حتّى يكون النقاش حول الجّيش اللبناني واقعيّاً ومستنداً على حقائق، لا بدّ من التّذكير ببعض العوامل «البنيوية» الّتي لا يمكن تخطّيها: لبنان، بمقدراته الحاليّة وموارده وحجم اقتصاده، لن يتمكّن يوماً من تجهيز جيشٍ من خمسين أو ستّين ألف جندي على الطّريقة الغربيّة، وتحويله الى قوّة مقاتلة فاعلة.
بالمقاييس العالميّة، إنّ جيشاً محترفاً بحجم الجّيش اللبناني يستلزم ميزانيّةً تفوق العشرة مليارات دولار، وهو ما لن نقدر على تأمينه، لا اليوم ولا بعد مئة سنة (الّا اذا غزونا دولةً خليجيّة).
هناك خيارٌ يجب أن يتّخذ، وأمورٌ لا تجتمع سويّة؛ هل الجّيش هو مؤسّسة مقاتلة تتحضّر للدفاع عن حدود لبنان؟ أو هو عبارةٌ عن قوى أمن داخلي معزّزة، مهمّتها فرض سيادة الدّولة على المستوى الوطني؟ ام انّه مؤسّسة ادارية، تستوعب الموظّفين وترفد النّخب الحاكمة؟ في كلّ الأحوال، فانّ النّظرية القائمة اليوم تخالف المنطق البسيط: جيشٌ «محترفٌ» على الورق، بميزانيّة عالمثالثيّة، ولكن عديده يفوق حجم جيشي هولندا وبلجيكا مجتمعين،
النّظام الحالي، بمعنى الفعاليّة العسكريّة، يجمع اسوأ ما في العالمين، فهو يعطينا قوةً مكوّنة من المتطوّعين المتفرّغين، ولكنّها بقدرات جيوش التّجنيد الاجباري؛ أكثريّة العناصر لا تملك تدريباً حقيقياً بالمعنى الحديث، ونصيبها لا يزيد على عشرات الطّلقات التّدريبيّة في السّنة. اضافة الى ذلك، وعلى عكس الجّيوش المحترفة، فإنّ التّطوّع في الجيش اللبناني هو «وظيفة» طويلة الأمد، والجّندي يظلّ في الخدمة حتّى يشيب ويتقاعد، بدلاً من أن يُسرّح بعد سنواتٍ قليلة (كأغلب عناصر الجيوش الغربيّة) وهو ما زال في بداية الشباب ــــ أي قبل أن ينضج ويعقل ويتعلّم أن يخاف من الموت.
لو شئنا الكلام بواقعيّة، ولو كانت النيّة تجهيز جيشٍ فاعلٍ، قادرٍ على الدّفاع عن البلد في وجه هجومٍ اسرائيليّ، فإنّ التّفكير يجب أن يتمحور حول تشكيلٍ عسكريّ من لوائين مقاتلين أو ثلاثة على الأكثر، أي 6-8 آلاف جندي وضابط، مدرّبون على مستوىً عالٍ، مجهّزون بأسلحةٍ حقيقيّة، يملكون نظريّة دفاعيّة، ويتحضّرون باستمرارٍ للحرب. التّاريخ العسكري وتجاربه، وآخرها في العراق، ترينا بوضوح أنّ الحرب صنعة، وليست مظاهر ورسميّات، وأنّ حفنة من المقاتلين الجادّين تهزم بسهولة «جيشاً» من مئات آلاف الموظّفين.