محمد السيد عبدالله شرف الدين
كتب الأستاذ أسعد أبو خليل يوم 29/4 في «الأخبار» مقالة بعنوان: «تاريخ الإقطاع الشيعي من خلال سيرة يوسف الزين». المقالة عبارة عن نقد لكتاب بعنوان: «يوسف بك الزين من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني»، لمؤلّفه منذر محمود جابر، أورد فيها العبارة التالية التي كتبها جابر في مؤلفه: «والإمام عبد الحسين شرف الدين زار الجنرال غورو في عام 1920م وتكلّم باسم وجهاء جبل عامل برئاسة كامل الأسعد فذكر ميلهم للدولة الفرنسية وأطرى على ما امتازت به هذه الدولة من العدالة والحرية وما لها من فضل على الإنسانية».
إنّ هذا الكلام غير دقيق وفيه افتراء على المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين بأنّه كان موالياً للاحتلال الفرنسي في لبنان، وإليكم التفاصيل:
لقد حصل تبادل رسائل بين الشريف حسين، أمير مكة، وهنري ماكماهون، المفوّض البريطاني في مصر (وكان البريطانيون يحتلون مصر منذ سنة 1882 واستمرّ هذا الاحتلال حتى سنة 1956. نلاحظ أن انتهاء الاحتلال البريطاني لمصر يأتي بعد أربع سنوات من الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش المصري بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر على الحكم الملكي في مصر) وذلك بين تموز 1915 وكانون الثاني 1916. وبناءً على هذه المراسلات تعهّد ماكماهون بـ: أنّ إنكلترا مستعدّة للاعتراف باستقلال العرب (عن الدولة العثمانية) في الحدود التي اقترحها الشريف حسين. وبناءً على هذا التعهد أعلن الشريف حسين الثورة في مكة بتاريخ 1916\6\10 على الدولة العثمانية. ونادى بتاريخ 1916\10\31 بنفسه ملكاً على العرب. ولكن الإنكليز لم يعترفوا له سوى بلقب ملك الحجاز. ومع ذلك، قاد الأمير فيصل ابن الشريف حسين حملة عسكرية في الجزيرة العربية على القوات العثمانية المتمركزة هناك وعمل على طردها. وطرد فيصل أيضاً العثمانيين في شهر تموز 1917 من مرفأ العقبة ومن مدينة الزرقاء في الأردن. وطرد بتاريخ 1918\10\1 العثمانيين من دمشق وبتاريخ 1918\10\15 من حمص وبتاريخ 1918\10\26 من حلب. وقبل ذلك بأشهر قامت فرقة عسكرية بريطانية مرابطة في مصر، بقيادة الجنرال اللنبي، بطرد العثمانيين من قناة السويس والوصول إلى فلسطين عبر سيناء واحتلال القدس في 1917\12\9 واحتلال حيفا في 1918\9\23 واحتلال عكا ومن بعدها احتلال مدينة صور سنة 1918\10\4 واحتلال صيدا في 1918\10\6 واحتلال بيروت في 1918\10\8 واحتلال طرابلس في 1918\10\13. أعلن الأمير فيصل إثر ذلك وبعد أن استقرّ في دمشق بتاريخ 1918\10\1 تشكيل حكومة عربية في بيروت برئاسة عمر الداعوق، وتشكيل حكومة عربية في صيدا برئاسة رياض الصلح، وتشكيل حكومة عربية في صور برئاسة عبدالله يحيى الخليل، وتشكيل حكومة عربية في النبطية في بيت آل الفضل.
رست في 1918\10\8 سفن عسكرية فرنسية في بيروت وأنزلت حوالي 12 فرقة عسكرية تم انتشارها في صيدا وصور والنبطية وبإشراف من الإنكليز. يأمر الجنرال البريطاني اللنبي في 1918\10\10 بحل الحكومات العربية في بيروت وصيدا وصور والنبطية ويعين ضابطاً فرنسياً اسمه شارنبتيه حاكماً على صيدا، وعملياً حاكماً على جبل عامل كله. بموازاة انتشار القوات الفرنسية في جبل عامل، عمدت الجمعيات السياسية المحلية في لبنان، والتي كانت قد أنشئت بتغطية من إنكلترا وبدعم من الأمير فيصل، إلى توزيع منشورات تدعو إلى مقاومة القوات الفرنسية في جبل عامل وفي سوريا التي كان الفرنسيون قد انتشروا فيها بعد فترة وجيزة. وتزعّم الأمير فيصل قيادة العمليات العسكرية ضد القوات الفرنسية في سوريا وفي لبنان. وذلك بتخطيط من قبل البريطانيين. وكانت نتيجتها بطش القوات الفرنسية بالأهالي في جبل عامل وانتزاع حوالي 24 قرية من جنوب جبل عامل عُرفت في ما بعد بالقرى السبع وتمّ إلحاقها بالحصة البريطانية في فلسطين.
كان دور المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين، كزعيم ديني في جبل عامل، ودور كامل بيك الأسعد، كزعيم سياسي، الوقوف في وجه الاحتلال الحقيقي لجبل عامل المتمثّل بالقوات الإنكليزية والاحتلال الظاهري لجبل عامل المتمثّل بالقوات الفرنسية، بحيث يؤدي ذلك إلى إبعاد المؤامرات السياسية والعسكرية عن أهلنا في جبل عامل ويحفظهم من الفتن التي يراد منها ضرب النسيج الاجتماعي، ويحميهم من البطش العسكري والاقتصادي الذي يراد منه تحطيم مقوّمات الحياة في جبل عامل.
كتب السيد شرف الدين في كتابه «بغية الراغبين»: «وبدأ العمل في هذه البلاد بإنشاء حكومات مؤقّتة تحفظ الأمن باسم الملك حسين وأنشأنا في صور يومئذ حكومة على هذا الغرار نحتفظ بالزمام لنلقيه بعدئذ إلى الأمير فيصل حين تُتوج مساعيه بالنجاح». ينقل نجله، السيد عبدالله شرف الدين، عن الأستاذ ميشال منسى، ابن الأستاذ بشارة منسى، صاحب أول مولّد كهربائي في صور، بأنه كان حاضراً في الاجتماع الجماهيري الذي احتشد في الشارع المؤدي إلى السراي في صور والذي قام فيه السيد بتنصيب الحاج عبدالله يحيى الخليل حاكماً على مدينة صور. نكمل هنا كلام السيد الذي يقول: «ولكنّ قوات الإنكليز أبطلت هذا التدبير الذي رجوناه لمستقبل عربي مستقلّ، إذ اجتاحت في مرورها ما بنينا من هذا الكيان الناشئ ولم تعترف بشيء من هذا الجهد المؤمّل، وبذلك شطب على الخطوة الأولى ومهّد لفرنسا أن تسيطر وتحتل باتفاق مع عصبة الأمم التي كانت توجه السياسة العالمية حينئذ، ولكن ما كان لنا ولسائر المخلصين للدين والقومية الوطنية أن نستكين للقوة مستخذين».
ويقول في مكان آخر: «فكان استقبالنا للاحتلال الفرنسي من أجل ذلك استقبالاً صاخباً محتجاً، يواجهه بالرفض والمصارحة والميل عنه ميلاً لا هوادة فيه و لا لين... وكانت لنا أصوات عريضة أذاعتها عنا صحف بيروت أولاً، ثم تولّت إذاعتها صحف دمشق بعد أن كتمها الاستعمار الفرنسي في بيروت، ثم كانت لنا مواجهات مع المسيطرين من الفرنسيين، كبيكو، وغورو، وشربنتيه، ودلبستر، ونيجر، وقد حضر بعض هؤلاء إلى صور وفاوضنا -دون خجل- في أن تكون لنا الإرادة المطلقة في التعيينات وأسس الحكم المحلي وما إلى ذلك، ولكنا رفضنا هذه المساومة ورددناها».
كما وجّه رسالة إلى الأمير فيصل يدعوه فيها لمطالبة عصبة الأمم بإنهاء الاحتلال الفرنسي في لبنان، وكتب في هذا المجال: «وفي ضحى يوم الثلاثاء 12 ربيع الثاني سنة 1337هـ الموافق 14 كانون الثاني سنة 1919م والدار خالية من الرجال، أقبل فتى من رجال الأمن العام الذين أملى لهم الفرنسيون أن يشتطوا على المسلمين والأحرار من أهل الدين، وأقبل معه رجلان من الجند الفرنسي، وكانوا جميعاً مسلحين فاقتحموا الباب، ثم أحكموا أرتاجه، ودنا أحدهم شاهراً مسدسه، وهو يطلب أن أعطيه التفويض الذي كنا أخذناه من وجوه البلاد، وثائق تخوّل الملك فيصل أن يتكلم باسمنا في عصبة الأمم. وحين أصبح مني على خطوة ركلته في صدره ركلة ألقته على ظهره فسقط المسدس من يده، وأتبعت الركلة بضربات عنيفة بالحذاء في رأسه ووجهه، وعلت صيحة النساء في الدار، فملئت الطريق خلف الباب، فإذا الرهبة تتولى هزيمة الجنديين وصاحبهما مخفقين، وقد كادت الأيدي والأرجل تقضي عليهم».
يكمل بعد ذلك ويكتب شارحاً ما آلت إليه الأمور: «غير أن الفتنة قد استجمعت عناصرها، وهبت ريحها تنذر بالخطر، وتنفخ بوادرها في أطراف البلاد، فكان ما كان من نزوات شوّشت الأمن، وأشغلت الأفكار بأخبار الغزوات والوقائع التي كانت تقع من ناس موقع البشرى والإيناس، وتقع من آخرين موقع الهم والبؤس. إلى أن جاءت رسل الرؤساء من عشائر الفضل في المنطقة الشرقية يحملون لكامل بيك الأسعد رسائل الثورة، ويدعونه إلى خوض المعركة ضد الفرنسيين... فاستمهل كامل بيك الأسعد الرسل لأنه ليس المنفرد بالرأي في عاملة دون العلماء من أولي الشأن، ودون الزعماء الذين لهم كلمتهم ولهم أتباعهم، فلا بد له من أجل يضربه لميعاد يجتمع فيه العلماء والزعماء، ويبحثون هذه القضية على ضوء التفكير والتأمل وهكذا كان». انتهى كلام المقدّس السيد.
في الواقع، إن الرسل الذين توجهوا إلى كامل بيك الأسعد إنما كانوا مكلّفين من قبل الأمير فيصل للطلب من الأسعد الانخراط في مقاومة الفرنسيين تحت قيادته. فاستشار الأسعد السيد شرف الدين وتقرر بأن يتم توجيه الدعوة إلى كل فعاليات جبل عامل للاجتماع في مكان واحد للبت في طلب الأمير فيصل. فتم اختيار وادي الحجير مكاناً للاجتماع لتوسطه بلاد جبل عامل من جميع الجهات ولوجود نبع ماء فيه ولطبيعة المنطقة الجغرافية التي هي محمية بشكل طبيعي من الحملات العسكرية المباغتة. انعقد مؤتمر وادي الحجير يوم السبت 5 شعبان سنة 1338هـ/24 نيسان 1920م. من الشخصيات التي شاركت في المؤتمر نذكر من العلماء: السيد عبد الحسين شرف الدين، السيد عبد الحسين محمود الأمين، السيد عبد الحسين نور الدين، الشيخ حسين مغنية، الشيخ موسى قبلان، الشيخ يوسف الفقيه، الشيخ حبيب مغنية والشيخ حسين سليمان. من السياسيين شارك: كامل بيك الأسعد، عبد اللطيف الأسعد، محمد التامر، محمود الفضل، الحاج إسماعيل الخليل، الحاج عبد الحسين بزي، الحاج خليل عبدالله، سعد الدين فرحات، الحاج توفيق حلاوه، حسن معصا ومحمود مراد. شارك من الأدباء: الشيخ أحمد رضا، الشيخ سليمان ضاهر، الشاعر محمد علي الحوماني والمؤرّخ محمد جابر آل صفا. شارك من الثوار صادق الحمزة، أدهم خنجر ومحمود أحمد بزي، إضافة إلى المئات من أبناء جبل عامل. أهم مقررات المؤتمر كانت: 1- درء الفتنة بين المسلمين والمسيحيين 2- حفظ الأمن في الطرقات 3-رفض وصاية أية دولة أجنبية وإنهاء الاحتلالات الأجنبية كلها ومنح جبل عامل استقلالاً ناجزاً تحت حكومة الملك فيصل.
وشكّل المؤتمر وفداً لكي يذهب إلى دمشق ويطلع الملك فيصل على مقررات المؤتمر. وتشكّل الوفد من السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين على أن يلتحق بهما عند وصولهما إلى الشام السيد محسن الأمين. ولكن أثناء غياب الوفد في دمشق عملت فرنسا على تنظيم هجوم مسلح على قرية عين إبل المسيحية في أقصى الجنوب اللبناني. وكان معظم المسلحين من خارج جبل عامل. وهاجمت هذه الجماعات المسلحة قرية عين إبل في 1920\5\5 أي بعد 11 يوماً من انعقاد مؤتمر وادي الحجير. وعملت هذه الجماعات على تنفيذ القتل والتخريب بحق أهالي قرية عين إبل.
كتب السيد في هذا المجال قائلاً: «وقد كان استياؤنا بهذه الكارثة عظيماً، أزعجنا مظهرها الفوضوي البربري بقسوته التي لا تبيحها شريعة، وأزعجنا بأنها أساءت إلى خطتنا التي أعلناها في الحجير من المحافظة على الأمن، والمبالغة في تأمين النصارى وسائر الأقليات. وهذه هي خطة الفيصل».
على إثر هذا الهجوم جرّدت قوات الاحتلال الفرنسي حملة عسكرية قوامها أربعة آلاف عسكري مسلحين بأسلحة خفيفة وثقيلة ودخلت عن طريق البحر بتاريخ 1920\05\18 إلى مدينة صور وعملت ابتداءً على مهاجمة بيت السيد وأحرقت مكتبته الثمينة ومؤلفاته المخطوطة. واتجهت هذه القوات بعد ذلك نحو بلدة جويا حتى وصلت إلى مدينة بنت جبيل. إلى جانب هذه الحملة، جرّدت فرنسا حملة أخرى اتجهت من صيدا نحو الزهراني والنبطية وتبنين حتى وصلت إلى بنت جبيل. لقد حصلت مواجهات بين المحتلين المهاجمين وبين الثوار في مناطق مختلفة. لقد استطاع صادق الحمزة أن يؤخر الحملة الفرنسية في جويا على رأس ثلاثين مسلحاً. وصدّ أيضاً حوالي مئتي مسلح من مجموعة صادق الحمزة ومحمود أحمد البزي الهجوم الفرنسي في وادي الحريق وفي قعقعية الجسر. أمّا في منطقة المصيلح، فقاومت مجموعة أدهم خنجر الفرنسيين حتى آخر رصاصة لديها. كان الفرنسيون كلما دخلوا قرية يحرقون بيوت العلماء وبيوت الثوار. أحرقوا في بنت جبيل مكتبات الشيخ موسى شرارة والشيخ حسين بزي. وفي شحور هاجمت قوة فرنسية، قدّرها السيد بألف جندي مجهزين بالمدافع الثقيلة والدبابات والمدرعات، زحفت بقيادة الكولونيل نيجر يعيثون دماراً وخراباً في الممتلكات. ويقول المقدّس السيد إن الفرنسيين لم يغادروا قبل أن يحرقوا الدار (دار السيد) ويأسروا أخا السيد وآخرَ من أشراف بني زهرة ويسوقوهما مع عدة من وجوه البلد إلى السجن والتنكيل.
لقد امتدّ الهجوم الفرنسي على جبل عامل حتى 1920\6\20 وفرض المحتلون بعد ذلك غرامة مالية باهظة على الأهالي. لقد لجأ العلماء والثوار، بعد أن استُهلكت الذخيرة العسكرية لديهم، إلى شمال فلسطين وإلى سوريا والأردن. ولجأ المقدّس السيد إلى قرية علما الجيره في شمال فلسطين. وبقيمدة ثلاثة عشر شهراً في المنفى حتى صدر عفو عنه من السلطات الفرنسية. رجع إلى لبنان يوم الجمعة 18 شوال سنة 1339هـ. يقول في هذا المجال: «هبطت بيروت أول ما هبطت من ثغور الوطن، ولقيت فيها الجنرال غورو المندوب السامي، والمسيو ترابو حاكم لبنان الإداري العام، وكان لي معهما حديث لم ينكرا فيه شيئاً من صلابة العودة، ولا قوة الشكيمة، بل جريت فيه على أساس نهضتنا في صراحة ووضوح وإصرار، وقد أبنت لهما خطأهما فيما ارتكباه من تشريد المخلصين من أحرار هذا البلد، اضطررتهما إلى الاعتذار والتواضع، وختمت حديثي معهما بطلب العفو العام عن معتقلي هذه الفتنة فأجابا وأمرا بإخراج المسجونين جميعاً، وفيهم أخي والسيد أحمد الزهراوي وكانا وعداني بالعفو عن صادق الحمزة وإخوانه الثائرين ولكنهما لم يفيا بما وعدا».
هذه هي صورة الوضع السياسي والعسكري للبنان من سنة 1918 حتى سنة 1922م، وهذا هو موقف المقدّس السيد عبد الحسين شرف الدين من الاحتلال الفرنسي.