الثري العالمي العابر للقارات هو حاكم ذو سيادة، في استثماراته وفي أدواره وفي نفوذه العالمي. لكنه حاكم غير خاضع للمساءلة أو المحاسبة أو الاستجواب. هو مثل الحاكم في أوروبا قبل الديموقراطيّات. وبروز ظاهرات انخراط أصحاب المليارات في السياسة ظاهرة عالميّة، وتمتدّ من العالم الثري إلى العالم النامي: من برلسكوني إلى رفيق الحريري وأثرياء طرابلس أو ترامب هنا. يخال للناس أن الثري في الحكم قادر على نشر الثروة وبعثرتها في النظام الاقتصادي لتصيبه هو في منزله. وكل هؤلاء الأثرياء يعدون الناس بربيع مقبل من البحبوحة، وما على المواطن المسكين إلا الانتظار (هذا ما أطلق عليه اقتصاديّو رونالد ريغان «القطر من فوق» أي أن مال الأثرياء ينزل بالقطارة إلى الفقراء). ترامب يعتبر أنه وفى بوعده مع أن سياساته الاقتصاديّة كانت معينة للأثرياء من أمثاله. جورج سوروس ظاهرة مختلفة لأنه يطمح للتأثير والنفوذ السياسي من دون طلب تأييد الشعب. هو لن يستطيع أن ينال تأييد الشعب لأنه عالم بمعضلة الليبراليّة في الغرب والشرق. لم يعد جورج سوروس ظاهرة غربيّة. هو ظاهرة عالميّة تتعدّى نطاق الحدود. الثروة تفتح الأبواب في مجتمع ودولة ما، كما أنها تفتح الحدود والسدود في تدليل على صواب النظريّة الماركسيّة عن الطبيعية الطبقيّة للحكم. لم نكن لنتحدّث عن جورج سوروس وأفكاره لو كان فقيراً معدماً. الثري يستطيع أن يؤثّر ليس فقط بفضل أمواله وشرائه للإعلام بل بفضل حصوله على التغطية الإعلاميّة المجانيّة. لم يكن دونالد ترامب يحتاج أن ينفق من ماله الخاص عندما خاض غمار الانتخابات للمرّة الأولى لأن شهرة ثروته جلبت له شهرة تكلّف أموالاً طائلة للشخص العادي.

مؤسّسات سوروس عاملة في أكثر من 120 دولة في العالم، والعدد في ازدياد. هو بارز في الشرق الأوسط وهو يمعن في شراء وتأسيس إعلام باللغة العربيّة («إعلام مستقل» طبعاً لأن الإعلام الذي يحظى بتمويل حكومات حلف شمال الأطلسي أو سوروس يكون مستقلاً). ما فعله سوروس في أوروبا الشرقيّة (وبالتوافق التام مع مشاريع الحكومة الأميركيّة وأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة) يفعله في عالمنا العربي. يريد، حسب فلسفته، أن «يفتح مجتمعنا» لأنه لا يحب الانغلاق. هكذا تعلّم من الفيلسوف الرجعي، كارل بوبر، مُلهمه في دراسة الفلسفة في بريطانيا.
لكن لا يمكن لنا الحديث عن سوروس من دون التوضيح. يحقّ لنا الكلام عن سوروس، ويحقّ لنا توجيه النقد إليه وإلى أعماله، من دون تلقّي الاتهام بمعاداة السامية. اسمحوا لنا، رجاءً. والأمر يحتاج إلى شرح. صحيح، هناك جهات يمينيّة في الغرب تكيل الاتهامات لسوروس من منظور معاداة السامية (هي معاداة اليهوديّة لكنها معروفة في الغرب بمعاداة السامية). في المجر، البلد الذي يتحدّر منه سوروس، هناك جهات تتحدّث عنه من المنظور الكلاسيكي لمعاداة السامية وهي (أي معاداة السامية) عريقة في أوروبا الشرقيّة والغربيّة على حد سواء. لكن ليس كل نقد لسوروس هو من منظور معاداة السامية. وللأمانة، هناك جهات يمينيّة في الغرب تكيل الاتهامات لسوروس من منظور معاداة معاداة السامية، وليس من منظور معاداة السامية. هناك من يذكِّر أن سوروس نفسه معادٍ لليهودية أو أنه معادٍ لذاته بحجّة أنه لجأ مع عائلته إلى تغيير هويّته في الحرب العالمية الثانية وعاش في المجر مستفيداً من هويّة أخرى مسيحيّة اقتناها بالمال من شخص مسيحي. كان صبياً عندما عمل لصالح موظّف متعامل مع النازيّة لكن لا يمكن تصديق روايات يمينيّة أنه كان مسانداً للحكم النازي في عمره المُبكِّر. يعترف سوروس أن علاقته مع الدين لم تكن سويّة وهو ملحد مع أنه لا يستفيض في الحديث عن ذلك. الخلاصة أن هناك فئات رجعيّة في الغرب تفضّل أن تعيّر سوروس بيهوديّته كما أن هناك فئات رجعيّة تعيّر سوروس بكراهيته لليهوديّة، حسب زعمهم.
هل أن سوروس يصبح منزّهاً عن النقد لأنه يهودي؟ يكون ذلك معاداة للسامية بحد ذاتها لأنه يعطي اليهود حقاً أو أفضليّة غير متوفّرة لسواهم. الملياردير الأميركي شلدون أدلسون كان من أبرز مموّلي الحزب الجمهوري واليمين في أميركا، ولا تزال أرملته ناشطة في التمويل السياسي. والليبراليّون في أميركا، هؤلاء الذين يساوون بين نقد سوروس من أي جهة ومعاداة السامية، لا يتورّعون عن التعريض بأدلسون واتهامه بتخريب الحياة السياسيّة الأميركيّة. يمكن نقد الرجليْن لكن من دون التعريض بدينهما. وسوروس في المقابل بات من أبرز مموّلي الحزب الديموقراطي والقضايا الليبرالية في أميركا، فلماذا يُحرّم نقده فيما يُحلّل نقد الملياردير اليميني إدلسون؟ هنا نرى أن السياسة دخلت في إصدار أحكام معاداة السامية من قبل أطراف ليبرالية مستفيدة من تمويل سوروس نفسه، ومن مصلحتها المالية تحريم نقد سوروس. ونجد هذه النزعة في الإعلام «المستقل» (أي إعلام محلّي مُمَوَّل من حكومات دول حلف شمال الأطلسي ومن جورج سوروس، وهذا الإعلام ينتشر مثل النار في الهشيم في العالم العربي وغالباً ما يتلقّى التنويه والمديح من أجهزة الحكومة الأميركيّة التي باتت تطلق عليه صفة «الإعلام البديل»). وهذا الإعلام (المستفيد من تمويل سوروس مع منظمات مدنيّة «مستقلّة»، بالتعريف نفسه الوارد في أدبيّات وزارة الخارجيّة الأميركية، أي الإعلام المتوائم مع أجندتها) بات يدافع عن سوروس من منظوريْن اثنيْن: 1) المنظور الأوّل، أنه ممنوع نقد سوروس لأن نقده يعني معاداة السامية. 2) المنظور الثاني، أن سوروس يتعرّض للنقد من قبل «إسرائيل». لا، غير صحيح أن سوروس يتعرّض للنقد من قبل «إسرائيل». سوروس حليف للجناح الوسطي والليبرالي في إسرائيل، وهو معادٍ لنتنياهو بحدود معيّنة، لأنه كان من أشدّ المعجبين بـ«إصلاحات» نتنياهو المالية التي قضت على الجوانب الاشتراكيّة (المُبالغ في تصنيفها) في الاقتصاد الإسرائيلي. إن أسباب تمنع سوروس عن الاستثمار في إسرائيل قبل الثمانينيات والتسعينيّات تعود لمعارضته التوجّه الاقتصادي للحكومة. هذا رجل تعني له الحريّة حريّة رأس المال، وليس أكثر. ومفهومه عن «المجتمع المفتوح» يحتاج هو الآخر إلى مناقشة. إن نقد إسرائيل لسوروس ليس من باب أنه معارض لإسرائيل بالضرورة بل من باب تفضيله جناحاً صهيونياً على آخر. إنّ نقد نتنياهو له لا يجعله وطنيّاً فلسطينيّاً، كما أن نقد نتنياهو لباراك أوباما لا يجعله مناصراً للحق الفلسطيني. بهذا، نستطيع أن ندخل في الموضوع المطروح. ماذا يريد سوروس من العالم؟
يطرح سوروس مشروعه من خلال تنظيمات «المجتمع المفتوح» التي ينشرها حول العالم. وفي بداية انطلاق مشروعه في الشرق الأوسط قبل سنوات عديدة، اتصل بي مدير له وطلب منّي كتابة مقالة أو أكثر لهم. استفسرت منه عن فريق العمل وعلمتُ أن مستشارهم الأساسي في منطقة الشرق الأوسط ليس إلا معلّقاً لبنانيّاً في صحف أمراء آل سعود. أدركت حدود المشروع الليبرالي. وأخذ سوروس عن كارل بوبر التصنيف البليد الذي يفصل بالقاطع بين «مجتمع مغلق» الذي يعني الدول الشيوعية والحكم النازي، وبين الدول الغربيّة المتمتّعة بـ«المجتمع المفتوح». وهذا الفصل يتوافق مع الاتجاه العام للسياسة الأميركيّة الخارجيّة والذي يسمح بضم نظم استبداديّة إلى معسكر «الحريّة» فقط لأن التحالف مع أميركا ضد الشيوعية يُضفي لمسات من الحريّة على المُستبدّ. لكنّ سوروس ينظّر في ضرورة دعم «المجتمع المفتوح» المفترض ويقول إن الشك والتشكيك هما من سمات المجتمع المفتوح، بينما ينعدم الشك والسؤال في المجتمعات المغلقة. لكن عمل سوروس في الدول الاشتراكية في الحرب الباردة دليل على بطلان نظريّته. يمكن عكس معادلة سوروس: التشكيك مُرجَّح أكثر في الأنظمة التي يُسمّيها مغلقة، وهو أقلّ بروزاً في الأنظمة التي يسمّيها مفتوحة. الخطر الحقيقي يكمن أن الترويج لفكرة «المجتمع المفتوح» يزرع الأوهام حول سيادة الحريّة في المجتمع، ما يقضي على الحاجة للتشكيك. وكيف تكون المجتمعات مفتوحة في ظل 17 جهازاً استخبارياً في أميركا وحدها، وبوجود شبكة من التجسّس الإلكتروني والبشري حول العالم من قبل الحكومة الأميركيّة؟ العالم أصبح مغلقاً بسبب العولمة الأميركيّة التوجُّه. وكيف نمت حركات الانشقاق والمعارضة في أوروبا الشرقيّة إذا كانت تلك المجتمعات مغلقة؟ على العكس، نحن نعلم اليوم الكثير عن حركات معارضة في داخل المنظومة الاشتراكيّة لكن حجم تلك الحركات تضخّم ونما بفعل تدخل أجهزة المخابرات الغربيّة والكنيسة وأمثال جورج سوروس نفسه. ثم معلّم سوروس، كارل بوبر، يحذِّر في كتابه الشهير (المجتمع المفتوح وأعداؤه) من «التسامح اللامحدود» ويقول إن هذا النوع من التسامح يؤدّي إلى زوال التسامح. ويلجأ بوبر إلى أساليب الأنظمة القمعيّة نفسها التي يزعم أنه ينبذها عندما يقول إنه من حق «المجتمع المتسامح» (أي «المفتوح») أن يدافع عن نفسه (بالقوة المسلّحة؟) ضد غير المتسامحين. لكن مَن يعرّف عدم التسامح ومن يقوم بمهمّة محاربة عدم التسامح؟ الدولة؟ أي دولة؟ سوروس مثلاً كان يعتبر أن نظام بورس يلستن الفاسد والقمعي هو مفتوح، لكن بمجرّد أن بدأت الحكومة الروسية في معارضة التوجّهات الأميركيّة حتى انغلق المجتمع الروسي، بنظر سوروس. معايير سوروس (مثل معلّمه) هي سياسيّة غير علميّة ويمكن أن تلين إذا كان ذلك في صالح الحكومة الأميركيّة. في كل ما جرى في أميركا بعد 11 أيلول، وبعد ظهور حالات لاضطهاد مسلمين أبرياء في كل العالم من قبل الحكومة الأميركية، لم يجد سوروس ما يعارضه غير عبارة بوش الشهيرة: «إذا لم تكن أنتَ معنا فأنتَ مع الإرهابيّين». اعتقال المئات من المسلمين الأبرياء في أميركا (بمن فيهم الكوميدي اللبناني، السابق، سلام زعتري) لم يعكّر صفو حرص سوروس على المجتمع المفتوح.
في بداية انطلاق مشروعه في الشرق الأوسط قبل سنوات عديدة، اتصل بي مدير له وطلب منّي كتابة مقالة أو أكثر لهم. استفسرت منه عن فريق العمل وعلمتُ أن مستشارهم الأساسي في منطقة الشرق الأوسط ليس إلا معلّقاً لبنانيّاً في صحف أمراء آل سعود. أدركت حدود المشروع الليبرالي


مشروع سوروس هو دعم حركات سياسيّة لا تحظى بشعبية والتأثير على المجتمع بالمال من أجل أن يؤيّدها. هو يعطي أفضليّة لحركات تتوافق مع توجّهات الإمبرياليّة والصهيونيّة أو المناصرة لإسرائيل لأنه لا يعرّف عن نفسه أنه صهيوني، وسنعود لذلك. الليبرالية العربيّة مثلاً لا يمكن أن تفوز بانتخابات وكان ذلك من خيبات وولفوويتز وفؤاد عجمي وكنعان مكيّة. كان افتراض هؤلاء أن الانتخابات الحرّة ستأتي بأمثال الرجعيّ الصهيوني، مكيّة ومثال الآلوسي في العراق. وهذا سبب معارضة أميركا للانتخابات الحرة للعراق قبل أن تخضع لإصرار السيستاني. سوروس بات أكبر داعمي الحزب الديموقراطي. هو يستخدم المال لترجيح كفّة جهة سياسيّة على أخرى، وهذا تماماً ما يفعله الصهيوني الآخر، شلدون أدلسون أو الأخوان كوك في المقلب السياسي الآخر. مال الأثرياء ليس ديموقراطياً لأنه يفضح الأحجام المختلفة بين مواطن وآخر بناءً على حجم الثروة. لكنّ قدرة الأثرياء على اختراق الحدود للتأثير على الانتخابات في كل دول العالم هي جانب جديد من الحياة السياسية في الدول النامية. كانت الدول الغربية تتدخّل بالمال والسلاح في كل انتخابات دول العالم الثالث (لبنان أكبر مثال حيث تدخّلت أميركا بقوّة في انتخابات 1957 و1968 و1970، الرئاسيّة، و1972). اليوم يتدخّل أثرياء مثل سوروس وجمعيّات مموَّلة من حكومات حلف شمال الأطلسي للتأثير في الانتخابات ولصنع ثقافة سياسيّة جديدة في البلاد. الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان هي نتاج لهذه التأثيرات. وسائل الإعلام «المستقلّة» التي يفرّخها سوروس وحكومات الأطلسي ما كان يمكن أن تحظى بفرصة التمويل الذاتي لأن برنامجها يتناقض مع المزاج العام. لا يمكن مثلاً أن تكون وسيلة إعلام تفترض أن لا نظام استبدادياً في كل العالم العربي إلا واحد لأنه ليس على وئام مع إسرائيل. وقضيّة رجل يهودي واحد في مصر تشغل إعلام سوروس أكثر مما يشغله إلقاء القبض على مواطنين في المغرب وغيره بتهم نشر التشيّع. والمصري اليهودي الذي كُتب عنه مقالات في الأسابيع الماضية حظي بتغطية في هذا الإعلام أكثر مما حظي منه خضر عدنان. نسبة تغطية احتجاجات إيران تفوق بنسب 1 إلى 10، أو أكثر بكثير، في وسائل إعلام سوروس. للرجل أجندة وهو يعرف ما يفعل.
يتحدّث سوروس كثيراً عن المجتمع المفتوح. حسناً، لنأخذ موقفه من إسرائيل. هو كان يعترف أنه ليس صهيونيّاً لكن لا ضرورة لأن يكون المرء صهيونيّاً لخدمة مصالح إسرائيل. معظم الرؤساء الأميركيّين لم يعرّفوا عن أنفسهم أنهم صهاينة (قد يكون جو بايدن أول رئيس أميركي يعرِّف عن نفسه بأنّه صهيوني). لكن سوروس يعترف في مقالته في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» أنه تمنّع عن نقد إسرائيل على مرّ السنوات والعقود كي لا يفيد أعداء إسرائيل. يقول بالحرف: «لقد امتنعتُ في الماضي عن نقد إسرائيل. أنا لستُ صهيونيّاً، ولست ممارساً في اليهوديّة، ولكنْ لديَّ تعاطف كبير مع إخوتي اليهود ولديّ اهتمام عميق بقدرة إسرائيل على الحياة. لم أكن أريد أن أمدّ أعداء إسرائيل بمواد (تفيدهم)» (راجع مقالته «عن إسرائيل وأميركا وإيباك»، في عدد 12 نيسان 2007 من «نيويورك ريفيو اوف بوكس»). لكن عندما انخرط ابنه ألكس في اكتشاف يهوديّته والتعمّق فيها نصحه أبوه بالهجرة إلى إسرائيل. وقد أعطى سوروس (الأب) ضرورة الهجرة إلى إسرائيل كواحد من شروطه لنيل حق نقد إسرائيل. وهو يختلف مع إسرائيل في الموضوع الاقتصادي (قبل «إصلاحات» نتنياهو الرأسمالية) وفي موضوع السلطة الفلسطينيّة. من شروط مجتمع سوروس المفتوح في فلسطين أن تتفاهم حكومة إسرائيل مع سلطة محمود عبّاس التي يرى فيها تحقيقاً لكل شروط الانفتاح والليبراليّة التي ينشرها بيننا. ومفهومه في نشر الليبراليّة لا يختلف عن أسباب احتضان الإعلام والحكم السعودي والإماراتي لليبرالية العربيّة لأنهم يريدون سداً بوجه حركات المقاومة ضد إسرائيل وضد الإسلاميّين الذين يشكّلون معارضة قويّة في البلدين. مشروع «المجتمع المفتوح» واضح في الإعلام والمنظمات التي يموّلها سوروس في العالم العربي: نبذ مقاومة إسرائيل وتأييد «معسكر السلام» (غير الموجود) في إسرائيل ونقد فقط المنحى اليميني في حكومات إسرائيل، أي تأييد الوسط. سوروس مثلاً لم يعارض حكومة إسرائيل قبل أرييل شارون. شارون حادَ عن مسار سياسي كان سوروس لا ينتقده، على الأقل في العلن.
لكنّ أسلوب عمل سوروس يتخطى الشرق الأوسط. إنّ بداية عمل سوروس (راجع كتاب روبرت سليتر عن جورج سوروس) بدأ في أوروبا الشرقيّة ومن خلال سياسات حلف شمال الأطلسي في محاربة الأنظمة الشيوعيّة. هذا كان أوّل انخراط علني لسوروس في الشأن السياسي. وكان سوروس يقفز عبر الحدود للعمل السري، بالتنسيق مع الفاتيكان والحكومة الأميركيّة، لتهريب الأموال والمعدّات الإلكترونيّة وأجهزة التواصل للتخريب على الحكومات الشيوعيّة. هذا تماماً ما يقوم سوروس وغيره بعمله اليوم في التحريض على الأنظمة المعارضة لأميركا وإسرائيل. وليس صدفة أن وسائل الإعلام والجمعيّات المُمَوَّلة من سوروس تتجاهل أنظمة الخليج بالكامل، لا بل إن لهجتها لطيفة معها بسبب التطبيع مع إسرائيل ولأن حكام الخليج حلفاء أميركا وإسرائيل. وقد جنّد سوروس شبكة من المعارضين والمنشقّين ضد الشيوعية (والكثير منهم صهاينة) ووظّفهم في جمعيّته «المجتمع المفتوح». وأجندة حلف شمال الأطلسي ضد روسيا هي مشروع عبّر عنه سوروس مبكراً في مقالة كتبها في عام 2015 في مجلّة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (عدد 8 أكتوبر 2015، بعنوان «أوكرانيا وأوروبا: ماذا يجب عمله»). ومشروعه يشدّد على انخراط أوكرانيا في المجموعة الأوروبية وعلى نجدة الحكم الأوكراني الموالي للغرب بحزمة منح ومساعدات لتحصينها في الحرب ضد روسيا. ويُنوِّه سوروس مبكراً في تلك المقالة بعمله في البلاد خلال الانقلاب إذ يقول: «أنا في موقع قوي في المحاججة (عن أوكرانيا) بسبب معرفتي الحميمة بأوكرانيا الجديدة (أي الخاضعة لحكم حلف شمال الأطلسي) من خلال عمل مؤسّستي الأوكرانيّة وتدخلي أو تورطي في البلاد». وليس صدفة أيضاً أن سوروس من أبرز المحرّضين على الصين في هذه الأيام بالتزامن مع إجماع أجهزة الأمن والعسكرتاريا في أميركا على تنامي الخطر الصيني، ليس على البشرية أو السلام العالمي وحسب بل على السيطرة الأميركيّة الكليّة على العالم. هو لجأ إلى الأسلوب الرخيص في عام 2022 عندما قارن بين استضافة الصين للألعاب الأولمبية واستضافة برلين للألعاب في عام 1936. وبابتذال بات معروفاً عنه، يقول سوروس مهتدياً بمعلّمه بوبر: «في المجتمع المفتوح، يكون دور الدولة هو حماية حرية الفرد، بينما في المجتمع المغلق، يكون دور الفرد خدمة حكام الدولة». وهذا التعريف يتجاهل خروق حريّات الفرد من قبل المجتمعات المفتوحة وخدمة الفرد الفقير وصحته وتعليمه من قبل «المجتمع المغلق»، كما جرى في عصر عبد الناصر وفيديل كاسترو. حريّة الفرد عند سوروس تكمن في حريّة حركة رأس المال الغربي للتأثير السياسي والربح الاقتصادي. لهذا السبب، تخشى منظمة سوروس وحكومات حلف شمال الأطلسي من صعود حركات المطالبة بسنّ قوانين لمنع التمويل الخارجي للإعلام والمنظمات المدنية حول العالم لأن ذلك نسق من أنساق الهيمنة الإمبرياليّة.
لم نعد نتحدّث عن مؤامرة خافية للعيان وعن صعوبة انتظارنا لنشر الوثائق الدبلوماسيّة بعد ثلاثين سنة أو أكثر. المؤامرة كشفت عن وجهها وهي تعلن مقاصدها بصريح العبارة. يكفي أن نتابع تغريدات السفير الألماني في بيروت أو أن نصنّف القيم السياسيّة التي تبثّها وسائل الإعلام المُمَوَّلة من سوروس كي نتبيّن معالم المؤامرة الواضحة وطبيعة المعركة المحمومة من قبل حلفاء إسرائيل في الغرب. تسنّى لأطراف المؤامرة أنفسهم تقويض الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقيّة وهم لا يسعون لقلب أنظمة حكم في بلادنا. لا، أنظمة الاستبداد «المغلقة» (بتعريفهم) لا تزعجهم بل تزعجهم فقط حركات مقاومة إسرائيل. وإذا كان الانفتاح يعني التحالف مع الصهيونيّة، فيا مرحباً بالانغلاق ولو أزعج سوروس وصحبه.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@