المعطيات التي أعاد رئيس الوزراء العراقي الأسبق، عادل عبد المهدي، التذكير بها، لمناسبة تطبيع العلاقات الإيرانية - السعودية برعاية صينية، حول الدور المركزي للّواء الشهيد، قاسم سليماني، في انطلاقة الجهود للوصول إلى هذا الاتفاق، ليست جديدة. فقد سبق لعبد المهدي، وكذلك لحسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، أن أشارا، مباشرة بعد عملية اغتيال الشهيد، إلى أن الأخير كان يحمل رسالة ديبلوماسية إلى السعودية تأتي في إطار مسعى لحلّ الخلافات بينها وبين إيران، تمهيداً لعلاقات طبيعية تَجمعهما. لم تُعِر غالبية التحليلات الرائجة في تلك الفترة، هذه المعلومات الأهميّة التي تستحقّ، على رغم صدورها عن أطراف تقف في مواقع متناقضة. فالصورة النمطية السائدة عن القائد السابق لـ«فيلق القدس» هي أنه كان معنيّاً حصراً بشؤون الحرب والصراع، وأنه لم يكن رجل تسويات وتفاهمات. غير أن القائلين بما تَقدّم، يتناسَون أن مَن يحدّد التناقض مع الولايات المتحدة تناقضاً رئيساً، ويخوض لعقود طويلة صراعاً مريراً معها، سيحاول بالضرورة تجميد التناقضات الثانوية الأخرى، أو حتى حلّها إنْ كان متاحاً. والتناقض بين إيران والسعودية، وإنْ شهد ارتفاعاً كبيراً في حدّته في مراحل تاريخية مختلفة، يبقى تناقضاً ثانوياً بين بلدَين تَجمعهما روابط الجغرافيا والتاريخ من منظور قيادة الجمهورية الإسلامية، مقارنةً بتناقضها التناحري مع القوى الاستعمارية الدخيلة، كـ«الشيطان الأكبر»، أميركا، و«الغدّة السرطانية»، إسرائيل.هذا التوجّه المبدئي اقترن أيضاً بتقدير للموقف ينطلق من قراءة دقيقة لتحوُّل موازين القوى الدولية والإقليمية لغير مصلحة الولايات المتحدة، وما سيفرضه ذلك من استراتيجيات إعادة تموضع على حلفائها في المنطقة. وفي مقابل مشروع التحالف الإسرائيلي - العربي بقيادة أميركية، والموجّه ضدّ إيران، رأت الأخيرة، كما أَظهرت مبادرة الشهيد سليماني، ضرورة لإفساح المجال أمام إمكانية تفاهمات مع السعودية، على رغم مناخات المجابَهة المحتدمة في تلك الفترة. وقد أَظهرت التطوّرات في السنوات التالية، مدى صحّة تقدير الموقف المذكور، إذ أدّت ما تسمّيه تقارير «البنتاغون» «عودة سياسات القوى العظمى»، أي التنازع في ما بينها على صعيد دولي، وأوكرانيا إحدى ساحاته، إلى تراجعٍ في القدرة الأميركية على السيطرة والتحكّم، واتّساعٍ لهامش استقلالية بلدان الجنوب، وبخاصّة المتحالفة تاريخيّاً مع واشنطن، كدول الخليج. التحالف بين السعودية والولايات المتحدة منذ «اتفاق كوينسي» في عام 1945، وإنْ نجم عنه اندراج سعودي في الاستراتيجية العامّة لواشنطن على المستوى الدولي، لم يعنِ غياباً للخلافات والتناقضات بين الطرفَين حول قضايا إقليمية، ومنها الصراع العربي - الصهيوني. فقد ساهمت السعودية في دعم عمليّة إعادة تسليح الجيشَين المصري والسوري بعد هزيمة 1967، وقامت، وغيرها من الدول العربية المنتجة للنفط، خلال حرب أكتوبر 1973، بحظر هذا الأخير عن الولايات المتحدة وهولندا والدنمارك بسبب دعمها لإسرائيل. هي قدَّمت أيضاً، لسنوات طويلة، دعماً ماليّاً لـ«منظمة التحرير الفلسطينية». سيسارع البعض إلى القول إنها كانت في الحقيقة متواطئة مع الولايات المتحدة، لكنّها قدَّمت ما قدّمته لتلافي غضب شعبها، وردود أفعال القوى العربية المنخرطة مباشرة في المواجهة مع إسرائيل. وبمعزل عن مدى وجاهة هكذا تحليلات، فإن الأكيد هو أن القوى المُشار إليها استفادت من الدعم المذكور في مواجهة العدو الإسرائيلي.
مَن يحدّد التناقض مع الولايات المتحدة تناقضاً رئيساً، ويخوض لعقود طويلة صراعاً مريراً معها، سيحاول بالضرورة تجميد التناقضات الثانوية الأخرى، أو حتى حلّها إنْ كان متاحاً


خرج الخلاف بين الولايات المتحدة والسعودية إلى العلن مجدّداً، بعد انطلاق عمليّة التسوية في «مؤتمر مدريد»، عندما تبنّت إدارة كلينتون مشروع شمعون بيريز لإقامة شرق أوسط جديد تحتلّ فيه إسرائيل موقعاً مركزيّاً على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية. رفضت دول كسوريا ومصر والسعودية ذلك المشروع، وشكّلت، بعد قمة الإسكندرية في أواخر 1994 بين قادة البلدان الثلاثة، محوراً سوريّاً - مصريّاً - سعوديّاً لعب دوراً سياسيّاً في التصدّي له، والمساهمة في إفشاله. وقف هذا المحور مثلاً مع لبنان خلال عدوان نيسان 1996 الذي شنّته إسرائيل، وحال دون تشكيل تحالف عالمي مناهض للإرهاب كما أرادت واشنطن خلال «مؤتمر شرم الشيخ» الذي سبق العدوان المذكور. تمايزت السعودية، أيضاً، في تلك المرحلة نفسها، عن السياسة الأميركية حيال إيران، وشهد النصف الثاني من عقد التسعينيات تطبيعاً للعلاقات بين البلدَين.
لكن المنعطف الكبير في العلاقات السعودية - الأميركية هو ذلك الذي حصل بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001، وما تلاها من حرب على «الإرهاب» ومخطّطات لـ«إعادة صياغة الشرق الأوسط»، ومن «ابتزاز ديموقراطي» للسعودية ومصر وغيرهما. تطابقت المواقف السعودية، إلى حدّ التماهي في بعض الأحيان، مع تلك الأميركية، بخاصّة بالنسبة إلى إيران وقوى المقاومة، وغطّت سياسيّاً حروب إسرائيل على لبنان (2006)، وغزة (2008، 2012، 2014)، في مقابل الحفاظ على الحماية الأميركية لنظامها. غير أن أزمة الثقة بدأت في 2011، واستمرّت طوال عهد باراك أوباما، وتجدّدت بقوّة بعد قصف منشأة «أرامكو» في 2019. ومنذ 2011، تنامت تدريجاً العلاقات بينها وبين دول كالصين وروسيا، وصولاً إلى ما نراه اليوم من تعاون في شتّى المجالات. إدراك السعودية لواقع موازين القوى المستجدّة، دوليّاً وإقليميّاً، ولعقم الرهان على الحماية الأميركية، وللمكاسب التي قد تجنيها من تغيير مقاربتها، وفي مقدّمتها الاستقرار الذي سيوفّره تفاهم جدّي مع إيران، هي جميعها عوامل ساهمت في تغيير توجّهاتها ومهّدت الطريق لمثل هذا التفاهم برعاية صينية. مَن بادر إلى فتح الباب للحوار، أي اللواء الشهيد قاسم سليماني، استشرف بوضوح ما سيتيحه بالنسبة إلى جميع دول وشعوب المنطقة، انحسار نفوذ الإمبراطورية العاتية من فرص لبناء مستقبل أفضل ينسجم مع مصالحها وتطلّعاتها.

* كاتب من أسرة «الأخبار»