بإمكاني القول بصراحة، إن صادق جلال العظم كان الماركسي الأكثر احترافية في إخفاء ماركسيّته والظهور بحلّة ليبرالية ثقافوية يكرهها القارئ. ربما قد عمل العظم طوال حياته العملية بناءً على مبدأ ضرورة الصراحة الفظّة وعدم تملّق الطبقات الشعبية، إلا أنه كان مخطئاً، فحتى بشاشة وجه الدعوي الإسلامي مكسب للدعوة. العظم قال العديد من الأشياء البورجوازية والتعميمية وغير العلمية والاستشراقية والتي أخفت الصحيح مما قال. على سبيل المثال، هنالك فصول في كتاب «النقد الذاتي ما بعد الهزيمة» يتحدث فيها العظم عن ضرورة التطوير الصناعي وعن ضرورة الاستكمال في المشروع الاشتراكي العربي في سوريا ومصر. الفكرة الأساسية هنا أنه حتى شخص واجب نقده مثل العظم لم يرَ في الحريات الاجتماعية غايةً بحدّ ذاتها، بل وسيلة من أجل مشروع أممي تحديثي جامع.هذا ليس ما ستجده عند الليبراليين العرب المعاصرين الذين يرون في الحريات الاجتماعية هدفاً بحد ذاته. على سبيل المثال، ستجد نفسك ترفع القبّعة لجلال العظم وأدونيس، على علّاتهما، بعدما تقرأ مقال حفيد عمر الشريف، عن هجرته «القسرية» إلى الولايات المتحدة في عام 2012 (في رحلة شجاعة لتقرير المصير، على حدّ تعبيره) بعد وصول الإسلاميين إلى مجلس الشعب خوفاً من اضطهاده لهويّته اليهودية والمثليّة، وأنه بات، بشكل ضمني، يفضّل مصر ما قبل الثورة التي كان فيها شيء من الحرية الجنسيّة (حرفياً يشتكي عمر الشريف الابن من أن رجلاً في القاهرة صرخ عليه لأنه مارس الركض من دون قميص، وقال له إن هذا بات ممنوعاً في مصر ما بعد الثورة).
هنالك عادة سيئة عند الليبراليين العرب، وذلك عند اتهامهم بأن أفكارهم بورجوازية، تجدهم يردّون: «وماذا عن البورجوازيات الإسلامية في جنوب لبنان وبورجوازيات التجار المحافظين اجتماعياً في مدينة الخليل في فلسطين؟ أليست بورجوازيات؟» هذه «الماذا - عنية» تخفي مرحلة الثورة البورجوازية الحالية والمستمرة منذ ستينيات القرن الماضي.
قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، نشر المفكر الإيطالي أوغستو ديل نوتشيه مقالاً بشأن جذور الانهيار الممتدة منذ الثورة الجنسية الغربية في الستينيات، حيث وصفها بالثورة البورجوازية الأخيرة بعد الثورات الجمهورية، الدستورية، الديموقراطية، القومية، الاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بحيث هيأت هذه الثورة الجديدة لمشروع تحريف المسار عن الانتقال إلى الاشتراكية والانتقال عوضاً عن ذلك إلى الرأسمالية الجديدة، والتي تتبنى بعضاً من مادية الماركسية وإلحادها من دون تبنّي رسالة الماركسية التحررية وقدرتها على تخليص البشرية من الاغتراب.
في معرض نقده لهذه الثورة البرجوازية، يقول الأكاديمي الماركسي-اللينيني كريس كاتروني: نحن لسنا في نزاع من أجل حريتنا ولم يكن كذلك لينين، فقد فهم أن الثورة لم تكن من أجل تحرره الشخصي أو من أجل تحرر جيله، أما ثورة جيل الستينيات فهي طفولية لأنها كانت من أجل تحرر الثائرين ذاتهم، مما أنتج جيلاً نرجسياً لم يكترث للعالم الذي تركوه للأجيال المقبلة.
من دون هذا الفهم للطبيعة البورجوازية للثورة الجنسية، يعجز الليبراليون العرب، حلفاء الأممية الجنسية والجندرية، عن تفسير سبب الحنق الشعبوي العالمي ضد هذه الحركات، تماماً كما يعجز الشعبويون عن الوصول إلى تفسير لحنقهم ذاته من دون الدخول في نطاق نظريات المؤامرة. شعور أغلب الناس بالاغتراب ليس مردّه الرهاب من الأممية الجنسية والجندرية، بل مردّه واقع يجعل هذه الأممية الحركة الجماهيرية الوحيدة القابلة للحياة في ظل النظام النيوليبرالي بعد تصفية الحركات الجماهيرية الأخرى كافة.
عندما نشرت منصّة «متراس» مقالاً معادياً للأمميّة الجنسيّة والجندريّة... وجدت نفسي في بيئة هستيرية لشخصيات و«نفسيات» من الطرفين فاقدة الاتصال بالواقع (شخصيات تشبه الشخصية الثورية المدينية المنفرة في بيروت ما بعد 2019)


وهذا الواقع ليس ناجماً عن مؤامرة أو تواطؤ، بل هو تناقض طبيعي من تناقضات المجتمع الرأسمالي، تناقض أدركه العديد من المثليين في الولايات المتحدة، فانقسمت ردة فعلهم بين اللجوء إلى تقاطعية رمزية تتظاهر بمناهضة العنصرية والاستعمار والاستغلال الطبقي (مع الإبقاء على التحالف مع الحزب الديموقراطي)، وبين اللجوء إلى الشعبوية اليسارية المعادية للمؤسسة الأميركية بشقّيها.
هؤلاء الشعبويون اليساريون رفضوا نظام الحماية والوصاية الذي فرضه الحزب الديموقراطي على موضوع الحرية الجنسية والذي يشبه نظام الحماية والوصاية الاستعمارية على حقوق القبائل والطوائف. كما رفض هؤلاء جعل حقوقهم رهينة الصقور من المحافظين الجدد والليبراليين الدوليين الذين أرادوا بناء إمبريالية «الألوان» بعد أفول إمبريالية الحرب على الإرهاب. لا يعرف العرب الليبراليون الذين يرفعون شعارات الحقوق الجنسية والجندرية شيئاً عن غلين غرينوالد، المعادي للإمبريالية الأميركية والذي يصدف بأنه مثلي، وتيم ديلون، الكوميدي الشعبوي الساخر من اليسار الثقافي والذي انتقد إسكات الفلسطينيين في أميركا، والذي يصدف بأنه مثلي، وكريس كاتروني، الأكاديمي الماركسي اللينيني الذي لا يرى في التقاطعية بديلاً من الاشتراكية، والذي يصدف كذلك بأنه مثلي.
عادة ما يتعرض الليبراليون العرب للانتقادات بأنهم غير واقعيين وأن تحقيق هدف التحرر الجنسي، وبالأخص في العالم العربي، هو هدف مثالي. على العكس من ذلك تماماً، إذا كانت الأممية الجنسية والجندرية هي الحراك الجماهيري الوحيد القابل للحياة في ظل النظام النيوليبرالي، فهذا يجعل هؤلاء الليبراليين العرب المتحالفين معها أكثر واقعية وعقلانية من غيرهم.
بعد دحر المقاومة للغزو الإسرائيلي في عام 2006، شكل الانتصار فرصة إعادة بناء حركة جماهيرية عربية عابرة للحدود تتخلص من آثار الهزيمة، وكان هنالك العديد من الليبراليين العرب الذين أرادوا الاستقواء بتلك اللحظة (هنالك صديق لي، لن أذكر اسمه، صاغ نظرية عجيبة تستلهم التمرد والثورة من حزب الله وجاد شويري في الوقت ذاته)، لكن بعد أفول الانتفاضات العربية في العقد السابق، استسلم العديد من هؤلاء الليبراليين لفكرة حصرية الأممية الجنسية والجندرية كحركة جماهيرية ورأوا في هذه اللحظة فرصة للاستقواء (وتسلّق السلّم الوظيفي والتشبيح) من مشروع تحرري عالمي، ليس المهم ما هو المبتغى تحريره، بل المهم أن هنالك تحريراً أي «فشة خلق» من نوع ما.
عندما نشرت منصة «متراس» الفلسطينية مقالاً معادياً للأممية الجنسية والجندرية، عدت إلى وسائل التواصل الاجتماعي بعد إغلاق طويل للحسابات، أردت أن أستكشف نقاشات جيل الزاي الفلسطيني من الطبقة الوسطى في رام الله وحيفا وجامعة بيرزيت، ومدى تمسكهم بالأممية الجنسية والجندرية كطريق تحرري أو نفورهم منها، فوجدت نفسي في بيئة هستيرية لشخصيات و«نفسيات» من الطرفين فاقدة الاتصال بالواقع (شخصيات تشبه الشخصية الثورية المدينية المنفرة في بيروت ما بعد 2019)، شخصيات نرجسية تظن نفسها في خضم خلافات حضارية كبرى كخلاف «درايفوس» في فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر وخلاف سلمان رشدي بين الجنوب والشمال العالميين. جعلني هذه النقاش الكئيب أدرك كم يتعطش جيل الزاي إلى فتات أي حركة جماهيرية في صحراء سياسة القرن الحادي والعشرين.
ذكّرتني تصفية الوعي التاريخي هذه بما قاله صديق من بلاد الباسك في شمال إسبانيا في عام 2013 والذي أكد لي نظريتي بشأن الأزمة المعرفية القائمة على هوس باحث الاجتماع الأوروبي الكولينيالي بثلاثية الجنس والإلحاد والتطبيع لدى دراسته الشباب العرب. حينها قال لي تفسيره للانتفاضات العربية: «الشباب العرب لم يعودوا يذهبون إلى المسجد، وباتوا يرتادون الديسكو». ذكّرني هذا التفسير الساذج في حالنا نحن متخصّصي العلاقات الدولية المشابه لحال علي شريعتي... الإسلاميون خريجو العلوم والهندسة يكفّروننا، والليبراليون خريجو الفن والدراسات الثقافية ينعتوننا بالرجعية.
ردّي على صديقي الباسكي كان دبلوماسياً: «قبل الذهاب إلى المسجد وقبل الذهاب إلى الديسكو، علينا الذهاب إلى المكتبة».

* كاتب وباحث فلسطيني