حرب تمّوز 2006 غيّرت التّاريخ، أو كانت - على الأقلّ - علامةً على تغيّره. المعنى العميق لتلك المواجهة لا يقتصر على كونها أوّل انتصارٍ للمقاومة العربيّة في حربٍ دفاعيّة ضدّ إسرائيل، بل في أنّها كانت المرّة الأولى، منذ انتهاء الحرب الباردة، الّتي يجتمع فيها المعسكر الأميركي وحلفاؤه، محاولين فرض واقعٍ سياسيّ معيّن عبر القوّة العسكريّة، فيفشلون في الوصول إلى غايتهم.
بعد عقدٍ ونصف عقد من الهيمنة المطلقة على هذا الكوكب، لم تعد الإرادة الأميركيّة قدَراً لا يردّ، ثمّ توالت الخيبات، فجاء الانسحاب الأميركي من العراق، وحرب جورجيا، وسوريا، والنزاع في أوكرانيا. كل واحدةٍ من هذه المواجهات رسمت حدوداً جديدة للقوّة الأميركية. بدأت منظومة الهيمنة بالتآكل وتجرّأ عليها مناوئوها.
المغزى الآخر لحرب تمّوز هو أنّها أدخلت مفهوم «المقاومة» في المجتمع العربي إلى طورٍ تاريخيٍّ جديد. أصعب المراحل في مسار حركات المقاومة تكون في البدايات، حين تدور الحرب ضمن شروطٍ قاسية للغاية وخالية من أي تكافؤ، وتكون الخسائر ثقيلة والنتائج غير مضمونة؛ إقناع النّاس بالاصطفاف مع المقاومة في وجه قوّةٍ متفوّقة، واحتمال الموت والألم بانتظار تنامي قدرة ردعٍ تغيّر المعادلة، يحتاج حقّاً إلى فعل ايمان.
المقاومة اليوم في مكانٍ مختلفٍ تماماً. هي تملك سجلّاً تاريخيّاً عمره عقود، وإنجازات ماديّة محسوسة، ومساراً تصاعديّاً يتكلّم عن نفسه. الخيار العربي الآخر ـــ من السّادات إلى عرفات ـــ لديه سجلّه أيضاً، وبإمكان النّاس أن تقارن. لم يعد التماثل مع المقاومة يحتاج إلى «قفزة إيمان»، ولا هو يمثّل عناداً مبدئياً أو وقفةً حسينيّة، بل أضحى طرحاً عقلانيّاً وواقعياً، نستشفّه بالمنطق والبرهان. يكفي أن يستذكر المرء أين كنّا منذ عقدين وأين أصبحنا اليوم، أو أن يزور جنوب لبنان، ويشاهد الأرض التي تحرّرت والقرى التي عمرت، حتّى يفهم أنّ التّاريخ يصنعه أناسٌ قادرون ـــ في عمق الظّلمة والمعاناة ـــ على رؤية ما لا نستطيع رؤيته، وتخيّل مستقبلٍ مختلف، وفرضه واقعاً بأيديهم.