قد يكون غريباً بعض الشيء أن نتحدث عن صورة طائفة بعينها في لبنان في الإعلام المحليّ - وفي بعض العربيّ الخليجيّ أيضاً - والصورة النمطيّة التي تسعى هذه القنوات الإعلاميّة إلى تكوينها في الوعي العام عن هذه الطائفة، ومجمل شؤونها. لكن قد يزول هذا الاستغراب عندما نعاين مجمل الخطاب الإعلامي لتلك القنوات وغيرها (بعض النخب السياسية على سبيل المثال)، عندما يتعرّض لهذه الطائفة ومناطقها، وعلاقتها بالدولة، وعلمائها، وثقافتها، وشؤون أحوالها الشخصيّة، وتقاليدها، ولهجتها، وقيمها، ومعتقداتها، ولباسها، ومشروعها، والكثير من القضايا ذات الصِّلة بها.إذ يظهر هذا الخطاب سعياً واضحاً إلى بناء صورة نمطيّة عن هذه الطائفة، فيها الكثير من التشويه، والتشنيع، والشيطنة، والتجنّي، والتحامل، والعدوانيّة، والعنصريّة في أكثر من موضع. ولا يقف عند حدود القول إنّ مشروعها يناقض مشروع الدولة، ووصم مقاومتها بالإرهاب، وتحميلها مسؤولية ما آلت إليه الأمور في أكثر من مجال اقتصادي وغيره، بل تصل الأمور إلى حدّ السعي المحموم إلى إلصاق تهم الخروج عن القانون، والفوضى، والفساد (على أنواعه)، ومنطق العصابات، والميليشيوية، والتخلّف المدني في مناطقها، ومجتمعاتها، وصولاً إلى البوح بكون بعض تقاليدها الدّينيّة غريبة عن الاجتماع اللبناني وثقافته، والتعرّض لمؤسساتها ومعتقداتها الدّينيّة، وعلماء الدّين لديها، وأحوالهم الشخصيّة، بطريقة تجافي الواقع، وتفتقر إلى الموضوعيّة الإعلاميّة، والعمل على استغلال أيّ قضية، أو ثغرة، للإضاءة عليها إعلاميّاً، بهدف المزيد من التشنيع والشيطنة.
وهذا الحال ليس جديداً على هذه الطائفة، التي عانت منذ بداية نشوئها الكثير من الظلم والاضطهاد، بما فيه الإعلامي، والذي كان جزءاً من الحرب والعدوان عليها. لا يقف الأمر عند حدود وصمها بالرافضة، هذا المصطلح الذي كان سياسياً بحتاً، يعني في مدلوله المعارضة، والذي قد ينطبق على أيّ جماعة تعارض السلطة، لكنَّه ما لبث أن عُمل على تدويره، وإعطائه بُعداً دينياً، مذهبياً، عنصرياً، بهدف وصم هذه الطائفة، وشيطنتها، تمهيداً لاستباحتها في دمائها، وأموالها، وأعراضها، وهو ما حصل في العديد من حقب التاريخ وفصوله.
إنّ تلك الحملات الإعلاميّة التي كانت تشنّ على المسلمين الشيعة تاريخياً بهدف شيطنتهم ووصمهم، أدّت إلى إيجاد مفاعيل وديناميات اجتماعيّة، دينيّة، مذهبيّة، سياسيّة، وثقافيّة، أخذت تلاحق الشيعة، وتمارس ظلمها عليهم، وتضطهدهم أينما حلّوا، أو ارتحلوا، ومهما بعدت شقّة الزمان عن بدايات ذلك الاضطهاد وبذوره الأولى، وأوجدت سرديات، تنطوي على أكثر من عنصرية تجاه المسلمين الشيعة، بمعزل عن تمظهرها السياسي أو الاجتماعي أو غيره.
وقد دفع الشيعة تاريخيّاً أثماناً غالية جداً نتيجة هذه الدّيناميات من دمائهم، وأعراضهم، وأمنهم، وعيشهم، ومعاناتهم، وعذاباتهم، وأكثر من أذى، وتنمّر، وظلم، وكراهيّة، وعنصريّة، وعدوان ما زال يلاحقهم إلى أيامنا هذه والدهر الّذي نعيش.
وشواهد التّاريخ على ما أقول كثيرة، يكفي أن نشير إلى ما حصل في السنوات القليلة الماضية من قبل الحركات التّكفيريّة وخطابها، وإجرامها في العراق وأفغانستان، وغيرهما من البلدان، حتى يتبيّن أنّ ما نتحدَّث عنه ليس مبالغة في القول، أو نسجاً من خيال، أو مجافاة للواقع.
وأنقل حادثة قد تكون أقرب إلى الطرفة، فقد حدّثني أحد كبار السنّ، أنّهم قبل عقود من الزمن، عندما كانوا يذهبون إلى فلسطين المحتلة - قبل نشوء الكيان الصهيونيّ - للعمل وغيره، كان المسلم الشيعيّ يومها يوصم من قبل البعض بـ«أبو ذَنَب»، أي أنّ له ذَنَباً في مؤخّرة بدنه، لكنه يخفيه في ثيابه، فعندما لم يقتنع محدِّثه بأن لا ذَنَب له، وأصرّ على قوله، ما كان من ذاك المسلم الشيعيّ إلَّا أن خلع سرواله، حتى يري محدِّثه ذاك بالعين المجردة، أن لا ذَنَب له في مؤخرته.
وهذه ليست يتيمة القول، إذ لو ساءلت الذاكرة الشيعيّة، لأنبأتك عن كثير من الأحداث، أو لربما الطرائف التي تكشف عن نمطيّة صورة الشيعي في أكثر من ميدان مجتمعيّ، سواء كانت هذه النمطية متصلة باعتبارات سياسية، أو دينيّة، أو غيرها.
هناك أزمات تمتدّ جذورها عميقاً في الاجتماع اللبناني، والإعلام اللبناني في كثير من خطابه تعبيرٌ عنها، وفي بعضه عامل إضافي على تعميقها، وتهيئة المناخات النفسيّة والاجتماعيّة لإشعالها وتفجيرها


وعليه، إنّ ما يلحظه الوجدان الشيعيّ من تحامل في بعض الإعلام المحليّ والخليجيّ، يستنبش لديهم كل مظالم التّاريخ، وجراحاته التي حُفرت عميقاً في وجدانهم، وهم يدركون أنّ الثمن الذي دفعوه تاريخيّاً نتيجة لمواقفهم وقناعاتهم، يدفعونه اليوم نتيجة للموقع الذي اتّخذوه في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ لوطنهم، ومقارعتهم مشاريع الهيمنة، والتّبعيّة، والاستعمار، والاحتلال، والعدوان في المنطقة، ولذلك يُعمل على استهدافهم، وعلى شيطنتهم، وتُسخّر جهات مؤثّرة، وتوظّف وسائل إعلام بهدف شيطنتهم، وإلحاق الأذى بهم، والإضرار بسمعتهم.
وهم بمقدار ما يتحسّسون من أيّ تجنٍّ أو تحامل عليهم، لما يوقظه في وجدانهم من أكثر من شعور بالمظلوميّة والاضطهاد، فإنّهم في الوقت عينه يملكون الكثير من الحصانة في قبال هذا التهجّم عليهم، والاستهداف لهم، نتيجة ما أكسبتهم إياه سوالف الأيام ومحن الدّهور، من وعي في التّعامل مع هكذا سياسات، ومناعة في مواجهتها، وقدرة على درء أهدافها، ودفع غاياتها.
وهنا ينبعي الإلفات إلى أنَّ ما يحصل من قبل ذلك الخطاب الإعلاميّ:
1- ليس أمراً فاشياً في كل الطوائف، بل هناك تركيز على الطائفة الشيعيّة بعينها.
2- لا يعبّر عن مجرد أخطاء، أو حوادث منفصلة، وإنّما يعبّر بحجمه وطبيعته عن سياسات ممنهجة، واستهداف واضح المعالم.
3- لا يقتصر على البعد السياسيّ وحدوده، وإنّما يتعدّاه إلى الأبعاد الثقافيّة، والاجتماعيّة، والدّينيّة، وغيرها. وهو يغزو حتى عقول بعض النخب التي تفصح عنه أحياناً.
قبل أيام، سمعت وزيراً في الحكومة اللبنانيّة الحالية، يتحدث في أحد البرامج السياسيّة على قناة تلفزيونيّة محليّة، بأنّ بعض التقاليد الّتي يعتمدها الشيعة في احتفالاتهم غريبة عن المجتمع اللبنانيّ. ولا أعلم كيف استطاع معاليه أن يختزل التنوّع الثقافيّ في المجتمع اللبناني بتقاليد معتمدة من قبل مجتمعات بعينها، ليستبعد منه ما ينظر إليه الآخرون على أنّه تعبير عن ثقافتهم، ولا كيف أمكن له أن يحدّد ما هو أصيل، ليميّزه عما هو دخيل على هذا المجتمع، وهل يصحّ منه أن يسهم ولو بشكلٍ غير مقصود في هذا التحامل على الشيعة وصُورتهم؟
ما ينبغي الإلفات إليه، هو أنَّ الخطاب الإعلاميّ الذي يستهدف الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة يمكن القول إنّه:
1- يعدّ نوعاً من التنمّر الإعلاميّ والثقافيّ على هذه الطائفة وقيمها.
2- يسعى إلى تشويه صورتها وشيطنة مكانتها.
3- يعبّر عن نوع عنصريّة وعدوانيّة نحوها.
4- يستنبش من ذاكرتها ما وقع من ظلم عليها، ويعزّز الشعور بالاستهداف لديها.
5- يساعد على هدم ما تبقّى من ثقة ووصل ما بين الطوائف.
6- يزيد من مساحة الفجوات القائمة ما بين الطوائف في لبنان.
7- يذكّي التوتّر الطائفيّ، ويزيد من فرص تحوّله إلى مواجهات طائفيّة.
8- يعزّز الصورة النمطيّة عن الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة وبعض شؤونها.
9- يؤدّي إلى تقوية الطائفيّة وتعزيز حضورها في الوجدان اللبناني.
10- يسهم في الإضرار بالبيئة الاجتماعيّة، وشروطها المطلوبة، لإعادة بناء الدّولة وقيامها، من التّعايش الوطني، والتّماسك المجتمعي في الاجتماع اللبناني، وما ينبغي أن يتوفّر من ثقة بين مكوّناته.
ومن هنا ينبغي القول، إنّ الخطاب الإعلامي يمارس قدراً كبيراً من النفاق، عندما يتسبّب بهذا المستوى من الإضرار بالجسد الوطنيّ، ويسهم في تدمير ما تبقى من دولة، ويعمل على إضعاف شروط قيامها واستعادتها، ويسيء إلى العلاقات بين الطوائف ومجتمعاتها، في الوقت الذي لا يتعب من ترديد لازمة بناء الدولة، ومشروعها، واستعادتها، وإصلاحها، لأنّ الدولة لا تبنى بهدم الثقة بين مكوّناتها، ولأنّ الدولة لا تستعاد بتعزيز العنصرية بين طوائفها، ولأنّ الدولة لا يُسترجع مشروعها بتعميق الطائفية بين فئاتها، ولأنّ الدولة لا تقوى بإشاعة ثقافة التنمّر الثقافي والعدوان القيمي بين شرائحها.
إنّ الوجدان الشيعيّ لا يمكن أن يكون متسامحاً مع أيّ خطاب إعلاميّ يستهدفه، ويستهدف مجتمعه، ومجمل قضاياه، بالتنمّر، والتشويه، والعدوان، وخصوصاً عندما يقارب مقدّساته. وهو ينظر إلى هذا الخطاب على أنّه وجه داخلي لعدوان خارجيّ، كانت حرب تموز 2006 أحد تعابيره، لكنّه ما انفكَّ يعمل من خلال منطق الحرب الهجينة، والناعمة: إعلامياً، وثقافياً، وسوى ذلك، لاستهداف حاضنة المقاومة، وبيئتها.
إنّ من المنطقي أن يكون للإعلام حريّته، وهوامشه، لكن أن يتمّ التلطّي خلف مفهوم الحرّية الإعلاميّة لاستهداف هذه الطائفة أو تلك، والتنمّر عليها، وتشويه صورتها والإضرار بسمعتها، فهنا لا تبقى حرّية، وإنّما تنقلب إلى عدوان على هذه الطائفة، وعلى بناء الدولة واستعادتها، لأنّ الحريّة التي تتفلّت من حدودها، ويُساء استخدامها، إنّما تخرج من حقيقة كونها حريّة، فتغدو ظلماً، وتستحيل عدواناً.
هناك أزمات تمتدّ جذورها عميقاً في الاجتماع اللبناني، والإعلام اللبناني في كثير من خطابه تعبيرٌ عنها، وفي بعضه عامل إضافي على تعميقها، وتهيئة المناخات النفسيّة والاجتماعيّة لإشعالها وتفجيرها. وهذا يعني أنّ من يريد بناء الدّولة واستعادة حضورها، وحماية السّلم الأهلي، والتّعايش الوطنيّ، عليه أن يلتفت إلى الإعلام وخطابه، ليكون تحت القانون، ويراعي القيم الأساس التي يقوم عليها الاجتماع اللبناني، إذ إنّ التفلّت الإعلاميّ في زمن الفوضى، وضعف الدّولة، سوف يكون أقوى ضرراً، وأشدّ خطراً على هذا الاجتماع، وأمنه، ومصالحه، والأمل باستعادة دولته.

* أستاذٌ لمادّة الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة