«انهيار مؤسسات الدولة وعدم فاعليتها، السقوط المريع لقيمة الليرة اللبنانية، انعدام الاستثمار والمشاريع الاقتصادية المنتجة، التلاشي في المجالات كافة والسعي إلى تقسيم هذا الكيان»، هو الوصف الذي تردّده الغالبية العظمى من الكتّاب. أمّا أسباب هذا الانهيار كما تصرح ألسنتهم، فمنها: الفساد، عدم الكفاءة، عدم المحاسبة، وتدخل الدول الخارجية. هنا، يتوقف المحللون أمام كل واحدة من تلك الأسباب، ويقترحون حلولاً لإيقاف الفساد، أو عدم المحاسبة، أو ... إلى آخره؛ لكن السبب الحقيقي لهذه الظواهر يعود إلى نظام معين من الحكم تقع عليه المسؤولية الأولى والمباشرة للوصول إلى دِرك من هذا النوع، لذلك لا نستطيع أن نعالج قضية الفساد أو عدم المحاسبة مثلاً بينما هذا النظام لا يزال قائماً، لأنه هو سبب العلة لكل هذه الظواهر المدمِرة للمجتمع.هذا الوضع شبيه بما حصل في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر حين انهار نظامها الملكي. ففي أوج صعودها غرفَ الملوك من ميزانية الدولة من دون أن يتصدى لهم أحد، لأن الملك بحسب الدستور يملك الأرض، وما فوقها، كونه ظل الله على الأرض. وطالما كان هذا الوضع مقبولاً من العامة، لم يكن يُعتبر فساداً بل حقاً من حقوق المَلَكية، لكن الآية انقلبت حين أفلست الدولة، فسقط النظام الملكي في فرنسا أولاً، ثم في أرجاء الدول الأوروبية لأن هذا النظام القروسطي المبني على احتكار السلطة من قبل نخبة صغيرة مؤلفة من الإكليروس الديني والإقطاعيين فقد شرعيته، واستُبدل بنظام يسمح للشعب بتولي المسؤولية عبر ممثلين له ينفذون مشاريع تعود بالخير على الجميع، وليست حكراً على فئة معينة من السكان.
وضعنا اليوم في لبنان يشبه إلى حد بعيد وضع النظام الملكي في تجربته الأوروبية. لقد انهار هذا النظام القروسطي - القائم على حكم الطوائف والتوافق في ما بينها، لأنه ليس قادراً على مواجهة تحديات العصر الحديث. فهو نظام استنبطه الفرنسيون من النموذج العثماني حيث قسمت السلطنة العثمانية رعاياها بحسب مللهم الدينية، وحكمت بناء على هذا النظام لمدة أربعة قرون. اختفى هذا النموذج مع نهاية الحرب العالمية الأولى، لكنه بقي في لبنان بفعل التدخل الغربي، واقتبسته الولايات المتحدة الأميركية لتقسيم المنطقة على شكل كانتونات دينية لا تهدد وجود الكيان الصهيوني، وتسهّل على المستعمر إثارة النعرات الدينية ضمن الشعب الواحد، واستغلال هذا الوضع لمصلحتها.
هذا النظام الطائفي لا يقرر بحسب مشيئة الشعب، بل بحسب أمراء الطوائف الملحقين بمشيئة الخارج، والدول التي دعمتهم للوصول إلى السلطة، لأنه نظام فُرض من الخارج ولمصلحة الخارج. وُجد هذا النظام لإبقاء المواطنين رعايا، لا حول ولا قوة لهم. وبالرغم من انهياره مادياً ومعنوياً، يعجز الشعب عن اجتراح بديل منه، لأن الدستور لا يسمح للشعب أن يقرر مصيره، فلا وجود لاستفتاء يستمزج آراءه، ولا انتخابات خارج القيد الطائفي.

سمات انهيار النظام الطائفي للحكم
على الصعيد السياسي:
-لا اختيار للكفاءات في الإدارات العامة للدولة، بل تفضيل الانتماءات الدينية عليها.
وإن وُجدت هذه الكفاءات لا تستطيع أن تغير شيئاً لأن المرجعية والشرعية تعودان للطائفة، والنتيجة هجرة الأدمغة.
-لا محاسبة في إدارة الدولة، لأن النظام الطائفي المبني على التوافق يمنع إلغاء أي
طرف من الأطراف الأخرى باسم «الميثاقية»، فتُشل الإدارات لأن المرجعية ليست لرئيس الدائرة أو القسم، بل لرئيس الطائفة الذي عين الموظف.
-لا وجود لدولة مركزية، لأن كل طائفة تتصرف وكأنها دولة مستقلة تتفاوض مع دولة أخرى ضمن الوطن الواحد.

على الصعيد المجتمعي:
-عجز الأحزاب العلمانية عن التغيير لأن النظام الطائفي يجبرها على الدخول في المعترك السياسي على أساس الهوية الطائفية.
-منع بناء هيئة مجتمعية موحدة لها أهداف مشتركة لأن ذلك يقود إلى اضمحلال النظام الطائفي.
-مقاومة أي اندماج اجتماعي ما يؤدي إلى تفتيت المجتمع لأنه يمنع التزاوج والاختلاط، وبالتالي يشدد على العنصرية والتفرقة، وهما عنصران يقودان إلى تلاشي الدولة.
-يرفض النظام الطائفي أي مشروع للإصلاح أو التطوير لأنه سيأتي على حساب الطائفة ونفوذها.
-لا تقدير للفرد وإنجازاته لأن النظام الطائفي نظام قبلي يُخضع الفرد لقوانينه الهادفة إلى المحافظة على هذا النظام وديمومته بكل السبل المتاحة.

على الصعيد الاقتصادي:
النظام الطائفي يدعم الاحتكارات، وهو أرسى نظام الامتيازات الخاصة، ويقوم بتحويل عمولات ومنافع لرعايا كل طائفة، لإسكاتها وقبولها حلولاً لا قانونية، أو فاسدة في ما يختص بالمشاريع الاقتصادية كافة.
ما الحل؟
لنعترف بحقيقة أن أي برنامج يطالب الشعب بتحقيقه لوقف الانهيار، لا يستطيع تنفيذه، لأن لا
سلطة لديه، ولا اعتبار له في نظام كهذا. في الوقت الحاضر، السلطة في يد طرفين: طرف داخلي يتمثل بالطوائف المتصارعة والمتناقضة؛ وطرف خارجي، وهو الأقوى، يستطيع أن يوقف الانهيار ويلجم الطوائف التي هي حاضرة دائماً للانصياع.
أي برنامج يضعه الشعب يتطلب تنفيذه تغييراً جذرياً وانتقالاً من النظام الطائفي إلى نظام الدولة الحديثة؛ ومقومات الدولة الحديثة تقوم على أن الشعب هو المرجعية النهائية، وهو صاحب السلطة، لا العشيرة، ولا القبيلة، ولا الطائفة أو الطبقة.
والأحزاب الحديثة هي الأحزاب التي تمثل الشعب بكل تلاوينه، لا الطائفة، وهي تجسد رؤى وأهداف هذا الشعب إلى مستقبله، فينضم الشبان والشابات من كل المكونات الطائفية والإثنية دعماً لبرنامج يقدمه هذا الحزب أو ذاك، وهذا مغاير تماماً للأحزاب الطائفية التي تعتمد على دين ومذهب المنتسب.
الحل لوقف الانهيار يتطلب من اللبنانيين القيام بثورة على القيم القديمة والتسلح بقيم جديدة تؤدي إلى تقدمنا عبر تبني مبدأ المواطنة، والتخلي عن اعتبار «النسب» معياراً للترقي، والاستعاضة عنه بقيمة «الكفاءة». فهذه الأخيرة هي القيمة الأساسية لتطوير المجتمع وازدهاره.
نظامنا الاجتماعي والسياسي في لبنان يقوم على «النسب»: النسب إلى الدين، والنسب إلى العائلة، واستعمال الألقاب بشراهة، وحتى الألقاب الأكاديمية التي تعتمد على الدراسة والشهادات في الغرب، نغدقها يميناً وشمالاً وكأنها حلوى نفرقها، فننادي أحدهم بدكتور وهو لا دخل جامعة ولا تخرج من إحداها!
والظاهر أنه كلما صغرت دولة ما، كبرت ألقابها، فالرؤساء الثلاثة عندنا هم دول: دولة رئيس ماروني، ودولة رئيس سني، ودولة رئيس شيعي. نحن عندنا دول ومعالي وسعادات، وأكبر دولة في العالم عندها سكرتير!
المطلوب التحرّر من النظام الطائفي لوقف الانهيار، ففي ظل هذا النظام سيظل ما نقدمه حبراً على ورق، لأن هذا النظام يعرف أن أي تغيير سيكون على حسابه، وإلا لكان طبق دستور الطائف الذي نص منذ ثلاثة عقود على إلغاء الطائفية السياسية. ما حصل بعد الطائف هو إيغال في الطائفية إلى حد الاختناق، حتى وصل الانهيار إلى القطاعات التعليمية أي إلغاء أي إمكانية للتقدم وبناء أجيال جديدة متعلمة ومثقفة.
إذا لم ننتقل من نظام «النَسَب» الطائفي إلى نظام الكفاءة والإنتاج في دولة حديثة، فلا أمل لنا بالخروج من هذه المتاهة، والطريقة الوحيدة الممكن اتباعها للوصول إلى هذه النتيجة، هو إجراء «استفتاء» شعبي في كل المناطق لتبيان إرادة هذا الشعب، مع العلم بأن عملية «الاستفتاء» تُعد لا دستورية من قبل دستور النظام الطائفي، لأن الاستفتاء يمثّل إرادة الشعب لا إرادة الطوائف.
أقترح أن يركز «الشعب المغيب» بكل فئاته وتلاوينه، على هذه النقطة بالذات: «إلغاء الطائفية السياسية»، إذ إننا من دون ذلك لا نستطيع أن نحقق شيئاً، كون الشرعية في النظام الطائفي لا تعود إلى الشعب - ونحن جزء منه - بل إلى الطوائف، وبالتالي لا شرعية لنا في الوضع القائم.
فهل من هيئة تستطيع القيام بهذا الاستفتاء؟

* أستاذة جامعية