رغم موافقة واشنطن على مشروع تقسيم فلسطين المعروض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت يوم 29 تشرين ثاني1947، إلا أنها سرعان ما بدلت رأيها يوم20 آذار 1948 لما اقترحت الغاء التقسيم ووضع فلسطين بكاملها تحت الوصاية من قبل الأمم المتحدة. كان وزير الخارجية الأميركية جورج مارشال يفكر من خلال منظار الحرب الباردة التي اشتعلت مع السوفيات منذ آذار 1947، ويرى أن قيام دولة يهودية في فلسطين سيضر بمشروع تعاون العرب مع واشنطن ضد موسكو في مشاريع الأحلاف الغربية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط التي كانت تعد آنذاك.
كان مشروع «الوطن القومي لليهود» مشروعاً بريطانياً أساساً، وقد كان الانتداب الذي مارسته لندن على فلسطين بمثابة الطريق التي قادت من وعد بلفور في 2 تشرين ثاني 1917 إلى اعلان قيام دولة إسرائيل في ليلة يوم الجمعة 14 أيار 1948. كان البريطانيون يفكرون آنذاك بامبراطوريتهم التي تشكل المنطقة الممتدة من البصرة إلى القاهرة قلباً رئيسياً لها وطريقاً عبر قناة السويس إلى الهند «جوهرة التاج». هنا، كان البريطانيون، الدارسون جيداً لتاريخ المنطقة، يعرفون أن حيوية هذه المنطقة، التي أصبحت فارس والعراق وشرق الأردن وفلسطين ومصر تحت سيطرة لندن مع تحركات من قبل الأخيرة لتقويض نفوذ باريس في دمشق وبيروت، تعتمد على من يعبر الجسر الواصل بين بلاد الشام (وأحياناً الهلال الخصيب، وأحياناً الأخير وفارس) مع مصر في الاتجاهين.
هذا الجسر الذي اسمه فلسطين. أراد البريطانيون تقويض هذه الحيوية الخاصة بالمنطقة من خلال انشاء كيان غريب عنده لقطعه ومنع التواصل عبره في الاتجاهين.

كانت هزيمة 1967
هزيمة لعبد الناصر والسوفيات معاً، وتعويضاً أميركياً
في الشرق الأوسط


عملياً، كانت اسرائيل بمثابة مخفر وظيفي لصالح الغرب البريطاني – الفرنسي في حرب 1956، لما رأت مصالحها مع لندن المتضررة من مشروع عبدالناصر في الاستقلال عن مدار الهيمنة البريطانية التي مورست على مصر منذ عام 1882 ومع باريس التي أرادت ضرب القاهرة الداعمة للثورة الجزائرية. كان بن غوريون رئيس الوزراء الاسرائيلي، يدرك من خلال تلك الحرب أن مصر هي الخطر الرئيسي وأن ضرب مشروع عبدالناصر العروبي، الذي بدأت مفاعيله بالدفع نحو تلاقي دمشق مع القاهرة منذ صيف 1955 وفي امتداد التهديد الناصري لحليف لندن في بغداد نوري السعيد، يعني منعاً لحصار المخفر الاسرائيلي من خلال بوابتي فلسطين في الجولان وسيناء.
منذ المحادثات السرية الثلاثية للتحضير لحرب 1956 أخذت تل أبيب تعهداً فرنسياً ببناء مفاعل ديمونا النووي في صحراء النقب. ولما فشلت الحرب في اسقاط عبدالناصر حاول بن غوريون مقايضة الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وقطاع غزة بحرية مرور السفن الاسرائيلية بمضائق تيران مع وجود قوات طوارئ دولية هناك. وهو ما نجح فيه في آذار 1957 محولاً مياه خليج العقبة إلى مياه دولية وفقاً لاعلان الدول البحرية، وهو ماشكل قنبلة موقوتة أدت بعد عشر سنوات إلى حرب حزيران 1967.
عانى المخفر الاسرائيلي من فقدان شبه كامل للدور الوظيفي مع فشل حرب 1956 التي أدت عملياً إلى غروب الشمس البريطانية والفرنسية عن سماء العلاقات الدولية.
وزادت هذه المعاناة الإسرائيلية مع تقاربات واشنطن مع عبدالناصر (الذي أصبحت دمشق في ظله منذ يوم 22 شباط 1958) التي أدت إلى توافق أميركي ــ مصري قاد إلى رئاسة اللواء فؤاد شهاب في بيروت ثم أدت إلى تشاركات أميركية ــ مصرية ضد حكم عبد الكريم قاسم ببغداد المدعوم من موسكو ومن الشيوعيين العراقيين الذين دخل عبدالناصر بسبب دورهم في حكم عهد 14 تموز 1958 في صدام مع موسكو ومع الشيوعيين السوريين والمصريين، هذه التشاركات التي كان تتويجاً لها انقلاب 8 شباط 1963 في بغداد عندما دعمت واشنطن والقاهرة انقلاب البعثيين العراقيين هناك.
حاول بن غوريون تعويض هذه العطالة في الدور الوظيفي من خلال التقارب مع دول الجوار العربي في أنقرة وطهران وأديس أبابا ومع الدول الأفريقية لتشكيل طوق مضاد ضد العرب، ولكنه كان مدركاً بأن التعويض الحقيقي عن لندن وباريس يكمن في واشنطن. هذا الذي لم يستطعه بن غوريون استطاعه خليفته ليفي أشكول عبر زيارته واشنطن في شباط 1964من خلال استغلال صدام عبد الناصر مع واشنطن، ولو بالوكالة في حرب اليمن، وهو ما رد عليه عبدالناصر في أيار 1964 من خلال المصالحة مع موسكو/ خروتشوف بعد صدام ست سنوات مع موسكو والشيوعيين العرب في بغداد ودمشق والقاهرة. مع التورط الأميركي المباشر في فييتنام، منذ آب 1964، أصبحت تل أبيب مخفراً لواشنطن في المنطقة وذراعها الضاربة، كما كانت للندن وباريس في الخمسينيات ولكن ليس فقط ضد عبدالناصر وإنما أيضاً ضد موسكو عبر ضرب الزعيم المصري.
كانت هزيمة حزيران 1967 هزيمة لعبد الناصر والسوفيات معاً، وتعويضاً أميركياً في الشرق الأوسط يساهم في تعديل ميزان القوى العالمي الذي أصبحت واشنطن في وضع حرج فيه بسبب حرب فييتنام. في حرب تشرين 1973 كان هنري كيسنجر واعياً لضرورة أميركية بعدم وقوع هزيمة إسرائيل وخصوصاً بعد الهزيمة الأميركية في فييتنام التي جسدتها اتفاقية باريس في كانون ثاني 1973 حول الانسحاب الأميركي العسكري، لذلك سعى إلى انقاذ اسرائيل من الهزيمة العسكرية حتى ولو وصل هذا إلى تكرار سيناريو 1962 الكوبي الذي كاد أن يؤدي إلى مجابهة مباشرة بين واشنطن وموسكو.
استطاعت تل أبيب من خلال «الدفرسوار»، ومن ثم مراهنات السادات على تجيير الأداء العسكري المصري للتقارب مع أميركا طريقاً للتسوية المصرية ــ الاسرائيلية، قلب التوازنات في الشرق الأوسط لمصلحة واشنطن ضد موسكو. قامت تل أبيب في حزيران 1981 بإكمال دورها الوظيفي لمصلحة واشنطن من خلال ضرب المفاعل النووي العراقي، ثم أتبعت هذا في صيف 1982 عبر اجتياح لبنان واخراج منظمة التحرير، حيث طُرح «مشروع ريغان» لتسوية الصراع العربي ــ الاسرائيلي في 1 أيلول 1982، أي اليوم التالي لخروج ياسر عرفات من بيروت.
منذ عام1982 لم يستطع المخفر الاسرائيلي متابعة دوره لمصلحة الغرب الأميركي. مع نهاية الحرب الباردة بهزيمة موسكو في خريف 1989 قال ياسر عرفات بأن دور اسرائيل التي أسماها «حاملة الطائرات الأميركية» في طريق التلاشي، في حرب 1991 الأميركية ضد العراق أتت واشنطن مباشرة بقواتها إلى المنطقة ولم تعتمد على الوكيل الاسرائيلي كما جرى في أعوام 1967 و1981 و1982، بل أجبرته على الوقوف ساكتاً أمام الصواريخ العراقية التي وجهت لإسرائيل. كررت واشنطن ذلك عام 2003 مع غزو العراق ولم تشرك تل أبيب في مهمة «إعادة صياغة المنطقة» التي وضعها وزير الخارجية كولن باول هدفاً رئيسياً للغزو.
مع الصعوبات الأميركية في العراق حاولت واشنطن الاستعانة بالمخفر الاسرائيلي عبر حرب تموز 2006، التي اعتبرتها كوندوليسا رايس «آلام مخاض ضرورية من أجل ولادة الشرق الأوسط الجديد». فشلت «القابلة الاسرائيلية» في توليد الجنين الأميركي الذي على الأرجح مات في رحم الحامل. تكرر فشل المخفر الاسرائيلي في غزة 2008-2009 وفي غزة 2012 وفي حرب الأسابيع الأربعة بغزة بين يومي 8 تموز و5 آب2014.
كان تعقيب وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه أرينز مع نهاية حرب تموز هو التالي: «يعتبر الجيش النظامي مهزوماً عندما يفشل في تحقيق أهدافه الموضوعة أثناء قتال قوات غير نظامية».
تكرر هذا في التجارب الغزاوية الثلاث اللاحقة للفشل الاسرائيلي في بلاد الأرز عام 2006. يبدو أن دولة إسرائيل قد فقدت لياقتها في أربعين عاماً، وهذا شيء وجد عند الصليبيين بعد غزوهم المنطقة منذ عام 1098 مع سقوط أنطاكية بأيديهم، لتأتي هزيمتهم في معركة حطين يوم 5 تموز 1187 وبعدها بقليل استرجاع القدس بعد أن أسقطها الصليبيون عام 1099. جرى اخراج الصليبيين من المنطقة مع طردهم من عكا عام1291.
هل يكرر التاريخ نفسه؟
* كاتب سوري