تتصدّر قائمة اهتمامات دول المنطقة ومجتمعاتها، مسألة التعامل مع ما تواجهه من تحدّيات داخليّة وخارجيّة، بأبعادها الاجتماعيّة، والسياسيّة، والأمنيّة، والمعرفيّة، والاقتصاديّة. فهي لم تقدر على وضع حدٍ لمسارها التنمويّ المتعثّر، إذ ظلّت مؤشّراتها تدل على ارتفاع في معدّلات البطالة، وتدهور حقوق الإنسان، واختلال موازين العدالة، وسوء التوزيع للثروة، إلى جانب التدهور في المجال البيئي، وهذا ما انعكس تراجعاً في مراتب سلّم التطوّر والارتقاء، ومشاركتها المؤثرة في حركة التبادل، بأشكالها المتعددة، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافية، ولا سيّما في ظل تنامي العولمة وما تحدثه من تحديات وتداعيات. وليس من باب الصدفة التاريخية، أن يترافق هذا الوضع المأزوم مع ما شهده العالم من حدث تاريخي بالغ الخطورة، تمثّل باحتلال اليهود الصهاينة فلسطين، ومن ثمّ شنّهم حروباً واعتداءات متتالية ومستمرة أدّت إلى احتلال أراض لدول محيطة بكيانهم، وإدخال المنطقة بحال من عدم الاستقرار، وما أنفقه حكام العرب من موارد هائلة على التسلّح، لم يخرجهم من الكفّة الخاسرة في موازين القوى. فهم لا يزالون في موقف العاجز عن حماية السيادة، وتحرير الأراضي المحتلة، بل على العكس من ذلك، تتسارع وتيرة التفكيك لنسيج مجتمعاتهم، وإعادة تركيبها على أسس عرقيّة وطائفيّة ومذهبيّة.
وسط هذا المشهد، كان من الطبيعي أن تبرز المُقاومة كخيار يسهم في إيجاد عناصر استعادة المبادرة وتغيير المسار الانحداري لدول المنطقة، ولكن الوقائع كشفت عن إدخال هذا الخيار في قائمة موضوعاتها الخلافية وتوليد الصراعات فيها، إذ يراها المعترض خياراً مدمراً لا جدوى منه، بينما يراها المؤيّد ضرورة لحفظ الوجود المادي لمجتمعات المنطقة وسبيلاً لتطورها.
يعلّل الرافضون موقفهم من خيار المقاومة لكونها تهزّ الاستقرار، وتعيق مسار التقدّم والتطور، فهي بالنسبة إليهم لا تخرج عن كونها عملاً عنفياً لن يجلب إلّا العنف، إذ تقضي الواقعيّة، في نظرهم، سلوك مسار المفاوضات واتفاقيات السلام لبلوغ الاستقرار المنشود. ويمكن القول إنّ الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفاءها من يقودون هذا الاتجاه.
بينما يعلّل المؤيّدون للمقاومة موقفهم بأنّ المجتمعات المهددة في أمنها يجب أن تتسلّح بالمُقاومة بوصفها ثقافة حياة، كونها تحول دون استشعار التفوق وتنامي الميل إلى الاعتداء والاحتلال، وهذا ما يؤدّي إلى الاستقرار المنشود، وبالتالي إلى انطلاق مسارها الإنمائي. ويوسّع دعاة هذا الرأي مجالات المُقاومة، لتشمل، إلى الجانب العسكري، الجوانب الثقافيّة، والسياسيّة، والعلميّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، بغية الوصول إلى بناء المجتمع المُقاوم. ويمكن القول إنّ إيران وحلفاءها من يقودون هذا الاتجاه.
لقد بات النقاش حول خيار المقاومة يمتد على مساحة العالم، ولا سيّما في الدول التي تعاني من الاحتلال أو المهددة بأمنها واستقرارها، ويتصدّر قائمة القضايا الأكثر تماسّاً مع تطلّعات الشعوب وتحدّياتها. فهي الحاضرة في أروقة المؤسّسات والمنظمات الدوليّة، ومادة حيويّة في الوسائل الإعلاميّة، فالرؤى المطروحة حولها هي معيار تمايز بين التكتلات والمحاور السياسيّة بمستوياتها كافّة، المحليّة، والإقليميّة والدوليّة.
ويمكن القول، بكل موضوعية، إن ارتفاع منسوب النقاش حول خيار المقاومة إنّما يرتبط بشكل وثيق بما حدث في لبنان، وبالتحديد حين قامت فئة من بينهم باعتماد خيار المقاومة للعدو الإسرائيلي، وزاد النقاش أكثر لمّا استطاعت المقاومة أن ترغم العدو على الخروج من معظم الأراضي اللبنانية التي احتلها، وتحريرها الأسرى والمعتقلين من سجونه، واستعادتها جثامين الشهداء، إلى جانب هدم ما بناه الاحتلال على مدار عقود زمنية من مجالات آمنة توفر الاستقرار لمستوطنيه، وذلك دون أن يلتزم لبنان بتنازلات تنتقص من سيادته.
وقد استعر النقاش وبلغ مستوياته الحادة لمّا عمل حزب الله بوصفه رائد المقاومة اللبنانية على إحداث توازن في الردع مع العدو الإسرائيلي، ما مكّن لبنان من حماية إنجازات التحرير، وحماية موارده على اختلافها، وأوجد الاستقرار اللازم لإطلاق ورشة الإنماء في المناطق المحتلة سابقاً، بشكل خاص، وفي لبنان بشكل عام، وليس آخرها ما حدث في عملية ترسيم الحدود البحرية وانتزاع لبنان حقه في استخراج ثرواته من الغاز والنفط.
فمن المفيد التذكير هنا، بأن تلك المتغيّرات الكبرى التي لم يسبق للعدو الإسرائيلي أن شهدها منذ تأسيس كيانه، إنّما حدثت في لبنان الذي كان يعدّ الأضعف بين الدول المحيطة بهذا الكيان، وأن آلام اللبنانيين هي سابقة على انطلاقتهم بالمقاومة، فهم يعانون من اختلالات مزمنة وحادة تعود إلى ما قبل نشأة لبنان، بدت بأوضح أشكالها في الصراعات العنفية الدورية بين مكوناتهم، وما تعكسه من تداعيات اجتماعيّة واقتصادية حادة، ولا سيّما في تعثّر مسارهم التنمويّ، والارتفاع المتصاعد لمديونيّتهم، بينما يفتقدون الرؤية التي تمكّنهم من الخروج من أزماتهم.
وعلى الرغم ممّا أحدثته تجربة حزب الله، بنتائجها المتعددة، من خلال تحرير الإنسان والأرض والموارد، وفرض التوازن مع العدو كمدخلية للاستقرار، فإنها لم تنل ما تستحقّه من قراءة شاملة، ولا سيّما لدى الباحثين العرب، قياساً بما أنتجه العدو وحلفاؤه من دراسات بحثية وضخ يومي للإساءة وتشويه هذه التجربة وتقديمها بوصفها مصدر اضطراب لبنان والمنطقة وعدم استقرارها.
إنّما يشير هذا إلى قصور في الوعي المعرفيّ العربيّ، الذي لطالما يتأخر عن المواكبة البحثيّة لظواهره، من حيث تشكّلها ووقائعها ونتائجها العميقة. ولذلك علاقة بحجم الهزائم المتتالية التي أصابت العالم العربيّ خلال عقود من الزمن، والتي يظهر أنّها أعاقت وعي باحثيه وصنّاع الوعي عن التقاط أبعاد الإنجازات التي تحقّقها مجتمعاتهم المُقاومة. وبالمحصلة، لقد صار الإنسان في هذه المنطقة يرى نفسه من خلال ما يرسمه الآخر لصورته، فكيف إذا كان هذا الآخر عدواً، يريدها باهتة فاقدة لكل عناصر القدرة، بل في جعلها متوحشة غير قابلة للانتماء إلى عالم التقدم والرقي والحرية.
وفي ذكرى التحرير، يصير من أوجب الواجبات توجيه التحية للمقاومة في عيدها، عبر تظهير تجربتها وما أحدثته من نتائج ثورية أسهمت في وضع لبنان على سكّة بناء تجربة فريدة ونموذجية في المقاومة والتنمية. والتي يمكن عرض مرتكزاتها وفق التسلسل الآتي:
أولاً، نقطة الانطلاق من حقيقة ثابتة يلتقي عليها الحليف لحزب الله ويفتقد خصومه السياسيون الحجة لنفيها، بأن العدو الإسرائيلي هو التهديد الأخطر لاستقرار لبنان، والمعيق الأساس لمساره الإنمائي والتطوري، وذلك منذ بدايات القرن الماضي، أي مع تشكل كيان العدو التوسعي، حيث كان جنوب لبنان - ولا يزال - في دائرة الاستهداف لضمه وجعله ضمن حدوده الآمنة، وبما يتوافر فيه من موارد على اختلافها. والذي ما كان ليحدث، لولا الرعاية الدولية لهذا الطموح العدواني، والتي وجدت في الداخل اللبناني من يجاريها، حينما جاهرت السلطة في لبنان بعجزها الدائم عن مواجهة هذه الأطماع، واستقالتها من مهمتها الأساسية في حفظ السيادة والأمن.
لذلك، كان من الطبيعي، وانسجاماً مع المبادئ الدولية، أن يتأسس حزب الله كحركة مقاومة، بوصفها حقاً وواجباً إنسانياً ووطنياً، يحدّ من هذا الاختلال على مستوى موازين القوى، لإعادة فرض الاستقرار وتحجيم هذه النزعة العدوانية كمقدمة لإطلاق عجلة الإنماء.
ثانياً: إنّ تحرير الأرض ومواردها، بوصفها رساميل هائلة، هي المظهر المادي لإنجازات المقاومة في لبنان، ولكن ما كان هذا ليحدث لولا وجود الإنسان الحر، وهذا ما يعني بأن المقاومة قبل أن تحرر الأرض عملت على تحرير الإرادة اللبنانية من عجز دائم جرى تكريسه طوال عقود من الزمن، وبذلك، عملت على تأمين أهم شروط التنمية المستقلة، التي ترى في حرية الإنسان وسيلتها وغايتها في آن. فإذا باللبنانيين يقدّمون النموذج المغاير عن بلدهم الضعيف، ويصنعون التغيير الكبير.
ثالثاً: لقد امتد تحرير المقاومة للإرادة إلى عمق الوعي العربي، حيث استطاعت أن تحبط جهوداً دولية وإقليمية ممنهجة أنفقت من أجلها موارد لا تحصى، من أجل تشويه صورة الإنسان العربي وتظهيره على نحو التخلّف والجُبن، قبالة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. فمن خلال إحياء ثقافة المقاومة، عمل الحزب على تقديم صورة مناقضة فرضت على الإسرائيلي اكتشاف زيف مخياله، فكان لذلك تأثيراته في وعي الفلسطيني خاصة والمواطن العربي عامة بأن هذا الكيان أوهن من بيت العنكبوت.
رابعاً: استطاعت المقاومة في لبنان أن تقدّم نموذجها عن صناعة الإنسان المقاوم وليس بوصفه آلة قتل همجية، فهي أرادت بذلك أن تعكس الوجه الحضاري لثقافة المقاومة، التي جرى تشويهها عبر تجارب فاشلة ومن خلال ما يعرف بأدبيات الحرب الناعمة، فإذا بالمنظومة القيمية والعقائدية لحزب الله تباهي بسلوكياتها ما عجزت عنه الثورة الفرنسية وثورات أوروبية أخرى. فما حصل أثناء التحرير عام 2000، وما قبله وما بعده، حافل بالصور المشرقة عن الدين حينما لا ينحرف عن أصالته، فيصنع الإنسان القوي بقدرات مادية وبروحية عالية.
خامساً: آمن حزب الله، منذ انطلاقته، بالتماهي بينه كتنظيم مقاوم وبين المجتمع، فحين تحتضن المقاومة مجتمعها يصير المجتمع مقاومة، يمدّها بالدعاء، والحب، والدماء. لقد عمل الحزب منذ انطلاقته على استحداث مؤسسات خدماتية وإنمائية ثورية تحتضن آلام الناس وتأخذ بيدهم نحو مجالات التمكين، في الصحة والتعليم والبناء والإنتاج. ففي الحقيقة، إن حزب الله كان - ولا يزال - يقاتل على جبهتين، واحدة في وجه الاحتلال وأخرى في وجه الإهمال.
سادساً: لقد تمسكت قيادة حزب الله باستراتيجيّة تقوم على اعتباره حركة مقاومة وليس سلطة بديلة من الدولة اللبنانيّة، بل هو مدرسة تنتج المجتمع المقاوم، القادر على حسن المشاركة والاختيار في إيصال ممثليه إلى السلطة، وتحقيق مطالبهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والأمنيّة، بدءاً من الإدارات المحلية والمجلس النيابي، والإدارات التنفيذية. إنّ واحداً من تطلّعات حزب الله هو بلوغ اليوم الذي يصير في لبنان دولة مقاومة.
سابعاً: كان على لبنان، حكومة وشعباً، أن يتحمّل من أمنه وموارده واستقراره، ما إن يتعرّض الإسرائيلي لخطر، إذ كان يطلق العنان لآلته الوحشية من دون حسيب أو رقيب. ولكن بفضل المقاومة، ترسخت معادلة مختلفة كلياً، حيث بات العدو، حكومة وشعباً وموارد، موضع تهديد جدي، في معادلة للردع، بدأت مع تفاهم تموز 2003، ونيسان2006، وليس آخرها ترسيم الحدود البحرية عام 2022، لاستخراج لبنان ثرواته الطبيعية. ومن خلال مقارنة سريعة، يمكن تحديد الفرق الهائل لجهة مفاعيل هذا الردع في لبنان ما قبل التحرير وما بعده.
ثامناً: كانت الثروة المائية في جنوب لبنان حلماً قابعاً في الوعي الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى لتأسيس كيانه، حيث كان يتطلع دائماً لضم المناطق الممتدة من نهر الأولي في صيدا حتى الحدود الجنوبية بكل مصادرها، وأهمها المائية، فاستطاعت المقاومة أن تحوّل هذا الحلم إلى كابوس ومصدر إهانة. عبّر عن ذلك أحد المفكرين الصهاينة في قوله: لو قدّر للقادة المؤسسين أن ينظروا من قبورهم لما صدّقوا أن دولتهم في هذا الموقف من الضعف أمام أعدائها، ولكن يبدو أننا تجاوزنا هذه المرحلة، وعلينا أن نهيّئ أنفسنا لمزيد من هذه المظاهر.
تاسعاً: إنّ واحداً من إنجازات المقاومة، تعزيزُها للانتماء الوطني عبر التشخيص الدقيق للعدو، حيث استطاعت، بثقافتها وسلوكياتها، أن تعبر الانتماءات المناطقية والعائلية والمذهبية. فحين اشتعل التهديد على الحدود الجنوبية، هبّ المقاومون من البقاع والشمال والجبل وبيروت، وهكذا حين صار التهديد في الشرق التحق الجنوبيون من أقصى حدودهم في عملية الدفاع ورفع التهديد. لقد استطاعت المقاومة أن تجعل من التهديد الخارجي فرصة نحو تعزيز التماسك الداخلي وإخراجه من حال الهشاشة.
وفي الختام، كلمة لأهل العلم وصناعة الوعي في مجتمعاتنا، بأنه كلما تمايزوا بمعاييرهم عن تلك الأدبيات التي تطرحها الثقافات الوافدة من خلف البحار، صارت تلك المعايير أكثر عقلانية وموضوعية، وبالتحديد حين يلامسون مكامن الضعف، والوجع، كما مكامن القوة والمنعة في مجتمعاتهم.
لقد استطاعت المقاومة في لبنان أن تقدّم أطروحتها في مسألة الخروج من دائرة التبعية، عبر ضرورة إحداث التوازن في الغلبة بين المكونات البشرية. فتعطيل قدرة المستغِل أو المحتل، يكون من خلال تنحّي المستغَل عن التسليم بنهائية ضعفه وحتمية استغلاله، واقتناعه بأن ضعفه استثنائي، يعود إلى إسقاط عناصر قوته وعدم حسن استخدامها، وهنا ترتسم المعادلة الآتية: إنّ السيادة والاستقلالية العقلانية، بوصفها شرطاً لازماً لتحقق التنمية المستدامة، لا يمكن بلوغها ما لم تكن محميّة بقدرات مقاومة وردعيّة.

* أستاذ جامعي وباحث اجتماعي