عام 1455، وفي وقت لم تكن السلطة الدينيّة في أوروبا منفصلة عن الدولة، أعلن البابا نيقولاوس الخامس، اعتماداً على «كامل السلطة الرسوليّة» بحسب الإعلان نفسه، مباركته لملك البرتغال ألفونسو أن يقوم بالتالي: «غزو، وبحث عن، وأسر، وقهر، وإخضاع كلّ المسلمين والوثنيين، وغيرهم من أعداء المسيح أينما كانوا، وكلّ ما يمتلكونه من ممالك، ومقاطعات، وإمارات، وممتلكات، وجميع السلع المنقولة وغير المنقولة التي في حوزتهم أيّاً كانت؛ واختزال أشخاصهم إلى العبودية الدائمة، وأن يأخذ [الملك] منهم تلك الممالك والمقاطعات والإمارات والممتلكات والسلع وينسبها إلى نفسه وخلفائه، ويجعلها في خدمته وخدمة خلفائه ولأجل مصلحتهم...» (مرجع 1 و 2).هذا الإعلان، بالإضافة إلى إعلان آخر سبقه للبابا نيقولاوس نفسه، وإعلان لاحق للبابا ألكسندر السادس عام 1492، شكّلوا ما يُعرَف بـ«عقيدة الاكتشاف» التي أعطت التسويغ الدينيّ، الذي يحمل قوّة القانون وقتها، لعمليّات القتل والنهب والتدمير والإبادة الجسديّة والثقافيّة التي مارستها الدول الأوروبيّة على الشعوب الأخرى حول العالم؛ هذه العمليّة التي ما زالت تتابعها تلك الدول مع أميركا وكندا، بشتّى الطرق اليوم بتسويغ شعارات علمانيّة مثل «العالم المتحضّر»، و«العالم الحرّ»، و«الدفاع عن حقوق الإنسان».
سررنا يوم الخميس الماضي عندما أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ عقيدة الاكتشاف باطلة، وأنّها لم تكن يوماً جزءاً من عقائد الكنيسة الكاثوليكيّة. يأتي الإعلان هذا بعد ثمانية أشهر من مطالبة السكّان الأصليّين في كندا من جديد الكنيسة الكاثوليكيّة بإبطال تلك العقيدة، خلال زيارة البابا فرنسيس يوم طلب المغفرة من أصحاب الأرض الأصليّين، معترفاً عن مسؤوليّة الكنيسة الكاثوليكيّة في تنفيذ برنامج الإبادة الثقافيّة للسكّان الأصليّين الذي خطّطت له ونفّذته الحكومة الكنديّة بمساعدة الكنائس حتّى منتصف تسعينيات القرن العشرين! برنامج الإبادة الثقافيّة ذاك كان يقوم على إجبار السكّان الأصليّين (تحت طائلة السجن إن خالفوا) بإرسال أولادهم الصغار ليعيشوا في مدارس داخليّة تديرها الكنيسة الكاثوليكيّة والكنيسة البروتستانيّة حيث يتمّ التدمير الممنهج للشخصيّة الأصليّة ومحو الهويّة (منع اللغة الأصليّة، منع العادات والتقاليد)؛ وقد أنتج البرنامج آلاماً نفسيّة مبرحة، ودماراً كبيراً في العائلات، وخراباً اجتماعيّاً لا يزال السكّان الأصليّون يعيشون آثاره حتّى اليوم، لكثرة ما رافقه من تعذيب وتحرّش وقتل لآلاف من الأطفال الذين وضعت جثثهم بكلّ سرّية في مقابر في الأراضي المحيطة بالمدارس الداخليّة (رجاء عندما يتحدّث أمامكم سفير كندا في لبنان عن حقوق الإنسان، أو تجرّأ أوروبيّ عن التلميح إلى «عنف» الإسلام، أعينوه بمرآة).

لا يسعنا إلّا أن نرتاح لخطوة الكنيسة الكاثوليكيّة هذه وللخطّ المتواضع الذي رسمه البابا فرنسيس منذ وصوله إلى خدمة البابويّة، هذا البابا الذي تفتقد وجود أمثاله الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. على رغم ذلك، تحتاج الكنيسة الكاثوليكيّة إلى خطوات أخرى عديدة لإجراء مصالحة فعليّة واقعيّة مع السكّان الأصليّين. فوثائق مدارس الإبادة الثقافيّة تلك هُرِّبَت من كندا إلى روما ولا مجال للحصول عليها حتّى الآن (مرجع 3)؛ والتعويضات التي حكمت بها المحاكم في كندا (25 مليون دولار، وهو مبلغ زهيد) والتي ألزمت بها الكنيسة الكاثوليكيّة التي كانت تدير 70% من مدارس الإبادة الثقافيّة لم تُدفَع للمتضرّرين حتّى الساعة، بينما دفعت في المقابل الكنائس البروتستانتيّة مبلغ 9.2 مليون دولار كانت متوجّبة عليها.
الخميس الماضي أشار إعلان بطلان «عقيدة الاكتشاف» في روما، أنّ الكنيسة أوسع من تلك العقيدة، وأنّ مسيحيّات ومسيحيّين وكهنة وراهبات ورهبان بذلوا حياتهم للدفاع عن السكّان الأصليّين، وأنّ هناك بابوات انتقدوا أعمال العنف والعبوديّة والظلم، وهو أمر صحيح؛ ولكنّه فعل حسناً أيضاً أنّه ذكّر بأنّ القوى الاستعماريّة استعملت العقيدة تلك «من أجل تبرير الأفعال غير الأخلاقية ضد الشعوب الأصلية التي تم تنفيذها، في بعض الأحيان، من دون معارضة من السلطات الكنسية». لكنّ الكلام هذا لا يمكنه أن يخفّف حجم المسؤوليّة الكنسيّة التي أصدرتها أعلى سلطة كنسيّة كاثوليكيّة ولم يتمّ التراجع عنها إلّا بعد مطالبات لعشرات السنوات، فتلك العقيدة كانت بمثابة اشتراك معنويّ في جرائم الاستعمار الأوروبيّ، إذ شكّلت الأرضيّة «الأخلاقيّة» والقانونيّة التي ارتكزت عليها جرائمه، وقد تكون تلك العقيدة لعبت دوراً في التسويغ لعنصريّة البيض، وادّعائهم التفوّق على غيرهم من الشعوب. إذ كما يقول المحامي ديفيد واغونر «أصدر نيكولاس الخامس وألكسندر السادس لاهوتاً للعصور الوسطى - أصبح الآن في قلب فقه قانون الملكية الأميركي - حول «الولاية البابوية العالمية» و»الكومنولث المسيحي العالمي».

لقد أعلنا بواسطة ذاك اللاهوت أنّه يمكن للأوروبيين المسيحيين البيض أن يقتلوا ويستعبدوا ويستولوا على أراضي غير المسيحيين غير البيض في أي مكان في العالم» (مرجع 1).
دروس كثيرة يمكن لهذا الانحراف الكنسيّ عن إنجيل يسوع المسيح أن يعلّمنا إياها، لا مجال لذكرها كلّها، منها أنّ التزام إنسان لعقيدة دينيّة (أو لا دينيّة) يعني صراعاً حتّى آخر نفس مع قوى الظلام والتدمير التي تغري أتباع تلك العقيدة عبر الزمن، وعبر التاريخ. الفوقيّة في التعبير والتراشق الكلاميّ بين مسلمين ومسيحيّين في لبنان حول أمر تافه كتغيير التوقيت الشتويّ خير دليل.
اليوم باتت عقيدة الاكتشاف البابويّة تحت أقدام السكّان الأصليّين، نتمنّى المصير نفسه لكلّ عقيدة تعتدي على حياة البشر وكرامتهم، ونخصّ بالذكر العقيدة الصهيونيّة ونظام الاحتلال والفصل العنصريّ الإسرائيليّ.

مراجع:
(١) David P. Waggoner, “The Jurisprudence of White Supremacy: Inter Caetara, Johnson v M’Intosh and San Antonio Independent School District v. Rodriguez,” Southwestern Law Review, vol. 44, 2015, pp. 749-765 at p. 755
(٢) يمكن العودة إلى ترجمة إنكليزيّة كاملة لإعلان البابا ألفونسو على الرابط التالي: https://caid.ca/Bull_Romanus_Pontifex_1455.pdf
(٣) https://www.cbc.ca/news/canada/ottawa/residential-school-records-now-in-rome-researchers-survivors-concerned-1.6241449
* كاتب وأستاذ جامعي