«مصائب قوم عند قوم فوائد». الخلاصة التفاعلية الجدلية التي كثّفها هذا القول، تنطبق، بشكل خاص، على الوضع اللبناني. ذلك أن ضعف المشتركات الأساسية بين اللبنانيين، والتي هي عماد الوحدة الوطنية، جعلت وضع بلدنا هشاً إزاء تناقضات الداخل وصراعات الخارج. وتمخّض ذلك، في العقود السبعة الأخيرة، عما يشبه عملية الحَبَل خارج بيت الرحم.
فلقد وُلدت دويلات عدة متنافسة ومتباينة، فيما كان المؤمل، وبشكل طبيعي، أن تولد دولة واحدة تتولى التعبير عن إرادة اللبنانيين ومصلحتهم في بناء وطن حصين وموحّد ومستوفٍ لشروط البقاء والاستقلال والاستقرار. تلازم وتفاعل ذلك، منذ البدايات، مع علاقة مع الخارج، كانت هي الأخرى، مشوهة، وازدادت تشوّهاً مع مرور الزمن. كانت الدول الخارجية، البعيدة الاستعمارية خصوصاً، شريكة في تبني أو حتى فرض توليفة «الصيغة اللبنانية» القائمة على التمثيل والتحاصص الطائفيين. ولذلك، فقد أصبحت لاعبة يزداد تأثيرها باستمرار في المعادلة السياسية والسلطوية اللبنانية. نشأت بين الداخل اللبناني والخارج الأجنبي علاقة استقواء وولاء تبلورت الى ما نحن عليه من انقسام واستقطابات وضعف بنى ومؤسسات... بلغ ذلك ذروة غير مسبوقة في مرحلة استشراء الطابع المذهبي للصراعات، وتحول ذلك إلى أداة رئيسية بيد القوى الاستعمارية، في الصراع الدائر على المستوى الإقليمي، من أجل السيطرة على مصائر المنطقة وأسواقها وثرواتها.
«أثمر» هذا الوضع غير السليم صراعات لا تنتهي بين الكتل السياسية اللبنانية الساعية الى الحصول على الثروة والنفوذ والسلطة. وفي ظروف استعصاءات داخلية وتناقضات خارجية متفاعلة، تحول لبنان إلى مسرح لاقتتال أهلي، دائم ومتكرر ومديد (وقع أخطره بين عامي 1975 و1990)، كان، غالباً، باهظ التكلفة بشرياً ومادياً وسياسياً وكيانياً.
منذ اندلاع الأزمة السورية خصوصاً (قبل حوالى ثلاث سنوات ونصف سنة) يكابد لبنان مرحلة متفاقمة من التوتر والاضطراب لامست حدود الاحتراب الأهلي الشامل عبر مقدمات تركّز أكثرها عنفاً ودموية في المناطق الشمالية والبقاعية من البلاد، وامتد أثرها السلبي على كل مساحة الوطن وهدد مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
غياب أو ضعف المشتركات الوطنية أنتج خللاً خطيراً في تحديد الأولويات وفي التعامل مع الأساسيات من المسائل والقضايا. وهو، بشكل خاص، حال دون اعتماد معايير وطنية صحيحة للفرز بين الأعداء والأصدقاء، وبين المصلحة الوطنية والفئويات الخاصة، وبين الصواب، عموماً، والخطأ من وجهة نظر المصلحة الوطنية العليا. إن ما اعتبره فريق من اللبنانيين أمراً خطيراً وسلبياً، كان بالنسبة إلى الطرف الآخر أمراً في غاية الأهمية والإيجابية! ينطبق ذلك، بشكل نموذجي على الأزمة السورية بالجملة والمفرق: بالنسبة إلى اندلاع هذه الأزمة، ثم بالنسبة الى إضعاف النظام وإسقاطه، أو، على العكس، صموده وانتصاره. وتباين الموقف أيضاً من التدخل الخارجي، في هذه المرحلة أو تلك، ومن قبل هذه القوة أو سواها... بشكل كامل، ما تمناه فريق ورحّب به خشية الفريق الآخر ورفضه دون تردد... وفق معادلة «مصائب قوم عند قوم فوائد».
لقد جرى «تحييد» لبنان نسبياً إزاء الصراعات الضارية التي تدور في المدى الإقليمي، فلم يتحول الى ساحة إضافية من ساحات ذلك الصراع، رغم تفاعله المباشر وغير المباشر معها. لكن أحداث «عرسال» الأخيرة، أطلقت موجة هلع وقلق كبيرة بسبب طبيعة القوى التى استولت على البلدة البقاعية التي تضم، من نازحين ومقيمين ما يربو على 100 ألف نسمة! فالقوى التي سيطرت على «عرسال» هي جزء من اندفاعة هجومية، في المنطقة، تقودها جهات شديدة التطرف والتوحش، وذات قدرة على العمل خلافاً لكل القواعد والضوابط، وخارج سيطرة الجهات التي أسهمت في إنشائها ودعمها بغرض استخدامها وبوهم إمكانية السيطرة الدائمة عليها.
وزاد في القلق، أساساً، استشعار المواطنين أن مؤسساتهم معطّلة، وقواهم السياسية منقسمة ومستقطبة من قبل أطراف خارجية تخوض في ما بينها صراعاً مريراً، فيما كانت، الى وقت قريب، تتولى امتصاص التوترات والاستعصاءات بين اللبنانيين عبر تسويات وتوازنات تمليها المصالح والتوازنات الإقليمية والدولية.
يعوِّل معظم اللبنانيين، الآن، على الجيش اللبناني لمواجهة خطر الإرهاب والتطرف، وللدفاع عن المواطنين الآمنين وعن سيادة البلاد، في الوقت نفسه. هذه مهمة كبيرة لم يجرِ إعداد الجيش لها بعناية وتحوط. ليس معنى ذلك أن ثمة قوى أخرى تستطيع ما لا يستطيعه الجيش. المقصود أمران: الأول ضرورة إحاطة الجيش بدعم حقيقي يرتقي الى مستوى النظر إليه بوصفه حاجة وطنية للأطراف جميعاً وللمواطنين دون استثناء. ذلك يعني اعتبار الجيش أحد المشتركات الوطنية التي لا يجوز الاستقواء عليها أو استخدامها فئوياً أو المساومة على دورها وانتشارها ومهماتها... والأمر الثاني عسكري، لجهة توفير وسائل القتال العسكرية الضرورية لكي يتمكن الجيش من القدرة على الحسم والانتصار.
للأسف، لا تأتي مبادرة الدعم السعودية في هذا الإطار. إنها تنتسب الى الأسلوب التقليدي في التعامل مع الوضع اللبناني وصراعاته ومشكلاته. لقد جرى اعتماد إعلان الدعم السعودي عبر رئيس سابق للجمهورية ورئيس سابق للحكومة. أي أن هذا الدعم انطلق، وبمعزل عن احتمال صدق المقصد، بشكل غير صحيح. كان الأجدى، ولا يزال، أن يتم التعامل مع مؤسسات الدولة مباشرة بوصفها الجهة الشرعية الوحيدة ذات الصلاحية...
لا يغيّر في ذلك كون الهدف الأساسي من هذه المبادرة هو محاولة تعويم تيار «المستقبل» بعدما خسر الكثير لمصلحة المتطرفين. هذه نتيجة يمكن تحقيقها بمجرد إعلان قرار الدعم من قبل السعودية وعندما يتمكن الجيش، عبر تزويده بالأسلحة المطلوبة، من هزيمة الإرهابيين.
ثمة منعطف خطير تمر به المنطقة ولبنان. لا يمكن مواجهة ذلك بالأساليب السابقة. هذا تحدّ مطروح على كل القوى السياسية التي انخرطت في صيغة التقاسم والتحاصص الطائفي والمذهبي. يملي ذلك إعادة نظر حقيقية بالأساليب والتوجهات والعلاقات الداخلية والخارجية.
من دون ذلك، ستطول معركة «عرسال» أو أي عرسال أخرى، مهما بذل الجيش من جهود ودماء وبطولات.
الغلو والإرهاب والتكفير هي ابن شرعي للأصولية الإرهابية الأم وهي الصهيونية التي لا تزال تمعن قتلاً وتشريداً بالشعب الفلسطيني، وكذلك لعجز الأنظمة وفشلها وتبعيتها واستبدادها. وهي، أيضاً، ابن شرعي لكل أشكال التعصب والعنصرية والمبالغة في التمذهب واستخدام الدين وسيلة لأهداف فئوية بعيدة عن جوهره في نشر التسامح والإيمان والقيم الإنسانية. المواجهة تبدأ من عرسال، لكنها أبعد وأعمق من ذلك.
* كاتب وسياسي لبناني