هذه مراجعة نقديّة لكتاب صدر لفؤاد عجمي (لبناني من أرنون في جنوب لبنان) بعد وفاته، بعنوان «عندما فشلَ السحر: مذكّرات لطفولة لبنانيّة، عالقة بين الشرق والغرب»، والصادرة عن دار نشر «بومباردير» (لم أسمع بها من قبل). وعمل الصهيوني المعروف، ليون وزيلتير، على نشرها (فقد وزيلتير منصبه في مؤسّسة بروكنغر في عام 2017 بعد حملة «وأنا أيضاً» ضد المتحرّشين بالنساء). الحلقة السابقة تناولت قصّة «دلال» المستقاة من الخيال الاستشراقي التقليدي، الذي أحسن فؤاد عجمي مداعبة دوافعه وتوقّعاته. جنوب لبنان كما صوَّره فؤاد عجمي في طفولته كان أشبه بفيلم بورنغرافي، مع أن «دلال» تعرّضت للقتل من قبل أمّها لأنها، حسب وصف عجمي، كانت تُشاهد (من جنوب لبنان) وهي تدخل وتخرج من شقق في شارع الحمراء. الخيانات الزوجيّة كانت جارية على قدم وساق، ومن الطرفيْن، في سرديّة عجمي عن أهل جنوب لبنان. وفي آخر رواية عجمي عن «دلال» يتذكَّر أنه عرفها وأنهما كانا يتبادلان المداعبات والمماحكات اللفظيّة. و«دلال» كانت تحتقر اللغة العربيّة لأنها «نتاج ثقافة قديمة» وأن أسلوبها والإكثار من ذكر الله «رسّخ عقليّة قديمة» (ص. 14). لكن كيف ذلك؟ ما معنى أن اللغة العربيّة هي نتاج ثقافة قديمة؟ كان على العرب في القرن العشرين التخلّي عن لغتهم كي يدخلوا في الحداثة؟ وهل هناك ما لم تكرهه «دلال» في أهل الجنوب (كأن «دلال» أحياناً هي الاسم الحركي لفؤاد عجمي في احتقارها لأهلها)؟
ويذكر عجمي قرية حولا من دون أن يذكر المجزرة الإسرائيليّة فيها في تشرين الأوّل من عام 1948، والتي أودت بحياة أكثر من مئة مدني ومدنيّة. الحياة العربيّة لم تعنِ شيئاً لعجمي (شاهدوا مقابلة عجمي مع داود الشريان حيث يكاد يتفطّر قلبه لموت الجنود الأميركيّين في العراق، كأنّ العراق هو الذي غزا أميركا لا العكس) كما عنت له حياة الإسرائيليّين والأميركيّين، وهذا واحد من جوانب تعريف معنى الصهيوني (أي الذي يعطي قيمة أكبر لحياة الغربيّين والإسرائيليّين، والذي لا يعطي قيمة أبداً لحياة العرب). لا، عجمي يحدّثنا عن أن «الروّاد اليهود» (بالحرف، ص. 16) كانوا يحرثون أرض حولا. ويلفت عجمي إلى أنهم كانوا يعملون رجالاً ونساء معاً، وأن أفخاذ النساء اليهوديّات كانت عارية وأن الجنوبيّين من قرية عجمي كانوا يتلصّصون على النسوة اليهوديّات (وصف عجمي للنساء ذكوري وجنسي). ومشهد أفخاذ اليهوديّات أشارَ، بحسب قول عجمي، إلى «عالم آخر» (طبعاً، هذا الحديث الصهيوني الغربي المعتاد عن اختلاط النساء والرجال اليهود معاً في الحقول مُبالغ فيه وهو يتعلّق فقط بالمهاجرين من الأوروبيّين. هذا الحديث يتجاهل أن اليهود الشرقيّين كانوا، ولا يزالون، متزمّتين ومحافظين، مثل العرب).
وعجمي يعتمد العقيدة الغربيّة التي تحدّث عنها إدوار سعيد: عن أن شهادة الغربي تُعتمد وتُفضَّل دائماً على شهادة العربي، وأنه ليس للعربي من مصداقيّة. الرجل نشأ في جنوب لبنان (قبل أن ينتقل صبيّاً إلى برج حمّود) لكنه في وصفه لجنوب لبنان يعتمد على شهادة الرحّالة البريطاني، ديفيد أوركهارت، لا على معاينته ومعاينة أهله. ينقل عن أوركهارت سؤاله لأهل الجنوب: «عندكم موسيقى هنا؟» وينقل جوابهم: «لا، أبداً. هذه الأمور كانت مزدهرة فيما مضى لكنها اختفت». لكن أوركهارت تحدّث كثيراً عن لبنان في كتاب أفرده له (وهو جالَ في لبنان بين عامي 1849 و1851) ووصف فيه لبنان في العنوان كـ«جبل سوريا». لا ينقل عجمي شهادة أوركهارت في ذم التدخّل الأوروبي في شؤون لبنان، ولا يذكر حديثاً بينه وبين أهل لبنان عندما قالوا له: «كنا نبيع التبغ والحرير ونصنع ملابسنا بأنفسنا. الآن نحن نشتري كل شيء باستثناء العباءات» (راجع كتاب جيفري ناش، «من الإمبراطوريّة إلى الشرق: الرحّالة في الشرق الأوسط، 1830-1826»، ص. 59). وأوركهارت جزم أن المسلمين والمسيحيّين عاشوا بسلام مع بعض في لبنان قبل تدخّل الأوروبيّين في شؤونهم.
عجمي لم يأخذ من أوركهارت إلا التعميم عن غياب الموسيقى مع أن ذلك (أنه كان هناك انقطاع طويل عن الموسيقى في جبل عامل) غير صحيح. لا، عجمي يأخذ هذا القول المنسوب إلى شخص واحد من قبل الرحّالة الغربي كي يحكم على طريقة عتاة المستشرقين المبتذلين أن العرب لا يحفظون أو يفهمون أوقاتاً وتواريخ محدّدة (دائماً يتحدّث عجمي في تعميماته عن العرب عن الرجال، فلا أهميّة للنساء مع أن الكتاب بدأ بقصّة فاجعة «دلال»). الرجال العرب، حسب عجمي، لا يعرفون إلا «حقبات وكتلات من الأوقات». وهذه الفكرة لا تختلف عن فكرة المستشرق الإسرائيلي، رافائيل باتاي في «العقل العربي»، عندما جزمَ أن ليس من صيغة للمستقبل في الحديث العربي لأنهم يعيشون في غياهب الماضي فقط.
في الكتاب نتعرّف إلى خلفيّة عجمي بالنسبة إلى الموقف الشديد العدائيّة (يكفي أن نصف الموقف بالصهيوني، كما في العنوان، لإيصال الفكرة) ضد الشعب الفلسطيني


وبعدما انتهينا من قصّة «دلال» يحدّث المخبر المحلّي، عجمي، القارئ الغربي عن وحشيّة الانسان في جبل عامل. يقول إن الضبع كان مخيفاً في «الوعر» لكن الإنسان كان أوحش منه (وهو يكتب كلمة «الوعر» بالحرف اللاتيني كي يُبهر القارئ، بالرغم من أنه جاهل بالقواعد الأكاديميّة الصارمة لكتابة العربيّة بالحرف اللاتيني، فتصبح كلمة «وعر» وعار). يروي الحكواتي عجمي أن هناك قصصاً عن أطفال كانت تؤخذ إلى الوعر، وتختفي هناك. يحدّث عجمي عن وأد البنات والصبيان معاً في الوعر (حتى في وأد النساء في الجاهلية، هناك تشكيك في شيوع الظاهرة من قبل الأركيولوجيا الحديثة). يضيف عجمي أن «الفتيات اللواتي كنّ يقبّحن شرف العائلة كنّ يؤخذن إلى الوعر». لا يكتفي عجمي بالإبهار إذ يضيف: «وهناك أسطورة عن أن هناك صخرة حيث قام راع بقتل أخته لأنها حادت عن الطريق القويم» (ص. 18). لكن هنا يورد عجمي تفاصيل أكثر ممّا أورد في قصّة «دلال»، إذ يقول إن الراعي المذكور «أخذ شقيقته وذبحها وتركها تموت». يقول عجمي إن أهل أرنون يعرفون مكان تلك الصخرة. مرّة أخرى، لو أن عالم اجتماع كتب بهذه الطريقة عن شائعات وخبريّات عن شعب ما لكانت قامت القيامة ولكانت هناك مطالبة بتقديم توثيق وتدقيق وأدلّة على هذه التعميمات الفظيعة عن سكان منطقة في جنوب لبنان. لا يجرؤ عجمي على الحديث عن يهود فلسطين بهذه الطريقة. على العكس، هو وصف المستوطنين الصهاينة الأوائل بـ«الروّاد» الذين مارسوا المساواة الجندريّة. لكن هذا رجل يتعاطف مع الصليبيّين ضد أهل بلده. يقول عن سنة 1269، إن «المدافعين عن قلعة الشقيف تعرّضوا للذبح بعد حصار قصير». هو طبعاً يتحدّث عن انتصار جيش السلطان بيبرس على عسكر الصليبيّين في القلعة. هذا منهج فؤاد عجمي الذي يبزّ فيه مُعلّمه ومُرشده، برنارد لويس، لأن الأخير أقلّ صفاقة منه في التعابير العنصريّة عن العرب.
لا يكتفي عجمي بذلك بل يضيف إشارة عابرة عن التاريخ الإسلامي الذي هو غير عارف به على الإطلاق. كان مجيد خدّوري، العراقي الذي احتلّ المنصب الذي خلفه فيه عجمي في «كليّة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في جامعة جونز هوبكنز، عليماً بالتاريخ والقانون الإسلامي. عجمي يقول ما يلي: «وكان الغزاة العرب الأوائل، خلفاء الرسول، قد فرضوا الإسلام بحد السيف» (ص. 21). طبعاً، هذه الفكرة عريقة في الاستشراق القديم لكنها لم تعد مُعتبرة أكاديميّاً في التأريخ الغربي الحديث عن الإسلام. وكتب في ذلك المؤرّخ ريتشارد بوليت، «التحوّل إلى الإسلام في القرون الوسطى» وفيه دحض أقاويل استشراقيّة بائدة. لكن عجمي جاهل بأبسط أمور العربيّة والإسلام. هو مثلاً لا يعرف أن القول «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» هو في القرآن (سورة الكهف) فيورده كمثل ويُشوّهه بالقول: الأطفال «زينة الحياة والدنيا» (ص. ٣٧)، ويترجمها بأنها تعني «زينة الحياة والدنيا»، بينما هي تعني الحياة الفانية، في هذه الدنيا.
ويتحدّث عجمي عن أصل عائلته الأعجمي، فيقول إن جدّه كان بالطبع عاجزاً عن لفظ حرف الواو، ويضيف «ليس هناك من فارسي استطاع أن يقبض على ناصية العربيّة». طبعاً، هذه تعميمات مرتبطة بكتابات عجمي، وهي مضحكة لما فيها من إطلاق وغياب أدلة. لا بل إن التعميم فيها يحتّم وجود إثبات بالعكس. قد يكون ابن أرنون لم يسمع بعد بابن المقفع. وعن السنّة يقول عجمي: إنهم لا يزالون يتذكّرون أنه كان «أفضل عندهم قتل شيعي واحد من قتل سبعين مسيحياً». هكذا حوّل كل السنّة إلى قتلة. يقول عن تعنيف النساء من قبل الأزواج في الجنوب: «الرجال كانوا يمارسون ذلك». هكذا، يقرّر عجمي. كل الرجال مُعنّفين. لا استثناء. «الرجال يفعلون ذلك». التعريف بكتابات عجمي هنا يشرح للقارئ أسباب بروز الرجل في واشنطن وأسباب الاعتماد عليه من قبل شلّة المحافظين الجدد.
وفي الكتاب نتعرّف إلى خلفيّة عجمي بالنسبة إلى الموقف الشديد العدائيّة (يكفي أن نصف الموقف بالصهيوني، كما في العنوان، لإيصال الفكرة) ضد الشعب الفلسطيني. للمرّة الأولى نكتشف أن والد فؤاد عجمي كان يهرّب أسلحة «إلى فلسطين» (اللبنانيّون في لندن يتحدّثون عن محمد عجمي، الأخ غير الشقيق لفؤاد، وكيف كان يزهو بصداقته مع شمعون بيريز). يقول إن خبر اعتقال والده وصل إلى العائلة من رفيقه، وإن السلاح كان مصدره يونانياً يخدم في «الفيلق الأجنبي الفرنسي» (وهي ليست إلا فرقة مرتزقة). ألقت القوات البريطانية القبض عليه في تخوم المطلّة في فلسطين. كان ذلك في عام 194٤، زمن احتدام الصراع بين الصهاينة والبريطانيّين. يقول عجمي مستنكراً إن الذين كانوا يتعاملون مع اليهود في ذلك الزمن كانوا يوصفون بالعملاء. لكن لا علاقة ليهوديّتهم بذلك. كان ذلك متعلقاً بكونهم غزاة محتلّين ومسلّحين. لم يكن الشعب الفلسطيني يملك المال كي يشتري السلاح الأوروبي. كان ذلك حكراً على العصابات الصهيونيّة. وكان البريطانيون آنذاك يطبّقون، قدر الإمكان، «الورقة البيضاء» من عام 1939، والتي حاولت أن تخدع العرب وتضبط الهجرة المتفلّتة لليهود. وسمعت من كبار السنّ في قضاء صور أن بعض الفلاحين الفقراء كانوا يساهمون، عبر معرفتهم بطبيعة الأرض، في مرافقة المهاجرين اليهود الذين كانوا يفدون إلى لبنان بغرض الدخول خلسة إلى فلسطين. سألتُ فلاحاً فقيراً مرّة: وكيف تفعل ذلك بأهل فلسطين وأهلك؟ أجابني: إنه العوز. يقول عجمي إنه كان هناك احتمال أن والده كان يبيع السلاح للفلسطينيين وأنه من المحتمل أيضاً أنه كان يبيعه لليهود، لكنه في ما بعد يميل إلى الترجيح الثاني، الذي هو أكثر منطقيّة. وصراعنا ضد العدوّ في عام 1948 لم يكن إلا صراعاً «بين العربي واليهودي في فلسطين» (ص. 52). والتعبير مُغالِط في أكثر من مكان، ليس فقط في ردّ الصراع على طريقة المنظمات الصهيونيّة إلى معاداة عربيّة ضد اليهود، كيهود، بل هو ينسى أن الصراع كان بين مقيمين من السكان الأصليّين ومهاجرين بالقوّة غزوا فلسطين بدعم غربي استعماري لإنشاء وطن بديل عن الوطن الفلسطيني القائم.

خلاص عجمي كان خلاصاً طبقيّاً نشده من تلك السنوات، ومن دون اعتبار لقضيّة. القضايا السياسيّة المحتدمة من حوله لم تعنه أبداً


وينتقل عجمي مع والدته من أرنون إلى محلّة برج حمّود حيث ذاق العذاب وشظف العيش. خلاص عجمي كان خلاصاً طبقيّاً نشده من تلك السنوات، ومن دون اعتبار لقضيّة. القضايا السياسيّة المحتدمة من حوله لم تعنه أبداً. عاش أبوه مع عائلة جديدة في بيت من طابق واحد فيما عاش عجمي مع والدته في غرفة من سقف من الزنك (هو يقول من التنك، لكنه زنك على الأرجح). كان ذلك في برج حمّود. جلبت أمه «بقجة» ثيابها في قماشة بيضاء. وكانت مطلّقة تعيش وحيدة في ضاحية بيروت تنتظر الرأفة من طليقها الظالم. كان أبوه يزهو بمغامراته النسائية. يزعم عجمي أن أباه (ولم يقضِ في المدرسة إلا بضع سنوات) احتفظ بمقالات كتبها في مجلّة «الطريق» الشيوعيّة. انضمّ إلى الحزب الشيوعي وخرج منه، حسب قول عجمي. يقول في وصف العقيدة الشيوعيّة للشيوعيين اللبنانيين إنهم كانوا «يزهون برجولة ستالين». أين قرأ عجمي ذلك؟ ما دليله؟ من هنا واجب التشكيك في كلّ ما يقوله ويذكره. لا يعوّل عليه في شيء. وكتب أبوه مقالة في جريدة «التلغراف» التي كان يملكها اليساري التوجّه، نسيب المتني، الذي أشعل اغتياله (مع عوامل أخرى طبعاً) الحرب الأهليّة في عام 1958.
يكثر عجمي من استعمال كلمات عربيّة لأنه يعلم أن القارئ الغربي لا يميّز بين الصحيح والخطأ فيها. عجمي لا يميّز أحياناً بين المذكّر والمؤنّث في اللغة العربيّة. يقول إن هناك رجلاً كان يوصف بـ«عدنان الكسيحة» (بالحرف، ص. 49). أمّا لقب أبو خشبة الذي اشتهر في شرطة «مجلس النوّاب» في السنوات الأخيرة فتحوّل إلى «أبو خسبة» (ص. 49). الطرحة على الرأس تصبح «طربة» (ص. 56).
سمح العيش في برج حمّود لعجمي بالإقلاع والابتعاد عن كلّ ما يذكّره بأصله وعائلته والوسط الذي نشأ فيه. يجد إثارة في أكل لحم الخنزير، مع أننا نحن الذين نشأنا على الديانة الإسلاميّة تعلّمنا مقت لحم الخنزير مبكراً جداً في سنوات الطفولة. والرجل الذي عاش في وسط من المهاجرين الأرمن، تذمّر من «تسرّب» المهاجرين الفلسطينيّين إلى منطقة برج حمّود. يقول عن النكبة: «اللاجئون الفلسطينيّون الذين هربوا في عام 1948 اعتقاداً منهم أن الجيوش العربيّة المقدامة ستطرد اليهود وتعيدهم إلى منازلهم وقراهم» (ص. 58). هذه الإشارة الخبيثة تتجاهل عن قصد القرائن التاريخيّة التي لم تعد تقبل الجدال والسجال. في سنوات السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات كانت الكتابة الصهيونيّة تجزم أن الشعب الفلسطيني ترك أرضه من تلقاء نفسه ولم يكن لديهم من دليل غير جملة في مذكّرات خالد العظم يقول فيها إن الحكومات العربيّة طلبت من الشعب الفلسطيني مغادرة وطنه. طبعاً، القرينة مشبوهة وجملة في مذكّرات (وحدها، خصوصاً) لا تصلح لكتابة التاريخ. وقد قام باحثان (واحد بريطاني وآخر أميركي من الاستخبارات البحريّة) بدراسة سجلّ الرصد البريطاني للإذاعات العربيّة في زمن 1948 ولم يجدا دليلاً على ما ورد في السرديات الصهيونيّة وفي فقرة في مذكرات خالد العظم (الجزء الثالث، ص. ٣٨٦-٣٨٧). لكن الجملة وردت في المذكرات ليس في سرديّة تأريخيّة بل في سياق سجالي عن تخلّي الحكومات العربيّة عن قضيّة فلسطين. لكن عجمي لا يمكن ألا يكون قد سمع بالمؤرّخين الإسرائيليّين الجدد الذين وجدوا (في عدة أماكن من الأرشيفات الإسرائيليّة) دلائل ووثائق تثبت بالقاطع أن القوات الصهيونيّة نفّذت خططاً موضوعة من قبل لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن ديفيد بن غوريون كان يعطي الأوامر بهذا الشأن (يجمع المؤرّخون الإسرائيليّون على مسؤوليّة الصهاينة عن طرد معظم الشعب الفلسطيني، تُراجع كتابات شبتاي تفث أو بني موريس، أو إلان بابيه من المؤرخين المعارضين لإسرائيل والصهيونيّة. كما أن المؤرّخ الفلسطيني، وليد خالدي، نشر عن «خطة داليت» مبكراً في السيتينيّات). يتجاهل عجمي كل ذلك ليجعل من خروج الشعب الفلسطيني من أرضه مجرّد خطأ في الحسبان من قبل شعب متهوّر. ثم لنفترض أن الشعب الفلسطيني استمع إلى نداءات من الحكومات العربيّة للخروج من موطنه في حالة الحرب، هذا لا يحرم الشعب الفلسطيني من حقّه في العودة ولو خرج من أرضه بسبب الحرب. هذه كأن تقول إن الأوكرانيين الذين خرجوا من أوكرانيا يُحرمون من حقّ العودة لمنازلهم (مع الفارق أن الشعب الفلسطيني لم يخرج طوعاً).
لكن عداء فؤاد عجمي للشعب الفلسطيني متجذّر ومتأصِّل. نكتشف ذلك من خلال الكتاب الذي يغطّي مرحلة صباه في لبنان. يقول إن أمه علّمته ما يلي: «هناك نوعان من الناس لا يمكن الركون إليهم. الشيوعيّون لأنهم لا يؤمنون بالله والفلسطينيّون لأن لا أرضَ لهم» (ص. 59). لا يعلّق عجمي على كلام أمّه ولا يدين. لو قالها عربي ذمّاً باليهود لطلع عجمي على شبكة «سي بي إس» (حيث كان يعمل كخبير محلّف عن الشرق الأوسط) ولكان كتب مقالة تنديد في جريدة «نيويورك تايمز». لا يمكن تحميل الناس آثام وذنوب أهلهم، لكن عجمي يبدو أنه تأثّر بعداء أهله ضد الشعب الفلسطيني، في زمن كان فيه التعاطف مع شعب فلسطين بمثابة الدين في جنوب لبنان. لا ننسى أن أهل الجنوب عرفوا فلسطين أكثر مما عرفها باقي سكّان لبنان. بين الجنوبيّين كان يُقال عن الميسور إنه كان يتغدّى في حيفا ويتعشّى في يافا، أو العكس.

(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@