ينهمك رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، في سباق تصعيدي محموم مع غريمه الأول، الدكتور سمير جعجع. هما يتبارزان حول من هو صاحب الصوت الأعلى في تجريم المقاومة. كلاهما يهدِّد بالويل والثبور إذا تمَّ انتخاب رئيس للجمهورية لا يتعهّد، سلفاً، بنزع الشرعية عن سلاح المقاومة. طبعاً، سيكون على الرئيس العتيد، وفق رغباتهما، زجّ شرعية الدولة وأدواتها العسكرية والأمنية في معركة صريحة وحازمة ضد المقاومة وسلاحها! من جهته، وفي نطاق المنافسة إياها، استغل رئيس «الكتائب» الأزمة العامة التي انفجرت في تشرين 2019، ولمرحلة امتدت لأكثر من سنتين (حتى الانتخابات النيابية في أيار 2022)، من أجل تسجيل نقاط ضد جعجع. ذكّر بأن قائد «القوات» قد لعب دوراً أساسياً في تأمين انتخاب الجنرال ميشال عون (حليف ومرشح «حزب الله» آنذاك) رئيساً للجمهورية في نهاية ت1 عام 2016. وفيما وقف الجميل، شبه وحيد وبشراسة، ضد عون وعهده، كان جعجع يستفيد من صفقة محاصصة عقدها مع الرئيس عون وبات بموجبها شريكاً أساسياً في السلطة، وبالتالي في المسؤولية عن الأزمة. حرص الجميل في السياق على إظهار تمايزه وتنكّره لـ«المنظومة» الحاكمة التي تتداول السلطة منذ ثلاثة عقود، بل، وحتى، منذ الاستقلال إلى الآن! نسي أو تناسى الشيخ سامي بأن «الكتائب» كانت تُسمَّى «حزب الرئيس». أي أن «الكتائب»، أباً عن جد، كانت، بالفعل، حزب السلطة وأداتها ومن ثم هراوتها حين تطلب الأمر، خصوصاً منذ عهد اللواء فؤاد شهاب حتى عام 1988 (تسوية «الطائف»). اختلّت معادلة مشاركة «الكتائب» في السلطة حين خرجت شبه مهزومة من الحرب الأهلية رغم أنها تمكنت من إيصال ابني مؤسسها إلى رئاسة الجمهورية في مرحلة الغزو الإسرائيلي الأكبر للبنان في صيف عام 1982.
إذاً، مع اندلاع الأزمة الاقتصادية المالية النقدية الشاملة ابتداءً من تشرين عام 2019، بادر رئيس «الكتائب» إلى ركوب الموجة وأصبح أحد أبرز «الثوار»: أولاً، لتصوير حزبه بعيداً عن أيّ مسؤولية في حصول الأزمة، وبالتالي، عن تحمل تبعاتها. هو، ثانياً، ركب قطار «الثورة» دون مراجعة، ودون أن يغيِّر، إلا لفظياً (هو لم ينتقد النظام السياسي أبداً)، في جوهر توجهاته ومواقفه الأساسية. ثانياً، أراد، في الوقت نفسه (كما أشرنا)، أن يُحرج غريمه الخارج من صلب حزب الكتائب وعليه، سمير جعجع. دفعته المزايدة على جعجع إلى درجة إعلان «الثورة» على الجميع وتبني شعار «كلن يعني كلن». ثم ما لبث مع نواب حزبه وآخرين أن أقدم على الاستقالة من المجلس النيابي مطالباً جعجع بنفس الخطوة وإلا سيكون مراوغاً وغير ذي مصداقية في جذرية شعاراته ضد «المنظومة» وحتى ضد الرئيس عون وتياره وحلفائه. تلقّف إعلام موجّه ومجنَّد في المعركة شعارات ومواقف «فتى الكتائب» وروَّج لصورته الجديدة رمزاً من رموز الانفكاك عن «المنظومة السلطوية» وثائراً متقدماً من بين ثوارها!
لا شكَّ أن خطة الجميل قد نجحت جزئياً لدى جزء من الرأي العام. انطلت مناورته (أو مغامرته!) ليس فقط على غير ذوي التجربة من المجموعات «الثورية» الجديدة، بل، أحياناً أيضاً على بعض القوى التقدمية العريقة! كانت تتبلور، في الأثناء، خطة واشنطن من الأزمة، بتغذيتها واستغلالها، وتركيز، بل وحصر، المسؤولية عنها بـ«حزب الله». عنى ذلك، بشكل واضح، إعفاء منظومة النهب والفساد من أي مسؤولية عن الانهيار واللصوصية والخراب. أملى الموقف الأميركي على رئيس الكتائب فتح صفحة جديدة استعداداً للانتخابات النيابية وحتى يومنا هذا. هنا عاودت «الكتائب» سيرتها «الطبيعية»: سلاح المقاومة هو المسؤول، وحده، عن الأزمة الطاحنة والانهيار المدمِّر. يحاول رئيس «الكتائب» أن يكون الأكثر تشدداً وإلحاحاً. يهدد خصومه بكلمات كبيرة، بما لا ينسجم مع أصواته النيابية ونفوذه الشعبي والمناطقي الذي قضم جعجع الجزء الأكبر منه. يهدد، أحياناً، باللجوء إلى العنف رداً على عنف من «يخطف لبنان»! أو باللجوء إلى «الطلاق» (التقسيم) لمواجهة «احتلال» السلطة والبلد جميعاً من قبل «حزب الله»! في مقابلة رئيس الكتائب الأخيرة (مساء الأربعاء الماضي على LBCI)، بدا مرتبكاً بسبب تفكك المعارضة. ألمح إلى اللجوء إلى العنف بعد أن أكّد رفضه له. أنكر أي تأثير خارجي على موقفه. قلّل من شأن التطورات الأخيرة في الموقف السعودي ومن عودة سوريا إلى الجامعة العربية من البوابة السعودية. جعل متابعه يعتقد أن حزب الكتائب قد بدأ معه، متناسياً، كما محاورته، بالكامل، علاقة «الكتائب» بالعدو الإسرائيلي ومدى تطابق مطالبه الراهنة مع مطالب إسرائيل!
في السياق يتوهّم ويوهم سامي الجميل مشاهديه بأن شرعية سلاح المقاومة، والمقاومة عموماً، إنما ينتهيان بمجرد صدور قرار رسمي بذلك. فضلاً عن محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية، ينبغي التذكير بأن قصة المقاومة، منذ البدء إلى الآن، هي ثمرة أمرين: الأول، تقصير وعجز السلطة الرسمية عن حماية شعب وأرض وسيادة ومصالح لبنان في مواجهة العدوانية الصهيونيّة. والثاني قرار شعبي شجاع بمواجهة العدو مهما كان الثمن. إن مصدر شرعية المقاومة، في سياقها اللبناني، هو الشعب لا السلطة. هي، إذاً، شرعية شعبية اقترنت بإنجازات غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لم يكن للكتائب شرف المشاركة فيها! إلى ذلك، فإن التهديدات المستمرة التي يمثلها المشروع الصهيوني على لبنان وفلسطين والمنطقة، واستمرار احتلاله لجزء من الأراضي اللبنانية، هما واقعان راهنان طالما بقيت الدولة عاجزة والتهديد والاحتلال مستمرين.
إن نزع الشرعية عن المقاومة ونزع سلاحها هما مطلبان إسرائيليان. ولقد نجم عن شروط تكوُّن المقاومة وإنجازاتها الوطنية الباهرة، من جهة، واستمرار العدوانية الصهيونية من جهة ثانية، نشوء حالة استثنائية لن تعالج إلا وفق المصالح الوطنية، لا وفق مصالح العدو وداعميه الدوليين أو الإقليميين. ذلك ما تمليه المصلحة الوطنية العليا. وهو، لذلك، لا يمكن أن يقرر بشأنه إلا حوار وطني تصبح، بنتيجته، عندما تتوفر الإمكانات الضرورية، مسؤوليةُ وأعباء الدفاع عن سيادة وأرض ومصالح البلاد، مسؤوليةَ السلطة الرسمية وقواها المسلحة دون سواها. بذلك تكون المطالبة بإقرار سياسة وخطة دفاعية مادةَ حوار وطني لا مطالب لهذا الفريق أو ذاك تحكمها الفئويات أو الارتباطات الخارجية.
يمكن القول، من دون حرج أو تحامل، إن موقف «الكتائب» من سلاح المقاومة يحيل، للأسف، إلى تاريخ سابق وعلاقات مدانة أكثر مما يرتبط بالأزمة الاقتصادية الراهنة ومتطلبات معالجتها وأسباب حصولها. حبّذا لو استمر الجميل «ثائراً» على «المنظومة» ومحرّضاً على معاقبتها، لا أن يقارب مسألة المقاومة ودورها ومستقبلها من زاوية التهويل بـ«الطلاق» و«العنف» والاستقواء بالخارج، قريباً كان أم بعيداً.

* كاتب وسياسي لبناني