ميدان لعبة الأمم هو ميدان الكبار أو العمالقة. هو ميدان الناجحين أصحاب الرؤى الكبيرة والمشاريع الحقيقية التي تحمل وعداً للبشرية بحاضرٍ وغدٍ أفضل مما هي عليه.والصين لاعب عملاق لا يحتاج إلى تزكية من أحد، فالعلم والحكمة في أمثال الشعوب تُطلب في الصين، وحينما يتم استحضار العقائد والأيديولوجيات المُلهمة في العالم يُستحضر الإسلام والكونفوشوسية الصينية من ضمن أهم تلك الأيديولوجيات ذات الطابع العالمي أو الإنساني.
إذاً، الصين لاعب كبير حضاري تاريخي، وهو اليوم أكبر المزاحمين على القيادة والريادة في عالم يقترب - لا محالة - إلى عالم متعدد الأقطاب على أنقاض «محاولة القطب الواحد» التفرّد بإدارة العالم بعد سقوط مرحلة القطبين التي تلت الحرب العالمية الثانية وانتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي في عهد غورباتشوف آخر الزعماء السوفيات.
أمّا الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي بالتأكيد تنتمي إلى حضارة إمبراطورية حكمت وتركت بصماتها تاريخياً على العالم إلى درجة أنها ذكرت مضمرة في سورة الروم بالقرآن الكريم حينما صرَّحت الآية: «غلبت الروم في أدنى الأرض»، والمضمر هنا هو أن الروم غلبوا على يد الإمبراطورية الفارسية.
وإلى جانب هذا الإرث التاريخي الحضاري، تنطلق إيران من رؤية وأيديولوجية إنسانية عالمية من خلال رؤية الإمام الخميني التي صنعت ثورة كانت أهم حدث في الثلث الأخير من القرن العشرين والتي وضعت «نمط النمو الغربي» في قفص الاتهام كما صرَّح حين انتصارها الفيلسوف الفرنسي الراحل روجيه غارودي.
ولأن إيران تستمد عظمتها من التاريخ الحضاري، من جهة، ومن الإسلام الثوري الحضاري من جهة أخرى، كان لا بد من التقاط الفرصة بذكاء وبحكمة صينية مشهود لها، من خلال وجود السعودية باعتبارها الشريك -الوريث - الأهم في العصر الحاضر للرمزية المكثَّفة التي تُخْتزل في نظام «خادم الحرمين الشريفين» وبما لهما من مكانة مقدسة لدى العالم الإسلامي كافة.
إتمام جهود المصالحة التي وُلدت في العراق واحتُضِنت في عُمان، ثم أبصرت النور السياسي في الصين، جاءت بتوقيتها النادر كأنها صاروخ سياسي باتجاه عالم الفضاء السياسي المتعدد الأقطاب الذي يقترب من كوكبنا الأرض أسرع من أي وقت مضى.
وإذا كانت صفة اللاعبين الكبار محسومة للصيني والإيراني، فإن النصيحة التي أثمرت هذا الموقف السعودي التاريخي وضعت السعودية على درب الحرير الطويل - درب الكبار - وبقي على القيادة السعودية أن تتحلّى بالشجاعة وبالقدرة على الاستشراف وأن تثبُت كشريك مع إيران في تمثيل الإسلام باعتباره رؤية عالمية إنسانية مُجرَّبة في إنقاذ البشرية، وأنه آن الأوان للإسلام الحضاري الثوري أن يُدلي بدلوه من خلال عودة الأمة الإسلامية بما تُمثل من ديموغرافيا عالمية وإرث علمي وثقافي وحضاري، وثروات متنوعة ومواقع جيواستراتيجية حاسمة التأثير في مجرى المصالح الدولية والعالمية اليوم.
وعلى السعودية أن تتسلح باليقين بحتمية وقرب زوال نظام الهيمنة والعربدة والاستكبار الغربي الذي تمثله الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني أرقى تمثيل. وبالتالي تكون قد حجزت لها موقعاً مبكراً على مسرح الكبار، وتكون لاعباً مهماً وأساسياً في لعبة الأمم.
ولعل السعودية تكون فاتحة الطريق للعرب نحو اعتماد استراتيجية جديدة في التعامل مع الكبار وعلى مسرح لعبة الأمم، لأن العرب أضاعوا عقوداً من الزمن من دون أن يستفيدوا من نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران، كنموذج للدولة المستقلة التي تحترم تاريخها وهويتها وثقافتها، وبالتالي تؤمن بشعبها وبدورها بكل اقتدار، وأن كل المطلوب للسير في الاتجاه الصحيح نحو الاستقلال والازدهار هو امتلاك الإرادة السياسية الواعية والحاسمة التي تحسن استثمار نقاط القوة المتوفرة بين يديها، وأن تخرج من العقلية البسيطة في السياسة التي لا ترى إلا الأبيض والأسود (الغرب أو الشرق) ـ وأن تتسلح بالعقلية المُركَّبة التي تقود إلى صراع الإرادات وحرب الأدمغة التي ينتصر فيها حتماً الحقيقي على الزائف، وينتصر فيها الأصيل على الطارئ، والحق على الباطل، وينتصر فيها - بالصبر الاستراتيجي والكفاح العنيد - الحكمة والرشد على العربدة والقرصنة والخداع الذي هو جوهر السياسات التي ينتجها النظام العالمي الحالي المتهالك.
ولعل اللحظة العالمية الاستثنائية التي نعيشها تشكل فرصة للدول العربية الحقيقية، وعلى رأسها مصر، أن تقرر العودة إلى استئناف دورها الرِّيادي على مستوى المنطقة والعالم، ولعل المدخل الوحيد لذلك هو أن تقرر رسم استراتيجية جديدة في التعامل مع فلسطين وشعبها، باعتبار فلسطين وبركتها هي الرافعة الأهم لمن يريد الرفعة والمكانة والنفوذ إقليمياً ودولياً، ولهم في إيران وحزب الله وكل مكوّنات المحور – محور القدس والأمة - المثال والقدوة الناجحة.
الخلاصة المنطقية الحاسمة أن الخاسر الأكبر والأوضح هو الكيان الصهيوني، ما يعني أن فلسطين هي الرابح الأكبر على المدى المتوسط وليس البعيد.

* رئيس منتدى الأمّة في فلسطين