معارضة الغزو والتدخّل الاجنبي بكلّ أشكاله (حتّى لو كان ضربات جوية ضدّ «داعش») ليست مجرّد رد فعلٍ حمائي بدائي، ولا هي تمسّك أعمى بمفاهيم السيادة والوطنيّة. جوهر الموضوع عبّر عنه مرّةً الخبير في شؤون الشرق الأوسط، والمحبّ للعرب ولفلسطين، مايكل هدسون، حين علّق قبيل غزو العراق قائلاً إنّ المكسب الوحيد الذي بقي للدولة الوطنية العربيّة، بعد أكثر من خمسة عقود في الحكم، هو الاستقلال الوطني والسيادة، وإنّ القوى الغربية بعد 11 أيلول تريد أن تسلبهم هذه الورقة الأخيرة، وأن تعيدهم حرفياً الى ما يشبه عهد الانتداب.
بالفعل، نحن بالمعنى التاريخي قد خسرنا المعركة التنموية، ولم نحرّر فلسطين، ولم نصل حتّى الى تكريس دول قطريّة ناجحة وهويات مستقرّة. الإرث الوحيد الذي تبقّى لدينا حتّى نبني عليه، من كلّ حقبة التحرر الوطني، هو الاستقلال النسبي عن الاستعمار، الذي صار محصوراً في حفنةٍ متناقصة من دول المنطقة، وهو يتعرّض للهجوم باستمرار. الأنظمة الوطنيّة الفاسدة كفيلة بإنتاج شروخٍ اجتماعيّة هائلة، نعاني كلّنا من آثارها حاليّاً. إلّا أنّ الاحتلال يضمن انهياراً شاملاً للكيان الوطني، وإعادة إنتاج مشوّهة لمكوّناته على شكل طوائف وقبائل وإثنيات، تجمع مساوئ النظام القديم الى الامكانيات التي وفرتها العملية الاستعمارية، وسوف يختار غيرنا لنا هوياتنا. هذا ما حصل للعراق مرّتين (في العشرينيات واليوم)، وأفغانستان، وليبيا، وما زال البعض يأمل نتيجة مختلفة من العملية نفسها.
خلال العقدين الماضيين، كان كلّ تدخّلٍ غربيّ يجري تحت شعار مختلف، جديد، يناسب المرحلة التاريخية والثقافة السائدة (إنقاذ بلدٍ محتل، منع إبادة عرقية، إهداء الديمقراطية للشعوب). ويترافق الغزو دائماً مع حملة إعلامية تصوّر الحرب على أنّها ضرورة أخلاقية ملحّة، مشيطنة الطرف الآخر باستعمال الحقائق والأكاذيب، سواء بسواء. على سبيل المثال، يوم أطلق الـ«ناتو» حملته ضدّ ليبيا، كان الاعلام يؤكّد لنا أنّ مذبحةً هي على وشك الحصول في بنغازي، وأنّ مدرّعات الجيش الليبي قد وصلت الى مشارف المدينة، وهي سوف تدخلها خلال ساعات وتقتل كلّ من فيها، إلّا إذا تدخّل الغرب فوراً (نعرف اليوم أنّ سرديّة «المجزرة» لم يكن لها أساس مقنع، وأنّ الكثير من الادّعاءات عن فظاعات القذّافي كانت مختلقة، وأنّ عدد ضحايا الحرب قبل بدء الحملة الجوية كان أصغر بكثير من عدد الذين سقطوا خلالها وبعدها).
غالبية العراقيين لا تحتاج إلى من يذكّرها بخطورة عودة الاحتلال، تحت أيّ عنوان ومسمّى. إلّا أنّ لبّ المسألة هو في أنّنا إن كنّا، كسوريين وعراقيين ولبنانيين، غير قادرين على إنجاز النصر بقدراتنا الذاتية في المواجهة مع «داعش» وأمثالها، وجعل الحرب منصّة للبناء من جديد وعلى أسس مختلفة، فربّما نحن لا نستحقّ هذه الفرصة أصلاً.