهيد خالد سعيد، مفجّر ثورة 25 يناير، ذلك أن السجن الثاني لعلاء كان في «عصر الإخوان»، وهو يقضي اليوم سجنه الثالث، والمقرر 15 سنة، بعد ما سمي بثورة 30 يونيو، ليحرز لقب سجين كل نظام!
قبل سقوط مبارك بيوم واحد في 10 فبراير 2011، يعترف أحمد سيف: أنا مذهول من عصركم، وفي قلبي شيء من الغيرة والفخر، اليوم لا يعرف أحد أحمد سيف، بسبب فايسبوك وتوتير وسرعة الاتصالات. يعرف الناس علاء، وأنا تحولت من أحمد سيف المحامي إلى أبو علاء! قلت له وقتها أنك أورثته كل شي، ويبدو أنها علقت في ذهنه!
الزمان: قبل تنحي مبارك بأيام، والمكان: في عليائه المطل على دار القضاء العالي، يجلس أحمد مستمعاً لمجموعة من شباب الثورة، ويحمل في يده قائمة من الوزراء يجري التفاوض مع المجلس العسكري بشأنها للتولي الحكومة المقبلة.
يقول أحمد سيف، إذا أردتم نصيحتي، فلا تقبلو لا بمحمد سعد ولا بعماد أديب وزراء للإعلام، بل طالبوا بحلّ هذه الوزارة، وانهاء فكرة وجود وزارة للإعلام، وناقشوا أوضاع رؤساء تحرير الصحف القومية.
الزمان: أيام بعد تنحي مبارك أو تنحيته، السابع عشر من فبراير، القرضاوي يخطب الجمعة في ميدان التحرير، يسألني أحمد عن أحوال البلد، يقصد البحرين، قلت له إن ثورة 14 فبراير اندلعت ولكن تم الهجوم على دوار اللؤلؤة، وهي مركز الاحتجاجات، وأنا وعلاء قادمين قبل قليل من وقفة احتجاجية أمام سفارة البحرين في الزمالك، يقول أحمد سيف، اذا كنتم مصرّين فستفعلونها كما فعلها الشباب المصري، ولكن أنتم كل مشكلتكم في عيون من حولكم أنكم شيعة.
أحمد سيف، الذي كسرت يده وساقه تحت التعذيب يوماً، يقرر أن لا يتوقف عن إثارة الدعابات، ورغم ضحكته المتعبة، يواصل الضحك، ركبنا التاكسي منهكين ذات مساء، فأصر أن يوصلني لمنزلي أولاً، لأني شاب متعب وهو ابن بلد. شهامته التي لا تنسى تحملك على نسيان الكثيرين في حضرته. تواضعه يثير في من حوله منابع الجرأة وفتح آفاق الحوار. يتحدث في حقوق الإنسان، ويستمتع بالحديث عن قصص المسرح والفنون، ويناقش مبادرات الشباب كأحدهم، ويسخر من دولة العواجيز، ويقول محذراً من جيله، احذرونا.
الزمان، بعد يوليو 2011، يقلق على سناء، ابنته الصغيرة. تخرجت سناء من المدرسة، وعليها أن تختار الجامعة وتبدأ رحلة البحث عن التخصصات وكالعادة في هذه السن يبدأ الصراع بين الجدوى والميول، ولكن العرق دساس. اليوم سناء تودع والدها وهي زميلة لشقيقها علاء، محبوسة في الفرع النسائي من جامعة المناضلين، سجن القناطر!
لم ألتق بأحمد سيف بعد 30 يونيو 2013، هو يراها انقلاباً محضاً، ورفض منذ البدء التوقيع على استمارات تمرد مصر، كان يرى فيها تجييراً شعبياً لاستكمال مشهد بشع أعمق. عبر الهاتف حدثته قبلها بفترة، ذكرته بحديثنا فور سقوط مبارك عن تجربتنا فيما سميناه في البحرين بسنة عسل ميثاق العمل الوطني قبل أن ينقلب كل شيء ، كان محبطاً من الواقع المصري والعربي، يتمنى ان يستطيع علاء، واحد من أمهر المبرمجين العرب، شق طريقه في الحياة وبناء مستقبل في وطن يحتضنه، كنت أسمعه وخيالي يسرح بي لمسرحة خلفية صوتية لحديثه، مصر التي في خاطري وفي دمي!
الوالد والمعلم والصديق والمناضل الملهم يستجمع ما بقي فيه من قوة ليدافع عن ولديه المسجونين بين القناطر وطرة. وعلى «تويتر»، الذي اقتنع أن يفتح فيه حساباً، نشر نص وصية شيخ القضاة المستشار يحيى الرفاعي: أنعى إليكم العدالة في مصر.
وليقف بعدها وقفة أخيرة استجمع فيها خيوط طاقته من بدنه الذي أنهكه الظلم والقهر، وقف يخطب ليحذر مجدداً من جيله، من دولة العواجيز، ليعتذر ويوصي وصيته الأخيرة: يا أبنائي... لا تورثوا أبناءكم الزنازين التي فشل جيلنا في تخليصكم منها، ولا تحرموهم حلم المجتمع الديمقراطي الذي فشلنا في تحقيقه. أحمد سيف الإسلام حمد، سكت الكلام.
* ناشط بحريني