يخطئ خطأ فادحاً من يصوّر معركة الرئاسة الجارية اليوم على أنها بين مسيحي وشيعي، إلا إذا كان يتعمّد إثارة فتنة. فالحقيقة في مكان آخر، وما يحصل هو نتيجة الزلزال الجيوستراتيجي الذي يعصف بمنطقتنا بين شرق وغرب، ويجب فهم الاصطفافات على هذا الأساس. فمصير المشرق العربي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، يتوقّف على مسار هذا التحوّل النوعي في تقدّم الشرق الأقصى. لقد استعمل الغرب في الماضي القريب الشرخ المسيحي - المسلم في لبنان لمؤازرة مشاريع الغرب وهيمنته على المنطقة، كما خلق انقساماً شيعياً - سنياً لم يكن موجوداً في منطقتنا قبل الثورة الإيرانية؛ فطالما الشاه موالٍ للولايات المتحدة الأميركية ولإسرائيل، لا مشكلة بين سنّة وشيعة، ولقد تنبّهت المملكة السعودية أخيراً إلى أنها تُستعمل كوقود لأحادية الولايات المتحدة، فتوقفت عن هدر المال والدم، لكن أغلب المسيحيين في لبنان لا يزالون يظنون أن وجودهم من وجود الغرب، بالرغم من المآسي التي مُنوا بها جراء هذا الاعتقاد. وليس من دليل أنصع من دمار لبنان بسبب حرب أهلية امتدت خمسة عشر عاماً، خطط لها الأميركي واستعمل فيها المسيحي لقتل الفلسطيني. وماذا كانت النتيجة؟ دمار المسيحيين وتشرذمهم، وتلاشي دورهم وأعدادهم. عكس دستور الطائف هذا الواقع المستجد، بالرغم من إعطاء المسيحيين 50 في المئة من أعضاء المجلس النيابي، متغاضياً عن التغيير الديموغرافي الهائل نتيجة الحرب. فهل المسلمون قضوا على مسيحيّي لبنان، أم أن الولايات المتحدة هي التي فعلت ذلك، فاستعملت المسيحي للقضاء على المقاومة الفلسطينية حتى لو كلف ذلك إنهاء المسيحيين في لبنان.
لم تتعلّم بعض الأحزاب التي تتكلم باسم المسيحيين من الدرس، وهي حاضرة لأداء دور دائم ضد أهلها في الوطن، دعماً للسيطرة الغربية الاستعمارية والاستيطانية معاً. ومن أجل هذا الهدف، تتم شيطنة «مقاومة وطنية»، ووصفها بأنها تناوئ المسيحي. لكن الحقيقة التي ظهرت عبر مسيرة أربعة عقود بيّنت أن هدف المقاومة وطني بحت، ألا وهو الدفاع عن الأرض وتحريرها بمعزل عن دين سكانها ومذهبهم وعِرقهم.
تضاءل عدد المسيحيين، لكن الولايات المتحدة ما زالت تأمل أن تستعمل من بقي منهم لإنهاء المقاومة باسم لبنان واللبنانيين! وها هم يدعمون مرشحاً لرئاسة الجمهورية يعمل في صندوق النقد الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وينتظرون من الصندوق أن ينقذ لبنان بالرغم من تجاربه الفاشلة في دول العالم، ويتهمون الفريق «الشيعي» بأن لا خطة اقتصادية لديه، فيما الواقع يؤكد أن الانقسام ليس دينياً أو اقتصادياً، بل هو نزاع وطني بين من يريد البقاء في حضن الغرب الذي يسيطر علينا، وبين من يريد التحرر والاستقلال سياسياً واقتصادياً، ويرى الفرصة سانحة من جراء تقدم الشرق وإمكاناته الاقتصادية الهائلة.
هل ستظلّ غالبية الأحزاب «المسيحية» مطيّة للغرب الاستعماري الذي لن يتوانى عن استعمالها حتى القضاء على آخر مسيحي في الشرق؟ ألا تعتبر من مصير أوكرانيا الماثل أمام أعينها؟

* أستاذة جامعية