بعد مرور سنوات على اشتعال جسد محمد البوعزيزي في تونس (17/ 12/ 2010) وانتشار لهيبه في الحراك الشعبي في عدد من البلدان العربية وخارجها ايضاً، تصح الاسئلة المتوالدة عن الثقافة والمثقفين في الوطن العربي، اذ ربما او يمكن ان تكون مفتاحاً لحل صحيح لما بعد تلك التضحيات، وتوضيح ابعاد الثقافة والمثقفين العرب فيها.
اين تكمن المسألة؟ هل في الثقافة ام المثقف؟ من اين البداية؟ هنا لا بد من قراءة ما آل اليه المشهد الثقافي ودور المثقفين العرب فيه. وهو امر لا تغطيه بالتأكيد مقالات ولا دراسات وحسب وإنما يحتاج الى ورش/ هيئات/ لجان عمل ثقافية اكاديمية لوضع الاصابع على الجروح الغائرة فيه، لا سيما بعد هبوب نسمات الحرية وانكسار بعض حواجز الخوف في المشهد السياسي العربي، وتأكيد أن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ثقافة اساساً. تثير القراءة البانورامية اسئلة اخرى، وقد نظل في دوامة او متاهة الاسئلة، ولكن الامر الرئيس فيها ان المشهد الثقافي في مأزق حاد او ازمة مركبة يعبر عنه/ عنها في حالات متعددة، ابرزها، (طبعاً بعد نقد تأخر الدور المتميز للثقافة والمثقف فيما حصل)، يكمن في انقلاب العديد من المثقفين العرب على انفسهم وخروجهم عن مسارات ما عرفوا فيه قبل او اثناء وحتى بعد ما حدث مباشرة ولحين من الزمن.

ليس ممكناً إنكار
أن أعداء التحرر هم المستفيدون من الفتن المشتعلة في المنطقة

هذا الانحراف ليس في الزوايا بل في العمق من مساحات التحرك الثقافي وارتباطه في الحراك الشعبي. ومن ثم يأتي الجزر في الانتاج الثقافي الرصين الذي كان يعول عليه في عمليات التنوير والتحولات المنشودة بعد كل التضحيات والحراك والانتفاضات والثورات، من جانب، والإسهال المرضي في تحبير الصفحات الورقية والالكترونية، ومشاغلة البرامج والأحاديث الى درجة الملل والغثيان في كلام خطير في دلالاته، باهت في ظاهره، من جانب اخر. مما يصل في النهاية أو يراد منه ربط الثقافة والمثقف على السواء، وتعميم المأزق، الا ان معطياته تشير الى المثقف اكثر من الثقافة، اذا اعتبرت الثقافة تصوراً لصيرورة جدلية معبّرة عن اجيال وتاريخ. ولهذا يمكن القول بصراحة ان المأزق اليوم عند المثقفين العرب الذين يتقدمون مشهد الثقافة وما يجمع عليه من نقد وأسئلة مشروعة، وما اصبح عليه الوضع الثقافي. بات الامر واضحاً وبلا شك بان التغيرات التي حصلت في بعض عالمنا العربي دفعت القوى الاستعمارية والرجعية المتخلفة الى اعادة تموضعها والانقلاب على الحراك او ما اصطلح عليه بالثورة المضادة، واحتاجت الى ادوار المثقفين اولاً في ذلك وهو ما وضع المشهد في مأزقه. اذ ان بعضاً ممن كان في صف الثورة فعلاً استمر من موقعه نفسه مضاداً لها، ما اوهم المواطن والشعب بنصه او قوله كتعبير عن الحراك والثورة. وهذا الامر هو الاخطر فيما حصل من مأزق فعلي عند المثقف العربي، الذي تبنى المشروع او سايره اولاً، ومن ثم تخاذل وتنازع داخله واستثمره في ظرفه الجديد عنواناً له ولبرامجه وسياساته التي حاول تمريرها قبل ذاك. بل ان غيره ممن كان اساساً في صف القوى الرجعية لم يستطع حتى اللحاق به والتماهي معه. ان هذا النموذج اخطر مثال في المشهد الثقافي العربي، ويتعسر اقناع الناس به وتحولاته لتوافقها مع المثال السابق له، وهنا مكمن الخطورة والاختيار له. فمن التبشير بالتغيير والثورة الى العمل على توصيفها بالانقسامات والتشظي لما قبل الدولة والهويات ما قبل المدنية، وتبنيها كمسلمات او دعوة اليها والبناء عليها لصناعة الحالة المطلوبة والقبول بها منه بالذات وعلى حساب التضحيات والتحولات. حتى بات ما يتفوه او يسجل في صفحات التواصل الاجتماعي شتيمة او مرثية للكفاح الوطني ولتاريخ التحرر الوطني والتضحيات الجسام من اجل الحرية والاستقلال والتنمية وحقوق الانسان. وهي المصطلحات التي صار الترنم بها عرضة لقتلها وإعدام من يطلبها فعلاً وينتظر لحظتها التاريخية للتغيير والتجديد. من الصعب تصور ان من يتحدث عن الحرية والاستقلال والديمقراطية وحقوق الانسان ومعاداة/ او ضد الاستعمار والظلم والاضطهاد والدكتاتورية والاستبداد والإرهاب والطائفية، ويضرب بها امثلة له وعنه، ان يوظف طاقاته تحت سقف كونكريتي مسلح، وحراسة القواعد العسكرية الاستعمارية وجدران الردح الفوضوي والتضليل الصارخ والغش والخداع وتشويه الوعي الانساني وخلط الاوراق والإنكار للواقع ووقائعه والصمت على الجرائم القريبة منه وقبول ذل سيف الحاكم والتسلط المتوارث حتى تاريخه. هل يمكن تصور حالة كهذه؟ من العلمانية الى الطائفية، من التقدمية الى الغيبية، من التمرد الى التخاذل، من الاستعلاء الى الاذعان... هذه صور فاقعة ومعروفة والصمت عليها جريمة بحق الضمير الثقافي والإنساني وهي توضح مدى مأزق مثل هذا المثقف العربي الآن. يصبح الخراب الحاصل مهموماً في التركيز على الهويات الطائفية والاثنية والبناء على تشكيلاتها في نظريات وسيناريوات تؤبدها وتضعها معياراً للتقاسم والتبدل الفكري والثقافي بشكل عام.
ونسيان الخطر الفعلي والسبب الرئيس فيما وصلنا اليه، وكان هذا المثقف يتمنطق او عرف به وسمح له بالدخول الى الميدان من خلاله. ومهما استخدم الآن من مسميات اخرى لفعاليته، كمعاهد او فضائيات او وسائل اعلام واتصال اخرى، فانها كلها لم تعد تنطلي على احد.
تاريخ الثقافة والفكر منها خصوصاً رسم مراحل وأجيالاً من الناشطين والمنتجين الذين وسمت الميادين بأسمائهم وارتسمت السجلات بهم. وظلت انتاجاتهم دليلاً لمن جاء بعدهم وللأجيال ايضاً. ولكن التاريخ سجّل ايضاً اسماء اخرى عنونهم بوعاظ السلاطين وعبيد البلاط والدواوين والمشيخات التي خدمت المستعمر والمستبد والطاغية وبان معدنها الرديء. لعل الامبراطوريات الاعلامية التي تتفرخ الآن وتروج لتلك الافكار والنظريات وتحسم الامر حولها وتضع شعارات براقة امامها لاصطياد من يتعثر في سيره او فكره، تكشف بعضاً من الصورة او راس جبل الجليد العائم، كما يقال. اما الواقع فإن المعركة الثقافية واسعة، وان المديات مفتوحة وان من كان يوماً يصول ويجول فيها لم يعد مقبولاً، أو قادراً هو او مَن يقف وراءه، على اختراق بوابات الممانعة وعواصم الثقافة التقدمية والعقلانية وتوظيف مؤسسات المجتمع المدني الفعلية والغد العربي الجديد. فلا يمكن الرضا بأن الثقافة العربية عاجزة عن النهضة والعمران. وإنها في مأزق طالما بعض من ينطق لغتها في هذه الحالات. ورغم وضوح القضية ومعرفة اسبابها تظل الثقافة ومستقبلها ودورها وأهميتها لمن ينفع الناس.
مع ان وقائع الحال تقول بأزمة او مأزق المثقف العربي، الذي بنى نموذجه في صور التقلبات والتغيرات البنوية والتجسد في ازياء البهلوان الفكرية واستغلال توفر الوسائل والإمكانات لديه، التي هي من جانب اخر فضح له ولنموذجه المأزوم. رغم كل الظروف الصعبة وقلة سالكي طريق الحق العربي إلا ان ما حصل أخيراً في بلدان عربية وعواصمها الثقافية يكشف ان الصدمة والرعب قد استوعبت وان ضرورة ملحة تدعو وتدفع كل المثقفين والمناضلين في شتى مجالات الثقافة والعمل العام الى التكاتف وإعلاء ثقافة الشعب والتحرر والتقدم ودعم ارادة الجماهير وخياراتها الوطنية الديمقراطية.
* كاتب عراقي