تسيرُ ساعات الإعلام والسياسة في الغرب بدقةٍ وتناغم نادرين منذ بضعة أسابيع في ما يخصّ الملف السوري. فمقال صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية على سبيل المثال والذي استشهد به وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحافي أخيراً ليثبت تورط تركيا في دعم «داعش» هو، وإن كان مقالاً صحافياً في نهاية المطاف، إلا أنه يعكس أجواءً سياسية متغيرة في عواصم القرار العالمي، جعلت من الممكن أن يجد وزيرٌ سوري ضالته في مقالٍ في صحيفة أميركية لتوجيه الاتهامات إلى أنقرة بالتغاضي - على الأقل – عن أنشطة تنظيم «داعش» أو «الدولة الإسلامية» فوق أراضيها.
بل نُقل عن مصادر مقربة من مراكز القرار التحريري في الصحيفة المذكورة أنّ المقال كان جاهزاً للطبع قبل عشرين يوماً على الأقل من تاريخ نشره الفعلي في الثاني عشر من أغسطس/ آب، لكن النشر لم يجر في تموز/ يوليو «لاعتبارات تحريرية، كطغيان الحرب في غزة وحادثة سقوط الطائرة الماليزية فوق شرق أوكرانيا على عناوين الأخبار في مختلف أنحاء العالم». ولكن تبقى محاولة البحث عما هو ربما أبعد من مجرد «قرار تحريري» وصولاً إلى تأويلات سياسية محتملة لموعد النشر أمراً مغرياً، وإن بقيت في إطار التكهنات عن «تناغم» العنصر الإعلامي مع ذاك السياسي في الأجواء الجديدة. فمن جهة جاء نشر المقال بعد يومين من ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية التركية وفوز رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان فيها، بحيث لا يبدو المقال تدخلاً في الانتخابات ضد أردوغان بهدف الإساءة إلى فرص فوزه لو تمّ نشره قبل موعد التصويت. ومن جهة أخرى جاء نشر المقال قبل يومين من صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2170 القاضي بمنع دعم وتمويل تنظيمي «الدولة» و«النصرة»، بحيث لا توحي التفاصيل الواردة فيه عن نشاطات التنظيمات المذكورة - لو جاء موعد النشر بعد صدور القرار - بعدم التزام تركيا بقرار صادر عن أعلى هيئة دولية.

ليست ثمة أنغام
ألمانية خالصة بخصوص الشرق الأوسط
ليبقى المقال في توقيته الفعلي أشبه بتنبيه هادئ لأنقرة بأن مدارات إعلامية وسياسية جديدة قد بدأت تتبلور باتجاه خط أميركي ودولي عنوانه مجدداً «مكافحة الإرهاب»، والحُكم على سلوك العاصمة التركية وغيرها في المستقبل سيكون بمدى التزامها بالخط الجديد للحليفة واشنطن». وهو ما التقطه الوزير السوري ليعلن رغبة بلاده في «محاربة الإرهاب»، سواء في إطار جبهة إقليمية (مع تركيا) أو دولية (مع لندن وواشنطن) أو غير ذلك (من خلال تحالفات سورية داخلية بدأ الحديث عنها).
«فركة أُذن» ذات مغزى لعضو حلف شمال الأطلسي تركيا، لم تسلم منها قطر، حليفة أنقرة الوحيدة في العالم العربي، خاصة وأن «للفركة» علاقةً بإعادة حسابات دولية لا مكان فيها لمشاغبين إقليميين، لا الأصدقاء منهم ولا الأعداء. فجأة ومن دون سابق إنذار كشفت مجلة «دير شبيغل» الألمانية العريقة في عددها يوم الاثنين في الثامن عشر من أغسطس/ آب عن مراقبة جهاز الاستخبارات الألمانية الخارجية «بي إن دي» للحليف التركي منذ عام 2009. وبعيداً من الجدل السياسي حول «شرعية» مراقبة الحلفاء (تباكى الألمان كثيراً في الأشهر الماضية على مراقبة الأميركيين لهم) وعن الخطوات الدبلوماسية التقليدية كاستدعاء السفير الألماني في أنقرة إلى وزارة الخارجية للاحتجاج، فإن ثمة آثاراً أمنية للأمر: من راقب الأتراك قد لا يموت همّاً، لكنه سيلتقط بكل تأكيد هنا أو هناك في المنطقة الممتدة على طول الحدود التركية السورية (أكثر من ثمانمئة كيلومتر) إحدى تلك الحقائب الآتية من الخليج والمليئة بالأموال والتي تنتقل منذ اندلاع الأزمة السورية من يد إلى يد، فيصِل بعضُها إلى هدفه، ويتبخّر بعضها الآخر في حرارة اللقاءات بين المانحين والممنوحين (كشف رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل في تصريح قبل عامين أن «الثورة الليبية» كلفت قطر أكثر من ملياري دولار. وبالنظر إلى طول المدة وحجم البلاد والسكان يمكن افتراض أن «المصروفات التشغيلية» للمجموعات المسلحة المقبلة من تركيا إلى سوريا هي أضعاف هذا المبلغ). ولم يمضِ إلا يومان حتى كان وزير التنمية الألماني غيرد موللر يربط في برنامج تلفزيوني على المحطة الثانية «زي دي إف» بين قطر وتنظيم «الدولة» من ناحية التمويل (يوم الأربعاء العشرين من أغسطس/ آب). في الأثناء كانت الأنباء تأكدت أن «تنظيم الدولة» أعدم الصحافي الأميركي جيمس فولي ذبحاً، كما أظهر شريط فيديو بثته مواقع جهادية مساء الثلاثاء التاسع عشر من أغسسطس/ آب. وهكذا ظهر تصريح الوزير الألماني كما لو كان تعبيراً عن الغضب لمقتل الرهينة الأميركي وتعبيراً عن معلومات رسمية أو شبه رسمية بخصوص تمويل «الدولة» يتداولها المسؤولون الألمان على خلفية ما كشفته مراقبة الأتراك.
ليست ثمة أنغام ألمانية خالصة بخصوص الشرق الأوسط سواء بوجود مراقبة للأتراك أو من دونها، وسواء أشار بعض المراقبين إلى الاستثمارات القطرية الكبيرة في شركات ومؤسسات ألمانية مثل «دويتشه بنك» «فولكس فاغن» و«هوخ تيف» و«سيمنس» أو لم يفعلوا. فالأنغام الألمانية تبقى أصداء لعزف بعيد مصدره الضفة الغربية للمحيط الأطلسي. هذا ما حاولت «دير شبيغل» توضيحه في شرحها عن الخلافات الأميركية ــ الأميركية حول سوريا ومحاربة «الدولة» في الثاني والعشرين من أغسطس/ آب (يومان بعد تصريحات الوزير الألماني) مميزةً بين خط يمثله آخر سفير أميركي في سوريا روبرت فورد، وفحواه أنه يتوجب تسليح «المعارضة السورية المعتدلة» لمحاربة «الدولة الإسلامية» والقوات الحكومية السورية في آن معاً، وخطٍ آخر يمثله أول سفير أميركي في دمشق في عهد الرئيس بشار الأسد ريان كروكر، وفحواه أنه ورغم مساوئ النظام السوري بالنسبة لواشنطن فإن تنظيم «الدولة» يبقى التهديد الأكبر. ومرّ يومان آخران. كتب بعدها وزير الخارجية القطري خالد بن محمد العطية مقالاً في صحيفة «هاندلز بلات» الاقتصادية الألمانية في عددها ليوم الاثنين الخامس والعشرين من أغسطس/ آب، يدافع فيه عن بلاده وينفي عنها تهم دعم الإرهاب معيداً أسباب انتشار الأخير إلى سياسات خاطئة في سوريا والعراق. ردّ نائب رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم، توماس شتروبل، في اليوم التالي (الثلاثاء 26 أغسطس/ آب) وفي الصحيفة نفسها: «إنها لمشكلة كبيرة أن يقوم أولئك الذين يملكون أسهماً في الشركات الألمانية بدعم الإرهاب». وبينما اختار الأتراك «السمع والصمت والطاعة» و«ترتيب البيت الداخلي»، واصل القطريون حملة علاقات عامة منقطعة النظير وأعلنوا فجأة نجاح مساعيهم في إطلاق سراح الأميركي بيتر ثيو كيرتس الذي كان محتجزاً لدى «جبهة النصرة» في سوريا منذ عامين، مع الإشارة إلى جهود قطرية مستمرة للإفراج عن أربعة أميركيين آخرين محتجزين لدى «فصائل» مختلفة في سوريا. ولعلّ السبب أن قطر تورطت أكثر من تركيا في اللعب على اختلافات المعسكرات داخل واشنطن: فقطر تعتبر نفسها جزءاً من المعسكر الذي يمثله روبيرت فورد (مع الشيطان ضد الأسد) والذي خسر المعركة مبدئياً مع المعسكر الذي يمثله ريان كروكر (مع الأسد ضد الشيطان).
كانت آخر الذخائر التي استخدمها معسكر روبرت فورد من دون أن تلقى صدى ذا بال هو دبلوماسي سوري سابق في واشنطن حاول في مقال له في نهاية يوليو/ تموز الماضي على صفحة الانترنت الخاصة بـ«مؤسسة أتلانتيك كونسيل» (Atlanticcouncil.org) المثيرة للجدل أن يثبت - باستخدام ما اعتبره خبرته وتاريخه الدبلوماسيين - مرة أخرى أن داعش أو «الدولة» لا يمكن إلا أن تكون «اختراعاً» لآل الأسد الذين «لا يتركون شيئاً للصدفة». لكن سبق سيف دولة داعش العذل، معملاً القتل في الإيزيديين والمسيحيين والشيعة والسنة والعرب والأكراد، بينما ينقّل الأميركي نظراته ذات المغزى بين طربوش «الدولة الإسلامية» و«قرعةٍ» تركية ــ قطرية، تبدو مناسبة كي يستقر الطربوش عليها، إيذاناً بانتهاء مرحلة في سياسات البيت الأبيض الشرق أوسطية... وبدء أخرى.
* صحافي سوري ــ برلين