في مجرى الخلاف والمساومة على علاقات لبنان العربية والخارجية، وأساساً على هويته وانتمائه، قال الصحافي المرحوم جورج نقاش، بشأن ما تمَّ التوافق عليه بين القادة اللبنانيين قبيل وبعد الاستقلال: «نفيان لا يصنعان أمة» (وطناً). كان المقصود بذلك تعهد ممثلي المسيحيين بالتخلي عن الارتباط بفرنسا، مقابل تخلي ممثلي المسلمين عن مطلب الانضمام إلى سوريا... هذا من دون تبني مشتركات كافية لتأمين بناء وحدة وطنية تقوم على التثبيت لا على النفي، وعلى الايجابي لا على السلبي.
استعادة هذه الواقعة التي تشير إلى خلل تأسيسي في البنيان اللبناني، هي لمقاربة ما عاناه الواقع الفلسطيني أيضاً، وطيلة ثماني سنوات، من اهتزاز للوحدة الوطنية وانقسام كان يتفاقم باستمرار مع تعمق الخلاف حول البرنامج والأولويات والتحالفات، وتبلور ذلك في قيام حكومتين، في كل من «رام الله» و«غزة»، تتنافسان، بل وتتصارعان على كل شيء تقريباً. كان يحصل ذلك فيما كان العدو الصهيوني، يزداد صلفاً وتعنتاً وقمعاً وإجراماً، مراكماً نجاحات متعددة على حساب قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه ومطالبه.
خيبات متعددة دفعت ممثلي سلطتي رام الله وغزة إلى الجنوح فعلياً نحو المصالحة. جرت محاولات تصالحية في السابق، مراراً وتكراراً. دخل طرفا النزاع، في أكثر من عاصمة، وبرعاية غير بريئة منها غالباًَ، وبطبل وزمر، في إعلان «مصالحات» كانت أقرب إلى تكتيك تحسين المواقع منها إلى أي أمر آخر. اختلف الوضع في مرحلة ما قبل العدوان على غزة. شهدت تلك المرحلة انهيار المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية بسبب تصعيد العدو الإسرائيلي من اشتراطاته ومطالبه من جهة، وتراجعه المتواصل عن وعوده وتعهداته، من جهة ثانية... كالعادة، كان «الوسيط» الأميركي منحازاً وداعماً للمطالب الأساسية للمحتلين الصهاينة. بعض ما أبداه من اعتراض على المبالغة الإسرائيلية لم يتجاوز صيغة العتاب الودي «بين أصدقاء»... وصل خيار التفاوض المفتوح الذي اعتمدته قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، وثابرت عليه، إلى الحائط المسدود تماماً. كان أمر آخر، مشابه، يواجه سلطة غزة. راهنت تلك السلطة، بدورها على استلام السلطة، في مصر خصوصاً، من قبل جماعة «الإخوان المسلمين»، بتفاهم نشطت من أجل حصوله حكومتا تركيا وقطر مع الإدارة الأميركية. نشأت إذ ذاك لدى قيادة حركة «حماس» أوهام بشأن إمكانية قيام توازنات جديدة لغير مصلحة سلطة رام الله على المستوى الإقليمي، وبناء علاقات شبه مباشرة مع الولايات المتحدة عبر البوابتين القطرية والتركية خصوصاً.
مع سقوط نظام «الإخوان» في مصر إثر تظاهرات 30 حزيران من العام الماضي، سقطت دفعة واحدة كل هذه التخيلات والآمال. بل إن العلاقات، مع السلطة المصرية الجديدة، انتقلت إلى مرحلة شديدة التوتر وبلغت حد العدائية والقطيعة الكاملتين. أسهم ذلك، بالإضافة إلى الحصار الصهيوني، بنشوء واقع مقفل سياسياً، ويائس اجتماعياً، بالنسبة لكل من سلطة القطاع ولكل مواطنيه على حد سواء.
في هذا الوضع من انسداد الأفق وسقوط المراهنات أصبحت المصالحة الفلسطينية حاجة حقيقية بعد أن كانت تكتيكاً أو مناورة... بدت حركة «حماس» الشريك الأضعف في تلك المصالحة خصوصاً من الناحية السياسية. ذلك أن أخطاءها كانت أكبر، خصوصاً لجهة تقديم المسائل العقيدية على موجبات التوحد الوطني في مواجهة العدو. ثم بسبب حجم الخسارة التي منيت بها بعد انهيار علاقاتها مع دمشق وطهران، ولاحقاً سقوط نظام الرئيس محمد مرسي في القاهرة، وانعكاس هذين الأمرين وسواهما، بشكل شديد السلبية، أيضاً، على الحياة والعلاقات في القطاع الفقير والمحاصر والمعزول أو المنعزل.
كان الصهاينة يعوِّلون على الانقسام كأحد العوامل في إضعاف قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة عدوانهم وتصلبهم. ولقد تفاجأوا حين انطلقت حركة تضامن كبيرة في الضفة الغربية استنكاراً لعدوانهم الهجمي على غزة، وبتسهيل، غالباً، من السلطة الفلسطينية. بل إن الصحوة الفلسطينية من طرفي المصالحة بلغت ذروتها في مرونة وحرص مكَّنا من تشكيل وفد فلسطيني واحد للمفاوضات، يحمل أيضاً مطالب تفاوضية واحدة وسط دهشة الأصدقاء قبل الأعداء. إن ربط وقف إطلاق النار، بوقف الحصار بعد صمود شعبي رائع، ومقاومة ميدانية فعّالة، قد أربك الصهاينة أكثر من أي أمر آخر. هذا المطلب لا يوحِّد 1,7 مليون مواطن في غزة فقط، بل هو يوحد كل الفلسطينيين على حد سواء: على امتداد كل فلسطين المحتلة والشتات...
تستطيع حرب غزة، كما لاحظ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في حديثه لـ«الأخبار» قبل يومين، أن تشكل «فرصة» بالمعنى الحقيقي والكامل للكلمة: فرصة لبناء لبنة متينة في جدار الوحدة الوطنية الفلسطينية. فرصة من أجل الشروع، على وهج الدم والصمود والتضامن، في بلورة برنامج وطني فلسطيني يشكل الحد الأدنى المنشود لقيام الوحدة الوطنية الفلسطينية. وهو برنامج سيملي، بالضرورة، إعادة نظر أطراف المصالحة في بعض خياراتهم وتجاربهم الخاطئة السابقة. لا يمكن أن يستمر ذلك الوضع الذي جرى فيه وضع مسألة المفاوضات بالتعارض مع ضرورة استمرار الضغط الشعبي على العدو، ومع ضرورة مواجهة تعنته وعدوانه بكل السبل بما فيها المقاومة الشعبية الواسعة: بالحجر والانتفاضة والسلاح إذا تطلب الأمر.
كذلك لا يمكن رفع شعار المقاومة المسلحة من دون تحويلها إلى أداة لخدمة مشروع سياسي تحدد مراحله نسبة القوى التي ينبغي تحسينها باستمرار لمصلحة الطرف الفلسطيني صاحب الحق غير القابل للتصرف في أرضه ومقدساته ووطنه...
إنه لما يثير الارتياح فعلاً أن يتوحّد القادة الفلسطينيون في مواجهة البربرية الصهيونية. هذا أدنى الواجب حيال أنفسهم وشعبهم وقضيتهم. والوحدة سلاح فعّال أيضاً في مواجهة كل محاولات توظيف الدم والحق الفلسطينيين في مناورات تحسين الشروط والتوازنات لمصلحة هذا النظام أو ذاك، أو بناء مواقع سلطة ونفوذ ذات طابع فئوي لمصلحة حزبية أو شخصية. وهي تصبح دائماً مصيرية في مواجهة أعداء أقوياء وقتلة، كالعدو الصهيوني، يتمتعون بدعم سياسي وعسكري غير محدود من قبل أقوى الدول وأكثرها ممارسة لاستخدام العنف والإجرام والعدوان وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية.
لقد أثبت الشعب الفلسطيني، بعد العدوان على غزة وقبل ذلك العدوان، على امتداد تاريخ الحافل والمرير، أنه مستعد دائماً لدفع أغلى الأثمان من أجل استعادة أرضه وحقوقه ووطنه: لا أقل من أن يرتقي ممثلوه إلى مستوى آلامه ودمائه وصموده وقضيته.
... ولا ينبغي أن يكون الشعب الفلسطيني أبداً وحيداً في كفاحه من أجل التحرير والحرية. إلى عدالة حقوقه وكفاحه من أجلها، قضيته فعلاً مركزية في حركة بناء النهضة التحررية العربية الجديدة ضد الاغتصاب والاستعمار، وضد الإرهاب بشقيه القديم والجديد، وضد التواطؤ والخيانة والعجز والتخلي... ومن أجل التحرر والتقدم والعدالة والديمقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني