«فعلياً العدو بيسعى إلى إبادتي، فإذا ما قتلنيش بسرعة أو بسرعة شديدة في النهاية أنا في طور الإبادة»[الشهيد باسل الأعرج]

«هناك من يريد لهذا الشعب أن يموت جوعاً، وأن نقتل بعضنا على أبواب الأفران ومحطات البنزين، فإذا كان الخيار أن لا يُساعَد لبنان ويُدفع باتجاه الجوع، فالحرب أشرف بكثير»
«لمن يضعنا بين خيار تسليم سلاحنا وقتلنا بالجوع، نقول: سيبقى سلاحنا في أيدينا، ولن نجوع، وسنقتلك»

[السيد حسن نصرالله]

في تفسير تكرار التاريخ لنفسه، هناك من يرى التاريخ دائرياً عالقاً في حلقة مفرغة من العود الأبدي، وهناك، مثل المؤرخ جورج سانتانيا، من يراه يتكرر بسبب أولئك الذين لا يقرؤونه، ولدى الطرفين وجاهة، ولكن برأيي، أن قراءة التاريخ هي أيضاً من أسباب تكراره. فالغرب، تحديداً، يجد في الإمبراطورية الرومانية جذوره الحضارية (الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والأميركية كما الفاشيون والنازيون بأدبها وعمارتها وثقافتها) والأخلاقية (نيتشه مثالاً) والسياسية (الديموقراطيات الغربية هي حكم أوليغارشي على النمط الروماني)، بل وحتى العرقية في بعض الأحيان- علماً أن كل ما هو شمال الألب كان بالنسبة للرومان مستعمرات موحشة وبربرية. وتعتبر النخب الغربية، التي يشكل التاريخ والأدب الكلاسيكيين محوراً في تعليمها وتربيتها، صراع روما مع حضارات المتوسط وتسيدها على «الجزء المفيد من العالم» مرجعاً لكيفية إخضاع «الشرق» وبناء الذات من خلال إبادة الآخر وسرقة حضارته (هذا هو السلام الروماني PAX ROMANA الذي استنسخ منه السلام الأميركي PAX AMERICANA).
«حصار قرطاج»، توماس كول (1836)

وفي هذا التاريخ الكلاسيكي حلقة لا تزال ماثلة وفاعلة في العقل السياسي الغربي وهي حلقة ثلاثية الحروب «البونية» (البوني هو اسم روماني للقرطاجيين ويعني الفينيقيين وأصبح اصطلاحاً يرمز لفينيقيي الغرب)، ليس فقط لأن حنبعل لا يزال من أعظم القادة العسكريين الذين تدرس معاركهم في الأكاديميات العسكرية، بل لأن هذه الحلقة لحظة مؤسسة في الوعي السياسي الغربي كاد فيها أن يفنى قبل أن يوجد. ويعده كثيرون من مؤيدي الاستعمار إحدى اللحظات الحاسمة في التاريخ البشري في الصراع الذي يرونه أزلياً بين الشرق والغرب. كما أنها مسطرة قياس لنمط وفعالية العقوبات لإخضاع الخصوم، والأهم من هذا كله أنها الإبادة الأولى في التاريخ بشقيها الجسدي والثقافي: «الحل والسلام القرطاجيين».
ثلاثية الحروب هذه هي ملحمة متعددة الأجيال يدخلها هذا المقال من نصفها، نحن الآن بين الحربين الأولى والثانية حيث خضع القرطاجيون للعقوبات المالية الفادحة وخسروا جزر غرب المتوسط، والأخطر كان خضوع قرطاج للعقوبات العسكرية. كل ذلك لم يكن لضعف جيشهم أو قيادته، بل لضربة حظ رومانية تمكنوا فيها من سرقة تكنولوجيا السفن القرطاجية واستنساخها، والسبب الأهم كان انهزامية نخبة قرطاج التي لا تفكر أبعد من أنفها ولا تحسب إلا ما في جيبها. وهكذا أذعنت قرطاج للعقوبات الرومانية وخضعت لشروطها المذلة.

الديكتاتوري والديموقراطي والمقاوم
قائد الجيش، الذي خذلته هذه النخبة سابقاً وتسببت في خسارة الحرب، لم يوافق على هذا الإذعان وعدّه انتحاراً، ولتجنب الحرب الأهلية اختار طريقاً ثالثاً، يتمثّل في بناء مدينة جديدة لا تنطبق عليها العقوبات الرومانية، وخصوصاً تلك التي تمنع قرطاج من امتلاك جيش مرة أخرى. وعليه، بنى حملقار (حامي القرية) برصا، مدينة في إيبيربا (إسبانيا)، سمّاها برصا على اسم عائلته (وهي اليوم برشلونة)، مكنته من جمع الفضة ومساعدة مدينته الأم في دفع الدية المفروضة بسبب العقوبات، ومكنته أيضاً من بناء جيش جديد لا يخضع للقرار السياسي المتردد للمجلس الحاكم والمكون من الأوليغارشية الثرية. ويبدو أن حملقار، على عكس تلك النخبة، رأى الصراع مع روما على أنه وجودي عابر للأجيال والظروف، إلى الحد الذي جعله يأخذ ابنه إلى المعبد لينذره لهذا الصراع. وكما تقول الأسطورة، طلب من ابنه الطفل حينها أن يقسم له داخل المعبد بأن لا يصادق الرومان أبداً، وهكذا كان، وابن هذا الرجل هو حنبعل الذي اجتاح إيطاليا مع جيش وفيلة عبرت الألب.
للأسف، هذا الفعل، على عظمته وصعوبته، قطرة في بحر سيرة الرجل الذي ما زالت عبقريته مدرسة بحد ذاتها في العلم العسكري، وما هو مجهول أكثر من سيرته هي مقاومته للرومان بعد خروجه من إيطاليا ولآخر لحظة من حياته، وأنه، بالرغم من خيانة أبناء جلدته له مرات عديدة، لم ينقلب على مدينته ولم يفكر للحظة باعتزال الصراع، فقد قاتل حنبعل الرومان في شبه جزيرتهم لمدة 15 عاماً دون أن يخسر معركة واحدة، ومع ذلك لم تجد نخبة المجلس المنتخبة في قرطاج -أي ديموقراطية قرطاج- مصلحة في دعمه أو إرسال المساعدات له، لا بل غدرته عند كل مفترق طرق.
أمّا على المقلب الروماني، فالإنقاذ جاء بالديكتاتورية، وما حدث هو أن «ديموقراطية» روما، بدورها أيضاً نخبوية، وتحت وقع الهزائم المتوالية أمام جيش حنبعل، لجأت روما إلى إجراء اعتيادي في حالات الطوارئ، ألا وهو تسليم الحكم لديكتاتور. والديكتاتورية في الأصل لم تكن شتيمة سياسية، ولا وسيلة للتشهير، بل هي وصف للحكم يفيد السرعة، إذ إن الحكم في الحال الطبيعي في روما كان ينسب لقنصلين/مستشارين يتوليان عملية اتخاذ القرار بالتوافق، الأمر الذي يتطلب وقتاً غير متوافر في حالات الحرب والكوارث، لذلك وكّل الرومان رجلاً يدعى فابيوس ماكسيموس، وهذا الأخير فهم خصمه جيداً؛ فهم أن حنبعل يملك عقلاً عسكرياً لا يمكن هزيمته في المواجهة الحربية والحل الوحيد هي بحرمانه من النصر بتجنب خوض المعارك معه. أراد فابيوس استنزاف خصمه بتجنب المواجهة - لحسن حظ فابيوس أن حنبعل والقرطاجيين لم ينتهجوا نهج الإبادات وتدمير المدن وإلا لكانت استراتيجيته ستدمر روما.
وبالفعل، بدأ فابيوس بالنجاح ولكن بالنسبة للعقل الروماني فقد كانت هذه هزيمة ساحقة ولقّبوه بالكونتراتور (المؤجل/البطيء) من باب السخرية عوضاً عن الديكتاتور، فهم لا يقدسون ولا يمجدون إلا القوة والحرب والعنف، ولا تهم نتائج الصراع إن لم ينتصر فابيوس في مواجهة عسكرية مباشرة، ولذلك تم عزله وتعيين قنصلين شعبويين مكانه، قاما باستنهاض روح القتال الرومانية والتحشيد لمواجهة حنبعل عسكرياً، وتسببا بأكبر هزيمة لروما وأحد أعظم مآثر التاريخ العسكرية، حيث استطاع القائد القرطاجي بجيشه المكون من 46 ألف جندي و8 آلاف فارس من هزيمة الجيش الروماني المكون من 80 ألف جندي و6 آلاف فارس، حيث قتل 70 ألف روماني وأسر 10 آلاف منهم ولم ينج إلا 6 آلاف ربما أغلبهم من الفرسان الرومان.
هنا تعلم الرومان الدرس جيداً وعادوا لتبني تكتيكات فابيوس* وأضافوا إليها أن أفضل سبيل لإخراج حنبعل من أراضيهم هي نقل المعركة إلى مدينته الأم، وكانت معركة زعمة في تونس، التي كانت كل حيثياتها تؤشر إلى هزيمة محكمة للقرطاجيين، إلى درجة أن القائد المكلف من قبلهم انتحر قبل أسبوع منها، وهكذا لم يكن من بد لحنبعل من تجرع كأس الهزيمة عن نخبة قرطاج التي وضعته وجيشه أمام هذا الإذلال ومن هذه النخبة في الوقت ذاته.

عن الجوع والحرب
هكذا انتهت الحرب البونية الثانية بعقوبات أقسى وبدية مهولة تهدف إلى كسر قرطاج مادياً ومنعها من ترف بناء جيش مجدداً علاوة على منع العسكرة بحد ذاتها، وإلى جانب الدية (التي تمثلت في دفع قرطاج تكاليف الحرب كافة بالإضافة إلى دية سنوية غير مسبوقة بقيمة 6 أطنان من الفضة سنوياً لمدة 50 عاماً) منعت قرطاج من ممارسة التجارة التي كانت عمادها الاقتصادي ككل بهدف تدميرها داخلياً ببطء ولتموت جوعاً.
مرة أخرى أصر حنبعل على الوفاء لوعده لأبيه، ولكن هذه المرة عمل على إعادة تأهيل قرطاج سياسياً من الداخل وإصلاحها واستطاع بعد إفلاس المدينة وتجويعها لسداد دية الحرب الضخمة أن يتبوأ الحكم كقنصل إلى جانب أحد حلفائه، إذ تبين للجميع أن خيار المقاومة هو نفسه خيار الحياة، لا بل خيارها الوحيد، وبدأ بالعمل على أسطول بحري في السر لمواجهة الغزو الروماني القادم لا محالة. وقتها بنى القرطاجيون ميناءهم العسكري السري الشهير، وأدركوا أخيراً أن الرومان يريدون تدمير مدينتهم، سواء التزمت وخضعت للعقوبات أم لم تلتزم. وهكذا كان إلا أن الوقت كان قد فات.
ما إن انتهت الخمسون عاماً وأتمت قرطاج دفع الدية بشكل مدهش لم تتوقعه روما (وذلك عبر ابتكار اقتصاد جديد مبني على الزراعة هذه المرة، ويعد كتاب ماغو القرطاجي دليلاً على التطور الزراعي غير المسبوق في المتوسط لدى القرطاجيين) وبدل أن تكافأ قرطاج على طاعتها وامتثالها بالعرفان أو حتى الرضى، بدأت روما بالتحضير للغزو، ولم يكن أي غزو أو عدوان بل كان هجوماً بنية الإبادة.

قرطاج يجب أن تدمر
Carthago delenda est

لم تخلُ أي خطبة للسيناتور الروماني كاتو من هذه العبارة، في إحدى الخطب أوقع الرجل على الأرض حبتي تين (الثمر الأفريقي كما كان يسمى، وأفريقيا هو مسمى الرومان لتونس الحالية) من التوغا التي كان يرتديها، وبشكل مسرحي استعرضها أمام الجميع محذراً من خطورة أن يترك الرومان شيئاً كهذا (منتجات ثمينة وما تعنيه من ازدهار اقتصادي) ينمو قبالة سواحلهم، فنجاح القرطاجيين برغم العقوبات بحد ذاته تهديد وجودي للرومان الأمر الذي استدعى الحرب البونية الثالثة.
لسوء حظ قرطاج، فإن الأسطول السري كان متأخراً والنوايا الرومانية في الإبادة لم تتحلل بحسن السلوك الذي أبدته المدينة في وجه العقوبات، وهكذا واجهت المدينة حصاراً فظيعاً شهد تلاحماً شعبياً في وجه العدوان ويقال إن كل مقدرات المدينة وجهت نحو هذا التصدي حتى أن النساء قصصن شعرهن لتحويله إلى حبال وأن كل ما في المدينة تحول إلى ذخيرة عسكرية للتصدي، مع ذلك بعد ثلاث سنوات من الصمود سقطت المدينة ودخلها الرومان وأشعلوا النيران فيها لمدة ستة أيام سعياً في إنهاء الكابوس الذي يؤرقهم بشكل نهائي.
في آخر فصول هذه الملحمة سيلاحق الرومان حنبعل في عرض المتوسط من مدينة لمدينة ومن مملكة لأخرى، وهو في المقابل سيمضي بقية حياته يقدم استشاراته العسكرية في مساعدة كل من يقاوم الرومان، وفي إحدى المعارك البحرية استطاعت مملكة بيثينيا (شرقيّ إسطنبول) الانتصار بالرغم من أسطولها الهزيل، حيث اقتربت سفنهم من الرومان وفي لحظة الاشتباك رمت الرومان بسلال ملأى بالأفاعي فعاثت الفوضى في سفنهم وخسروا المعركة، ولكن ما حدث نبههم إلى أن لا أحد يفكر بهذا الشكل سوى حنبعل، وهكذا استطاع الرومان أخيراً من ملاحقة خصمهم الأزلي وعند محاصرته قام القائد الذي لم يهرب قط من المواجهة من تجرع السم قبل أن تأسره روما وتجره كعبد وغنيمة حرب في شوارعها وتذله في مباريات المصارعة مع إخوته الخصوم من الأسرى أو مع الحيوانات.
الامتثال للعقوبات، لم يتسبب بتدمير قرطاج وهزيمتها للحرب وحسب، بل تسببت بخلق الامبراطورية الرومانية بعد أن كانت روما مجرد قوة إقليمية متخلفة، تعلم الرومان باحتكاكهم هذا الحضارة وتم تمويل التوسع العسكري لهم بالأموال التي دفعتها قرطاج بنفسها، ففي كتابه يشرح فيليب كاي أن ثورة قد غيرت الاقتصاد الروماني بعد الحرب البونية الثانية وهناك دراسة في مجلة GEOCHEMICAL PERSPECTIVES تفيد بأن إصلاحاً نقدياً نتج من هذه الحرب وكان بدوره السبب الذي صان القوة الرومانية لقرون. هكذا جاع القرطاجيون ليسمن الرومان، وتجنبوا الجوع ليواجهوا الإبادة. شعوب كثيرة تجد نفسها اليوم أمام خيارات مماثلة؛ إمّا الامتثال والطاعة وطريق نهايته الجوع، أو قلب الطاولة والمقاومة وعد العدة لها... إن كان العدو آتٍ لقتلك فلا تكن لقمة سائغة.
*خلال فترة علاجه من إصابته في الحرب الروسية - التركية في برلين، تعلم الجنرال كوتوزف عن التكتيكات المستخدمة من قبل جورج واشنطن ضد الإنكليز والتي كانت تسمى بتكتيكات فابيان، والتي سيطورها كوتوزف إلى ما أصبح يعرف اليوم باستراتيجية الأرض المحروقة التي أخرجت الاحتلال النابليوني من روسيا إلى الأبد.

* كاتبة عربية