لا شكَّ بأن تحولات مهمة، حصلت وتحصل في المملكة العربية السعودية. تتواصل حلقات هذه التحولات، منذ أطلقت قيادة المملكة، بمبادرة من ولي العهد محمد بن سلمان، خطة مفاجئة لمصالحة وحوار خصومها (الإقليميين خصوصاً)، مهما بلغت حدة الخلافات والصراعات التي كانت قائمة معهم. في السياق، وبالتزامن مع تتابع حلقات تلك السياسة الجديدة، انطلقت تحليلات وتكهنات، ولا تزال، حول الأسباب الحقيقية، والأهداف الفعلية، والنتائج القريبة والبعيدة. وقعُ هذا الانعطاف كان كبيراً. المدى الذي يشمله الفعل السعودي (نظراً لما للمملكة من حجم اقتصادي كبير وقدرات وعلاقات مهمة)، ذو أبعاد دولية، وإقليمية، وداخلية في المملكة نفسها. يمكن التوقف، عموماً، بشأن التحليلات والتكهنات، عند رأيين:
الأول، يبالغ في حجم المبادرة والفعل السعوديين. ينسب هذا الاتجاه دوراً حصرياً واستثنائياً لولي العهد ولشخصيته وميوله الاندفاعية والانفعالية، كما عبّر عنها في غير مناسبة: توسيع العلاقة مع العدو الصهيوني وتشجيع التطبيع معه. المسارعة إلى الانخراط في الصراع الداخلي اليمني. تحويل الخلاف مع دولة قطر، إلى صراع مرير مقترن بتدابير عزل ومقاطعة وحصار. تصعيد الصراع مع قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. التصعيد والتطلب والشروط حيال الأزمتين السورية واللبنانية. وفي الشأن الداخلي: إزاحة ولي العهد الشرعي المعين محمد بن نايف، قسراً والحلول مكانه. إحكام القبضة على السلطة ومحاصرة المنافسين وإطلاق إشارات نزوع متعددة نحو مزيد من الحكم والتسلط الفرديين. استهداف المعارضة والمعارضين بالتدابير التعسفية: محاكمة «الريتز» الاستنسابية وغير القضائية، وفرض مبالغ هائلة على مستثمرين كبار، بمئات مليارات الدولارات وسط تضييق ورقابة شديدين. عملية واسعة لوضع اليد، بالإكراه، على مؤسسات سياسية واقتصادية وإعلامية. استدراج الرئيس سعد الحريري (2017/11/4) وفرض استقالته من رئاسة الوزارة اللبنانية بسبب عدم تبنيه للمطالب السعودية في لبنان. استدراج المعارض السعودي الأميركي جمال الخاشقجي وقتله في القنصلية السعودية في إسطنبول (2018/10/2).
أمّا الرأي الثاني، فيحيل سبب هذه التحولات إلى متغيرات خارجية، إقليمية ودولية، فرضت تلك الانعطافة في السياسات والعلاقات السعودية، وسنتناولها لاحقاً.
الواقع أن التحولات السعودية هي ثمرة عوامل داخلية وخارجية متفاعلة ومتداخلة على نحو جدلي في الأسباب والنتائج على حد سواء. دور محمد بن سلمان كان كبيراً ومبادراً منذ البدايات وحتى الآن. بهذا المعنى، فإن ما أوردناه وأورده سوانا من كل تلك السياسات والإجراءات، إنما كان يندرج ضمن نهج واحد، مباشر ومتكامل حيال السلطة في الداخل، للإمساك وللاستئثار بها، وفي الخارج، وبواسطته، لتحقيق انتصارات أو نجاحات سريعة، بما يؤمن للقيادة الجديدة مشروعية ونفوذاً ضروريين.
لم تجرِ الرياح كما كان يشتهي محمد بن سلمان. انتكس مشروعه في اليمن وبات شديد التكلفة بشرياً وعسكرياً واقتصادياً. فشلت ضغوطه على سعد الحريري لاستخدام موقعه الرسمي والشعبي ضد «حزب الله». تدخّل الجيش الروسي في سوريا بسرعة وفاعلية وحزم لمصلحة النظام السوري مكّنه، مع حلفائه، من إفشال محاولات خصومه وداعميهم لإسقاطه. ثارت عاصفة ضده بسبب اغتيال الخاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول. قاطعته وابتزته الإدارة الأميركية الجديدة سياسياً ومالياً وعسكرياً. وأخيراً، نجح النظام الإيراني في تخطي موجة الاحتجاجات التي اندلعت واسعة وصاخبة وعنيفة إثر وفاة الشابة مهسى أميني في السجن في 16 أيلول 2022.
في ظل الخيبات المتلاحقة، في الإقليم خصوصاً، كانت القيادة السعودية تؤسس لخطة بديلة. مجموعة توجهات تبلورت تباعاً ورسمياً إلى انعطافة شاملة، ابتداءً من إعلان الاتفاق السعودي الإيراني في 10 آذار 2023. مقدّمات هذه الخطة بدأت بتنامي الخيبة إزاء حجم الخسائر السعودية في اليمن والموقف الأميركي إزاء ذلك. واشنطن تركّز اهتمامها على استغلال النزاع هناك لابتزاز القيادة السعودية سياسياً ومالياً، ومحاولة إضعاف ومعاقبة ولي العهد. ألحّت القيادة السعودية على ضرورة التوصل إلى حل فلم تلق آذاناً صاغية أو دعماً ملموساً. حين زار الرئيس بايدن الرياض كان ذلك، فقط، من أجل مصلحة أميركية: لزيادة إنتاج النفط، ولتخريب علاقة الرياض مع شريكها الروسي. في مجرى ذلك كانت تتوطد العلاقات الروسية - السعودية في مجال النفط (أوبك+)، وعبر عقد صفقات أسلحة متطورة بين موسكو والرياض. كانت تترسخ أكثر فأكثر، أيضاً، العلاقات السعودية - الصينية (التي تُوجت بزيارة احتفالية وصاخبة للرئيس الصيني إلى الرياض في أواخر السنة الماضية)، ما مكَّن من أن تكون بكين هي عرّاب الاتفاق السعودي - الإيراني.
لا شكّ أن أسباباً أخرى تركت بصمة جدية على مجمل المشهد الدولي، أهمها انكفاء واشنطن في الشرق الأوسط، وانسحابها الذليل من أفغانستان. هذا إلى عجزها عن منع أو مواجهة التدخل الروسي في سوريا في أيلول عام 2016. كذلك في تراجع دورها الدولي على المستوى الاستراتيجي، في الحقول الأمنية والعسكرية والاقتصادية. بالمقابل، كانت تتبلور ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب على حساب تفرد أميركي بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، واستمر في الانفراد بالهيمنة حوالي عقدين من الزمن. يضاف إلى ذلك ما يعانيه الوضع الداخلي الأميركي من انقسامات على مستوى تداول السلطة، واقتصادي عبر تلاحق الأزمات الكبيرة منذ عام 2008 إلى الانهيارات المصرفية، إلى معضلة الاستدانة المتعاظمة والمستعصية بسبب الانقسامات. تُضاف، أيضاً، التوترات في الكيان الصهيوني بعد استلام السلطة من قبل تحالف عنصري متطرف، سارع إلى استثمار أكثريته في انتهاك وإطاحة مظاهر ديموقراطية شكلية، على مستوى القضاء، وبغرض السيطرة والتفرد والإفلات من المحاسبة.
ثمّة مسألة في الداخل السعودي ذات أهمية كبيرة في تحفيز التغيير ببعده الاجتماعي خصوصاً. كانت تفجيرات 11 أيلول 2001 قد سلطت الضوء على دور المؤسسة الدينية السعودية في دعم الإرهاب. شكّل ذلك نقطة ابتزاز للرياض، ما فرض اضطرارها لتقليص صلاحيات وحجم تلك المؤسسة، وأضعف، بالتالي، القاعدة التي شكلت تاريخياً، الدعامة الاجتماعية للنظام السعودي. البديل لها كان التوجه نحو طبقة التجار والبورجوازية عموماً، وخصوصاً الطبقة الوسطى منها، لتكون القاعدة الجديدة. تطلب ذلك إجراءات وتدابير ذات طابع ليبرالي وانفتاحي: حيال حقوق النساء، وفي مجالات «الترفيه» والنشاطات والخدمات الجاذبة في نطاق «الرؤية 2030».
للعوامل الموضوعية، إذاً، فعلها وأحكامها، وللعوامل الذاتية كذلك. بذلك تكون الانعطافة السعودية ثمرة متغيرات وتجارب ومرارات داخلية وخارجية متفاعلة. وقد لعب محمد بن سلمان دوراً بارزاً في بلورة تمرحلها الواقعي إلى الصيغ والأشكال التي انتهت إليها.
الانعطافة السعودية مهمة وإيجابية. وهي تصبح أهم بقدر ما يجري تلقفها بالتشجيع والتعاون والمراجعة، وتطويرها بالمبادرات في ما يتصل بالخلافات بين الدول العربية، وبينها وبين دول الإقليم: لمصلحة إنهاء النزاعات البينية والحروب والاضطرابات الداخلية في عدة بلدان عربية. هذا الأمر يتطلب تطوير دور جامعة الدول العربية والسعي لبناء منظومات تكامل اقتصادي في ما بينها ومنظومات دفاعية أمنياً تشمل، بالضرورة دولاً إقليمية. يستدعي كل ذلك حتماً تقليص نفوذ القوى الأجنبية وخصوصاً تلك التي تسعى للهيمنة وتوفر للعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني كل الدعم والحماية.

* كاتب وسياسي لبناني