[إلى الذين يفعلون اللاشيء]خرج المجمع الأنطاكي للكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في الأشهر الماضية بقرارات بحقّ مطارنة، منها قبول «استقالة» (أميركا الشماليّة) ومنها ما هو قبول «استقالة» مع تجريد من الأسقفيّة (مطران حمص)، ومنها ما هو إيقاف عن العمل (المعتمد البطريركيّ في السويد) وربّما فاتنا غير ذلك. في كلّ من هذه القضايا، كانت تقوم مجموعة من الناس بالنشر العلنيّ (أو التهديد به) حول مخالفات بحقّ أولئك المسؤولين الذين يعاملهم الناس بكلّ عبوديّة مخالفة للإيمان كأنصاف آلهة، فيضطرّ المجمع صاغراً إلى التفاعل مع تلك القضايا على شكل قرار لا بدّ منه.
لا يسع الإنسان إلّا أن يلاحظ أنّ المجمع يتّخذ هذه القرارات ليس بناءً على آليّتَي مراقبة ومحاسبة علنيّتين وإنّما اضطراريّاً بناءً على ضغط شعبي على وسائل التواصل عامّة، وأنّ المجمع يعمل جهده أن تبقى الحقائق مطمورة. لهذا لا نعتقد بجدّية المجمع بالتمسّك بتطبيق القوانين الكنسيّة، أو بنيّته محاربة مَن يسرق، أو مَن يعتدي جنسيّاً على المسيحيّات والمسيحيّين. هذه القرارات وغيرها هي في العمق شكليّة ولا تغيّر شيئاً في البنى الكنسيّة الموجودة، وقد ترضي الأنا الجماعيّة والفرديّة لأعضاء المجمع بأنّهم فعلوا شيئاً، لكنّها لا تحمي بالفعل أحداً في الرعيّة.
فأوّلاً، القضايا الجنسيّة عادة ما تكون الأمور معروفة للرعيّة ولأعضاء المجمع منذ سنوات، ولكن كلّ ما في الأمر أنّ المجمع بعد فضح الأمور (أو التهديد بفضحها) على العلن على وسائل التواصل الاجتماعيّ يضطرّ إلى تدارك الأمور واتّخاذ قرار. أي أنّه يهتمّ بالهدوء واستمرار الأمور دون فضائح، أكثر من اهتمامه بتنفيذ قوانين الكنيسة (وتحديثها)، أو تدارك استخدام النفوذ الكنسيّ للاستغلال الماليّ، أو الجنسيّ، فهو عادة ما يكون مرتاحاً مع حالات إيذاء الزملاء المطارنة والكهنة للناس بخرق القوانين الكنسيّة، شرط عدم معرفة المجتمع الواسع بالموضوع! أقلّ ما يُقال عن هذا الواقع إنّه غير سليم، وإنّ القرارات المجمعيّة المذكورة لا تتعلّق بالقوانين ولا بحماية الناس، وإنّما بحماية صيت رجال الدين أو صيت المجمع.
أمّا من ناحية القضايا الماليّة وسوء استخدام للنفوذ من أجل الكسب الشخصيّ، فإن كنّا لا نعرف مدى صحّتها لدى مَن كُفَّت يدهم عن العمل الرسميّ لأنّ المجمع يكتفي بـ«تدقيقه» الذاتيّ غير العلنيّ، فإن أحداً لا يمكنه أن يعرف مدى انتشار السعي للكسب الشخصيّ بين المسؤولين الكنسيّين، ومنهم أعضاء في المجمع نفسه بطبيعة الحال، بسبب الغياب الكامل لأيّ أليّات عمل، وأيّ شفافيّة ماليّة في العمل الكنسيّ (أحد المطارنة جمع يوماً بيده أمانة الصندوق والمحاسبة!)، إذ لا تقارير لشركات تدقيق في المطرانيّات والرعايا والبطريركيّة. السلطة المطلقة هي بيد المطران مباشرة الذي قد يرتئي (أو لا يرتئي) أن يحيط نفسه بمجلس مستشارين، والمجلس في حال وجوده يبقى استشاريّاً معيّناً من المطران وغير منتخب، ولا سلطة فعليّة له على مجريات الأمور، وخاصّة أنّ أعضاء المجلس هم عادة على علاقة نفعيّة مع المطرانيّة. هكذا، تبقى الأملاك المنقولة وغير المنقولة في كلّ أبرشيّة (أي منطقة جغرافيّة يرأسها مطران) أمراً مُغلقاً.
أخيراً، إنّ الأوضاع التي تكشف بشكل لا لُبسَ فيه تهميش المجمع لقيمة الإنسان هي موقف المطارنة من قضايا التحرّش الجنسيّ. مرّت سنون على رفع قضايا تحرّش في الكنيسة، وحدثت محاكمات داخليّة قيمتها ما قيمتها، ولكن ماذا تغيّر في الحياة الكنسيّة بعدها؟ لا شيء. من المعروف أنّه عند العلم بحالة واحدة، فذلك يعني أنّ هناك حالات عديدة جدّاً مخفيّة، ولذلك العقل السليم يقول بأنّه ينبغي للمطارنة الحريصين بالفعل على حياة البشر في الكنيسة، أن يجمعوا قوماً مختصّين في هذه القضايا الشائكة ويضعوا خطّة فعليّة لمواجهة حالات التحرّش على صعيدين: سياسات لأجل تفادي وقوع التحرّش، وسياسات وقوانين لاستقبال شكاوى الناس الذين يتعرّضون حاليّاً ونحن نكتب هذه السطور للتحرّش والاعتداء، والذين سيتعرّضون في المستقبل. لكنّ الواقع الذي يفضح طبيعة علاقة المطارنة غير المبالية بقيمة الإنسان ينكشف في اللاشيء الذي قاموا به حتّى الآن على هذا الصعيد.
إنّ أساس هذه القضايا وغيرها، كما أساس اللاشيء الذي يقوم به المطارنة، هو انعدام المشاركة في تقرير المصير. من أسس الإيمان أن يكون للشعب المؤمن، وهو للكنيسة، أن يقرّر مصيره، أن يقرّر في حياته الكنسيّة، أن يكون قابضاً على مصيره وفاعلاً في صياغة هذا المصير الكنسيّ في هذا العالم الشرس الذي يزيد من شراسته أعضاء المجمع أنفسهم بغياب أيّة رؤية وعمل من جانبهم لتغيير الواقع. غياب مشاركة الشعب له أسباب عديدة، أوّلها هو ارتياح المطارنة للتفرّد، ولتعيين مجالس استشاريّة لا سلطة لها على شيء. روح التسلّط تجتاح المؤسّسات الكنسيّة على صورة اجتياحها لمفاصل الحقل العام في الدول التي تمتدّ عليها مساحة الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة (سوريا، لبنان، العراق، الخليج). باتت السلطة الكنسيّة تتشبّه بالسلطويّة السياسيّة عوض تشبّهها بسلطة يسوع المسيح الخادمة. الأمر الآخر الأساس هو غياب الفِعل الشعبيّ، هذا الفِعل غائب في الحقل الكنسيّ مثل غيابه في الحقل العام، القمع العام في الوطن العربيّ والاستكانة له تطبّع الناس بأن تتصرّف بهذه الذهنيّة حتّى داخل الحقل الكنسيّ، وذلك بشكل مخالف للروح التي أطلقها يسوع المسيح الذي حرّر الناس حتّى لا يكونوا عبيداً لأحد. القرارات التي اتّخذها المجمع تحت ضغط «الفضيحة» تدلّ الشعب المؤمن على أنّ من الأفضل لحياة الرجال والنساء والأولاد أن يضغطوا هم للتغيير، ويبدو أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ مؤثّرة، ولهذا تكثر دعوات القيادات الكنسيّة للصمت، ونحن نرجو ألّا يصمتوا، فأخواتنا وإخوتنا لحمنا، كلّ آخر هو نحن. أمّا حركات الشباب فلا تزال قياداتها تفضّل العمل الذي ينتمي إلى عالم مات وشبع موتاً: العمل من خلف الأبواب المغلقة. ألا تخشى القيادات أن تكون أغلقت عيونها عن علامات الأزمنة؟ ألا تخشى كلمة يسوع أن «دع الموتى يدفنون موتاهم»، وأنّه «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء» يمكنه أن يزرع حقلاً؟
المعطيات تقول بأنّ قرارات المجمع الأخيرة لا تعدو كونها اضطراريّة بسبب العلنيّة التي ترافقت مع الأحداث، وأنّ المجمع غير مهتمّ لا من قريب ولا من بعيد بأذى يمسّ بحياة الناس، وبقيمة الإنسان، عندما يكون الأذى صادراً عن رجال الدين.
هذه المقالة لن تقدّم ولن تؤخّر في موقف المجمع، نرجو فقط أن تحثّ الناس على متابعة الفِعل، ولطالما كان الكاتب بمذكِّر وليس بمسيطر.

* كاتب وأستاذ جامعي