ولّى الزمن الذي كانت العشائر العربيّة فيه تبني كيانات وإمارات في حوض الفرات، وتمتلك جيوشاً وتنشئ مدناً، كالديوانية والشطرة وسوق الشيوخ، وتحكم الجزء الأعظم من ريف بلاد الرافدين. في زمنٍ مضى، أعطى شيخ مشايخ عشيرة المنتفق، أقوى التجمّعات القبليّة في العراق، نفسه لقب «سلطان البرّ»، في تحدٍّ سافرٍ للخليفة في إسطنبول. ويجزم مؤرّخ العشائر العراقية، عباس العزّاوي، بأنّ إمارة المنتفق، لو أنّها امتلكت الأسلحة الحديثة في زمنٍ مبكر، لمنعت الدّولة العثمانية من تحقيق أيّ هيمنة على الريف العراقي.
كان خيّالة المنتفق، بحسب العزّاوي، يتفوّقون في رمي النبال من على ظهور الخيل، ولا يبزّهم أحد في استعمال الرماح في الصحراء، وكان الأمير يخوض معاركه على رأس أكثر من أربعة آلاف فارس. الثقافة الشعبية في المشرق، وجلّها مدينيّة، فيها الكثير من التحامل التاريخي على العشائر والبداوة. حتّى إن المستشرقة الجاسوسة البريطانية غيرترُد بلّ صُدمت، خلال تجوالها في بادية العراق وسوريا، لاكتشافها أنّ النظرة الشائعة عن البدو، على شاكلة أنهم قومٌ يمتهنون السّرقة والغزو أو يستلذّون بالعنف، لا أساس لها في الواقع (تنتج «هوليوود» حاليّاً فيلماً عن حياة بلّ ومغامراتها في بلادنا من بطولة نيكول كيدمان، وهو على الأرجح سيكون سيئاً).
خلال القرن التاسع عشر، طوّرت الدولة العثمانية عادةً، سار عليها كلّ من تلاها، في تدجين العشائر واستخدامها وتحويلها إلى أداةٍ في يد الدولة، بدلاً من قتالها ومنازعتها. جرى ذلك عبر الاعتراف بالزعامات القبلية بالتوازي مع تجريدها من «السيادة» (وهي العلّة الأساس، تاريخياً، للبنية العشائرية). فصار الشيوخ «وكلاء» للدولة وملّاكي أراضٍ وزعماء إقطاعيّين، وبدلاً من أن تشرف العشائر على عمليّة الإنتاج في الريف، أصبحت مؤسسة اجتماعية تجمع مساوئ الدولة الحديثة إلى مساوئ القبليّة التقليدية، سواء في توزّعها للسلطة والموارد، أو في استعمالها كخزّانٍ للجنود والعسكر، وكميليشيات للإيجار و«صحوات» وما شابه.
من هذا المنطلق، تأتي نكبة «الشعيطات» في دير الزّور، والأنباء تقول إن المئات من أبنائها قد يُعدمون جماعيّاً على يد «داعش»، تتويجاً لمسار تاريخيّ طويل، صارت العشائر في نهايته عاجزة ــــ في ديارها ــــ عن مجابهة حركة منظّمة ترتكز على عقيدة، وتعرف كيف تمزج العشائرية مع التنظيم الحديث. هذا ينطبق على عشائر العراق وسوريا كما ينطبق على اليمن، حيث هُزم التحالف القبلي لآل الأحمر (وكلاء السّلطة والسعوديّة) بسهولة، وانهار خلال أيّام، في أوّل مواجهة مع الحركة الحوثيّة.