اعتدنا كلبنانيين على المطالبة بحقوقنا. فغالباً ما يكون أوّل سؤال يوجّهه الإعلام للمشاركين في تحرّك: «ما هي مطالبكم؟»، وكأن العمل الميداني محصور بالمطالبة. وغالباً ما تُقحَم الكلمة خارج سياقها، كالحديث عن «مطالبة ممفد بانتقال السلطة»، في حين أننا لم نستعمل هذه الكلمة قط، بل نتكلم عن قلب موازين القوى لفرض الانتقال، لا المطالبة به. وكأن المطالبة جزء طبيعي من العمل السياسي. لكنّ منطق المطالبة يخدم حقيقةً السلطة (أو «النظام»، أو «التركيبة»، أي طبيعة العلاقات المجتمعية، وليس فقط الأستاذ فلان أو علتان بيك) ويفكّك مجتمعنا، ولو عن غير قصد. كيف؟ وما البديل؟
تحليل منطق المطالبة
لنتخيّل أن أستاذ مدرسة يتلقى خمسين مليون ليرة شهرياً، وتلميذة بحاجة إلى المبلغ نفسه لدفع قسطه، ومودِع يريد سحب وديعته بالقيمة نفسها، ومريض بحاجة إلى المبلغ نفسه أيضاً من أجل القيام بعملية جراحية. وتخيّلوا أن مسؤول الصندوق الذي جمع هؤلاء فيه أموالهم قد بدّد تلك الأموال، فليس في الصندوق سوى خمسين مليون ليرة. من الواضح مَن هو الضحية (المجتمع) ومَن هو الخصم (الـ«مسؤول»). لكن ماذا يحصل حين يطالب كل من هؤلاء الأشخاص الأربعة بحقهم؟
على نحو لافت، يصبح الخصم صاحب الحلّ، حيث إن قرار توزيع الأموال يعود إليه (علماً أن توزيع الأموال يعني توزيع الخسائر، فالأموال لا تكفي، كل ليرة يحصل عليها أيّ من الأربعة لن يحصل عليها الثلاثة الآخرون)؛ فتنشأ بالتالي علاقة سلطة بين كلّ واحدٍ من الضحايا وجلّاده، وذلك بسبب توكيله بالقرار. أمّا فيما بين الضحايا فتصبح العلاقةُ علاقةَ تنافسٍ ومخاصمة، للسبب المذكور نفسه: الإفلاس حاصل، وكل ليرة يحصل عليها أيّ من الأربعة لن يحصل عليها الثلاثة الآخرون. هكذا يقع الضحايا في منطق فئوي، يمكن وصفه بمنطق «التناتش»، حَكَمه المُطالَب؛ ويصبح المسؤول عن الخسائر المحققة هو المسؤول عن إدارة توزيعها.
هذا تماماً ما يحصل في المجتمع اللبناني. فقد قضى «المسؤولون» على أموال المجتمع (القليل منها سُرقت والكثير منها تبدّدت نتيجة الزبائنية وعدم إنتاجية الاقتصاد ونمط حياة البذخ). ولم يعد هناك أموال كافية لتغطية معاشات كلّ من موظّفي الدولة ومصاريف المدارس الرسمية والجامعة الوطنية والضمان الاجتماعي وردّ الودائع. فتصبح مطالبة الطلّاب بعدم دولرة أقساطهم (وهي حق) على تضارب مع مطالبة الأساتذة بزيادة معاشاتهم (وهي حق أيضاً)، وبذلك يضع «منطق التناتش» الطلاب في وجه الأساتذة، إذ يطالب عمليّاً كل من الكتلتين بأموال الآخر. فيصبح خطاب المودعين «لا يعنينا ارتفاع أو انخفاض سعر الصرف، نحن أصحاب حق ولن نتنازل عن ودائعنا» (اقتباساً لبيان حديث لإحدى مجموعات المودعين). ويصبح أيضاً حقهم باسترداد ودائعهم على حساب باقي المجتمع (ومنهم، على نحو لافت، أصحاب الودائع في الليرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النقابات التي أودعت أموالها بالليرة).
ليس المقصود من هذا التحليل لوم الضحايا طبعاً. فالسلطة اللبنانية، أي طبيعة العلاقات السائدة في مجتمعنا، قائمة على منطق التناتش؛ ونتش زعماء الطوائف وأصحاب المصارف للمواقع والامتيازات والأموال التي ينعمون بها ليست سوى تجلٍ واحد من بين عدة تجلّيات لمنطق قديم يسبق تزعّمهم لطوائفهم (الكريمة) ومصارفهم (الكريمة هي أيضاً) وهو متغلغل، كما ذكرنا، في المجتمع نفسه. لذا، لا نشاطر رأي من يدّعون أن «الشعب غبيّ وبيستاهلوا كل شي عم يصير فيه»؛ إلّا أننا ننبّه، منذ سنين، من خطر الوقوع في فخ المطالبة بحقوقنا التي تكرّس سلطة الزعيم من خلال توكيله بالقرار وتفكّك المجتمع من خلال وضع مصالح فئاته في تضارب مع بعضها البعض.
لكن عدم المطالبة بحقوقنا لا يعني إطلاقاً التخلّي عنها.

عكس المطالبة: المشروع

من الواضح أن المسألة هي مسألة توزيع خسائر: فالأموال، ببساطة، لا تكفي لسدّ كل التزامات المجتمع. وفي حين نوكل بمطالبتنا بحقّنا مسؤولية توزيع تلك الخسائر للمُطالَب، أي الزعيم، علينا الانتقال نحو تبنّي مشروع سياسي بديل لأن ذلك يضعنا في موقع الخصام على شرعية الزعماء أنفسهم، إذ يحدّد المشروع مصدر الأموال وكيفية توزيعها وما هي الحقوق وكيفية تمويلها. لذا نحن لا نتكلّم عن «إصلاح» ولا عن «معارضة» ولا عن «تغيير» بل عن «بديل»: فلا يهدف مشروعنا إلى إصلاح الوضع أو الاعتراض عليه أو مجرد الحديث عن تغييره (وماذا يعني «تغيير الوضع»؟) بل لعرض بديل واضح ومتكامل، أي رميه واستبداله بمنطق آخر.
لنعدْ إلى مثل الضحايا الأربع. تخيّلوا لو عوضاً عن مطالبة كل واحد منهم بحقه، تواصلوا في ما بينهم، وناقشوا الأمر، واتفقوا على سلّم أولويات. ثم تحرّكوا، كجبهة واحدة، لفرض مشروعهم لتوزيع الخسائر، أي كيفية توزيع الأموال القليلة المتبقية. لأول مرّة، وفي تغيير لافت بطبيعة علاقتهم بخصمهم، لم يوكلوه لقرار توزيع الخسائر، بل فرضوا انتقال السلطة منه. فلم يعد المسؤول عن الخسارة هو المسؤول عن توزيعها. بل أصبحوا هم المسؤولين، وأمام الزعيم خيار الرضوخ للمجتمع أو مواجهته عوض «ضبّهم» تحت جناحه. لقد جرى انتقال السلطة من خلال قرار فئات مجتمعية، الانتقال من موقع «المطالب» لموقع «صاحب السلطة»، والانتقال من الاعتراض والدعوة للتغيير إلى تكوين البديل عمّا كان. لقد ثاروا.
لذا عمل حزب «مواطنون ومواطنات في دولة»، منذ اليوم الأول، على عرض مشروع عنوانه التوزيع العادل والهادف للخسائر. «عادل»، إذ يحمّل الخسائر: أولاً، لمن سبّبوا الأزمة، وعلى رأسهم أصحاب المصارف والمليارات المشبوهة. وثانياً، لمن يستطيعون تحمّلها أكثر من غيرهم، كالمغتربين وأصحاب الشقق الفارغة ومن يتقاضون معاشهم بالدولار ومن يشترون بضائع فاخرة وغيرهم. نعم، ليس العدل شعبياً لمجتمع اعتاد على النتش، وقد تكون وتكونينَ ممّن امتعض من بعض هذه الاقتراحات؛ فتوزيع الخسائر مرّ، حتى عندما يكون عادلاً، لكنه ليس أمرّ من توزيع الزعماء الظالم للخسائر.
و«هادف»، إذ يهدف ليس إلى معالجة تداعيات الإفلاس وسدّ الحاجات الحالية فحسب، بل أيضاً إلى معالجة الأسباب التي أوصلتنا إلى هنا وبناء مستقبل مختلف لمجتمعنا. على سبيل المثال، إنّ تسليح وتدريب الجيش يعني تخصيص جزء من الميزانية له، لكنه ضروري لاستعادة دور الدولة بحماية مجتمعها من العدو الصهيوني وأية مخاطر عسكرية محتملة أخرى، وهو دور لطالما أهملته الدولة فسدّت الأحزاب الفراغ، كلّ بحسب رؤيته وتقديره لمصالحه. وتأمين التغطية الصحية الشاملة مكلف، لكنه ضروري لكسر سلطة أرباب العمل على موظّفيهم (إذ لا يغطّي الضمان الاجتماعي سوى الموظّفين) وسلطة «أبو واسطة» على «جماعة زعيمه» تحت عنوان «شو ما عزت أنا بخدمتك». وتأمين شبكة نقل مشترك مكلف، لكنّه يكسر المافيات وبطل سائقي الفانات بسام طليس وكارتيلات بيع السيارات والفيول، كما يفسح المجال لربط المناطق بعضها ببعض والانتقال من «طائفيين في مناطق» إلى «مواطنين ومواطنات في دولة».
ختاماً، قد يرى البعض أن فرض انتقال السلطة مستحيل بسبب «قوة الزعماء» و«سلطتهم». أمّا الواقع فهو أن السلطة هي علاقة مجتمعية، أي أن للمتسلِّط كما المحكوم خيار بإقامتها أو عدم إقامتها وبتحديد شكلها؛ وأن خيار مطالبة الزعيم هو تحديداً أحد هذه الخيارات التي تكرّس علاقة السلطة بيننا وبينه. نعم، سلطة الزعيم ليست قضاءً وقدراً، بل نتيجة خيارات سياسية اتّخذها المجتمع، عن دراية أو عدم دراية.
عمل حزب «مواطنون ومواطنات في دولة» على مدى سنين لحشد فئات مجتمعية في صفٍّ واحدٍ عنوانه المشروع البديل، بهدف قلب موازين القوى وسحب الشرعية من تحت أقدام أسياد الطوائف والمصارف. أحد هذه الأمثلة هي حملة «وين صندوقك» التي تواصلنا فيها، لأول مرة في تاريخ لبنان وربما العالم، مع كل عضو في خمس نقابات مهنية (أي أكثر من مئة ألف شخص)، شخصيّاً وبالاسم. ونستمرّ اليوم في جهودنا هذه، وبالتحديد مع موظّفي القطاع العام الذي قرّر الزعماء التخلي عنهم. فلكل موظّف وموظّفة في القطاع العام، ولكل أستاذ وأستاذة في قطاع التعليم الرسمي، ولكل لبناني ولبنانية، ولكل مقيم ومقيمة، نقول: لا تطالبوا جلاديكم. البديل عنهم موجود، وهو انتظامكم وإيّانا خلف مشروع يوحّدنا في وجه عدوّنا.

* عضو في حزب «مواطنون ومواطنات في دولة»