في وقتٍ تعود فيه القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية والإعلامية الدولية، ومع تواصل العدوان الصهيوني واستئناف الكيان سياسة الاغتيالات وما تبعها من ردود فعل فلسطينية، يعلو مستوى التعاطف الشعبي الأممي مع المقاومة المسلّحة، وتتقدّم المقاومة التي نجحت في تعزيز الوحدة الشعبية وتقوية الجبهة الداخلية، خصوصاً في قطاع غزة المحاصر. وعلى الضفة الأخرى، ترى منظّمات صهيونية «ارتفاعاً خطيراً في معاداة السامية» و«الكراهية لليهود»، وتعقد مؤتمرات خاصة للبحث في هذه «الظاهرة الخطيرة الآخذة في النمو» كما تقول. فمن الطبيعي أن يسعى أنصار إسرائيل إلى تقديم مبرّرات لأسباب تعاظم الحركة الشعبية الدولية المناهضة للكيان الصهيوني ومشروعه العنصري الاستيطاني، كما من الطبيعي أيضاً أن تكون هذه الذرائع من خارج سياق الواقع وتطوّرات الصراع العربي - الصهيوني. وإذا كان هذا كلّه مفهوماً بالنسبة إلينا نحن العرب، إلى حدّ البداهة، فإن قطاعات شعبية أممية بدأت تدرك خطورة المشروع الصهيوني، وتتكشّف لها أكثر خديعة «عملية السلام» وفساد «نظام أوسلو»، وضرورة دعم المقاومة الفلسطينية باعتبارها الخيار الوحيد المتبقّي في قبضة الفلسطينيين لانتزاع حقوقهم، أو حمايتها على الأقلّ من خطر التصفية والتبديد.ونشرت الأكاديمية والصحافية الفلسطينية الأميركية، د. ريما النجار، سلسلة مقالات في موقع «كاونتر كيرينتس»، واكبت فيها التحضيرات والحوارات التي جرت في مؤتمر «حركة المسار الثوري البديل» في أميركا الشمالية، وما صاحبها من فعاليات سياسية وشعبية. كما رصدت النجار ردود فعل المنظّمات الصهيونية في القارة، والتي حذرت من «تنامي خطاب العنف والتطرّف والكراهية في أميركا الشمالية عموماً، وفي كندا بشكلٍ خاص». وتَخلُص مقالات النجار إلى أن الهجوم الصهيوني المستمرّ على «المسار الثوري البديل» يؤكد حقيقة تراجع قدرة التيّارات اليمينية المحافظة المُؤيّدة للمشروع الصهيوني من داخل قارّة أميركا الشمالية، في وقت نشهد فيه تصاعُد التأييد الشعبي الأممي للمقاومة الفلسطينية المسلّحة، والذي انتقل من دوائر الهمس أو الرمزية والشعاراتية، إلى التعبير العلني الواضح في رفض ما يسمّى «قوائم الإرهاب». وترى النجار أن منظّمات فاعلة تؤيّد حركات المقاومة المسلّحة مثل «شبكة صامدون»، والعديد من حركات التحرّر والقوى الجذرية والنقابية والطلابية، ساهمت في رفع سقف الخطاب السياسي المؤيّد للمقاومة المسلّحة من جهة، وتطبيع خطاب التحرّر ومشروعية العنف الثوري خارج حسابات وأطر تقليدية ضيّقة، وفي المجتمعات التي تحكمها أنظمة الاستعمار الاستيطاني الكبرى مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها، من جهة أخرى.
أمّا الكاتبة الكندية، ماريون قوّاص، فكتبت مقالاً في موقع «الميادين نت» بطبعته الإنكليزية بعنوان «حركة التضامن تعود إلى جذورها» (5 أيار 2023)، أشارت فيه إلى حزمة من المتغيّرات الجديدة التي طرأت على خطاب تيّارات حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في كندا. وتذكُر قوّاص ثلاث حقائق جديدة هامّة: الأولى: سقوط خديعة حلّ الدولتين، والثانية: عودة الوعي بجوهر الكيان الصهيوني بوصفه مشروعاً استيطانياً عنصرياً في كلّ فلسطين، وأخيراً: الموقف الداعم للمقاومة المسلّحة وشرعيّتها السياسية والأخلاقية كأسلوب رئيس للتحرير. لقد أشار العديد من السياسيين والكتّاب، أيضاً، إلى «إشكاليات خطاب الناتو» مثلاً، وضعف مبرّراته الكثيرة في دعم «المقاومة الأوكرانية المسلّحة ضدّ العدوان الروسي»، في وقت تجري فيه مصادرة حق الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب في المقاومة ضدّ العدوان والاحتلال، إذ يَجري تجريم قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرها، واعتبارها «إرهاباً» و«تطرّفاً»!
ونشهد في السنوات الأخيرة تراجعاً في قوة اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. فالكاتب الصهيوني، ليف سيستن، يقول إن أبرز جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة «تموت بشكل بشع» على حدّ قوله، ويؤكد في مقالٍ نشرته صحيفة «هآرتس» في 5 أيار، أن إلغاء «إيباك» مؤتمراتها السنوية يُسهِم في «المصير المحتوم»، ويُبعد المنظمة المعروفة عن «اليهود والأميركيين، الذين يحبّون إسرائيل». يقول الكاتب: «للأسف، يبدو أن الحرس القديم الذي كان يفهم سياسات التعامل مع القضايا العامّة، تراجع، وحلّ بدلاً منه جيل جديد من القيادات الذين سيديرون «إيباك» كشركة تجارية، وربّما يدعمون المستثمرين الكبار، ليصبح الخاسر الأكبر هو الشعب اليهودي». غير أن تباكي سيستن على تراجع «إيباك» جعله ينسى الأسباب الحقيقية وراء ذلك، وهو تغيّر المزاج العام في الولايات المتحدة وتزايد نقد ممارسات كيانه العنصري، وحقيقة أن إسرائيل لم تَعُد محطّ إجماع 100% في واشنطن.
انكشاف طبيعة المشروع الإمبريالي الصهيوني من جهة، وبشاعة السياسات العدوانية والإجرامية للكيان الصهيوني (العدوان والحروب المستمرة على غزة) من جهة أخرى، كشفت خديعة «عملية السلام» خلال العقود الثلاثة الماضية. هذا كلّه صاحبته متغيّرات وتطوّرات نوعية في تنامي قدرة المقاومة في فلسطين ولبنان - تحديداً -، ومراكمة المزيد من تجربتها العسكرية في مواجهة العدوان، فضلاً عن صعود ظاهرة «عرين الأسود» وكتائب المقاومة في الضفّة. فالشعوب وحركات التحرّر، على عكس الدول، لا تتّخذ موقفاً سلبياً من العنف الثوري، بل إنها تؤيّد مقاومة وطنية يقظة ومبدعة، هدفُها التحرير، ولا تمارس العنف للعنف. والمقاومة العربية بدأت تظهر اليوم باعتبارها المسار الثوري البديل والوحيد لاسترداد الحقوق في مواجهة مسارات الخداع والأوهام والدجل.
يجب التذكير بأن شعوب العالم تعرّضت هي الأخرى لخديعة (عملية السلام بالرعاية الأميركية) على مدار ثلاثة عقود. فالضخّ الإعلامي، وعملية التضليل المنهجي، وشعارات التسوية والمفاوضات، طالت قطاعات شعبية واسعة. وبعد ثلاثين عاماً على «اتفاق أوسلو»، نرى انهياراً متسارعاً لمشروع السلطة الفلسطينية الفاسدة في رام الله، فيما يتصدّع ما يسمّى «حل الدولتين»، ونشهد صعوداً لتيّارات اليمين الفاشي الصهيوني، يُقابله صُعود عربي وفلسطيني شعبيَّين نقيض له. لقد قدَّمت طلائع الجماهير الفلسطينية والمقاومة المسلّحة في قطاع غزة، نموذجاً حيّاً مستمرّاً، حين استطاعت تعزيز الوحدة الشعبية بين الفلسطينيين، وإسنادها بالنار، من خلال ربط قضاياهم وحقوقهم باعتبارها قضية تحرّر وطني واحدة، بينما استحالت «الوحدة الوطنية» عبر جولات «المصالحة» الكاذبة واللقاءات العبثية للفصائل الفلسطينية برعاية الأنظمة والمخابرات العربية.
كما يجب تذكير أنفسنا بأن المقاومة الفلسطينية خاضت معركة «سيف القدس» في عام 2021، و«وحدة الساحات» في عام 2022، و«ثأر الأحرار» وغيرها من مواجهات بالصواريخ والرصاص، دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، وللذّود عن القدس والأقصى والمقدسات، والتصدّي لسياسة الاغتيالات وجرائم الاحتلال في استهداف الأسرى، كما حدث مع الشيخ الشهيد خضر عدنان، وهي - المقاومة - التي تخوض معركة متواصلة يومية، وقد أصبحت الصمغ السياسي الذي يحمي وحدة الشعب الفلسطيني، والسلاح الذي يردع العدو ويكبح جماحه. كلّ ما تقدَّم من تطوّرات متسارعة، سيحمل في أحشائه مخاطر وبشائر كثيرة في وقت واحد، فمن جهة تشكّل هذه التطوّرات في الكيان (بما في ذلك أزمته) تهديداً مباشراً على الشعب الفلسطيني، غير أنها في الوقت عينه تمثّل فرصة تاريخية أيضاً إذا أحسنت قوى المقاومة إدارة الصراع، خاصة إذا تسارع التناقض الداخلي في الكيان، وشهدنا تغيّرات في ميزان القوى الدولي، واستمرّ تراجع قوة الإمبراطورية الأميركية، وضعفت قبضتها وتبدّلت أولوياتها الاستراتيجية، فهذا كلّه سيصبّ حتماً في صالح الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرّري.
وأخيراً، فالكفاح المسلّح ليس أسلوباً طارئاً أو جديداً على الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن العنف الثوري المسلّح حق وواجب لكلّ الشعوب التي تتعرّض للاستعمار. وفي الحالة الفلسطينية، فإن المقاومة يجب ألّا تكون «تكتيكاً» أو خياراً من بين خيارات متعدّدة للوصول إلى الأهداف الوطنية، بل طريقاً رئيسياً واستراتيجية ثابتة. فالشعب الفلسطيني يُقدّم التضحيات، ويلتفّ حول المقاومة كصَدَفة قوية صلبة، ويتحمّل العذاب في سبيل ذلك، وهو – لا أحد غيره – من يُؤمِّن المشروعية للمقاومة ويوفّر لها أسباب وعوامل التطوّر والصمود والديمومة. فلا حاضنة عربية وأممية شعبية للمقاومة من دون توافر حاضنة شعبية فلسطينية أولاً وعاشراً.